الرسالة السنوية من رئيس عربي
الرسالة السنوية من رئيس عربي
إلى الجماهير بمناسبة العيد
د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري
على غير عادته . يجلس الرجل على كرسيه المخصصة له في المقهى , منحني الرأس ينظر إلى الأرض , متجهم الوجه , مقطب الجبين , مسمر النظر لنفس المكان الذي أمامه , تظهر تلك الملامح للرائي بأن مفكرنا العظيم غارق في التفكير في أمر جسيم قد أحاط به , يفكر في كيفية التغلب عليه , أو الخروج من مساوئه بأقل التكاليف
يقترب منه صديقه الصحفي ليقدم له التحية ويجلس على مقعد أمامه , مصحوبة بابتسامة عريضة, والمداعبة ببعض الكلمات الخفيفة لعله يخرجه مما هو فيه , وفي نفس الوقت يكون ملهما له في مقالة جديدة
يرفع المفكر رأسه ليرد التحية على صديقه الصحفي ويقول:
هل سمعت رسالة السيد الرئيس بمناسبة العيد , أو أنك اطلعت عليها كونك صحفيا
الصحفي وما الغرابة بالأمر يا صديقي العزيز , وحتى لو أني لم أسمعها أستطيع أن أكتب مقالة طويلة عنها , فقد وعينا أقوالكم وعرفناها منذ الحضانة وحتى الآن لن تتغير , والكلمات الواجب كتابتها يكتبها لنا رجال الأمن الذين كتبوا رسالة الرئيس , ونحن مجرد أسماء صحفية يتوارى وراءها أصحاب الزنازين
فهل من جديد؟
نعم يا صديقي العزيز
نعم هذه الرسالة تختلف عن سوابقها , تختلف بالمعنى والمضمون , هذه الرسالة بالفعل موجهة للجماهير , ومن أجل هذا تراني أغط في تفكير عميق
الصحفي لقد شدني الشوق لمعرفة ما لذي يجول في خاطرك أيها العبقري
اسمع ماذا قال في الرسالة:
أيها الجماهير :
أصبحت أسمع أصوات في الفترة الأخيرة, وهذه الأصوات بدأت تزعجني في نومي , وقبل أن أعاقب أصحاب تلك الأصوات ,ليكون عذري معي وقد أعذر من أنذر , في أن الذي يحيطكم به من ملكي , فلا سبيل أمامكم إلا , التسليم بحكمي وتقبله بكل تفاصيله ,بحسناته ومساوئه وبكل تفاصيله
لأنني حاكم معين من قبل الإله , وأنا خليفته في هذه الديار وأنتم مجرد عبيد عندي , ولست إلا حاكما من الشرق , ومتمسك بالتراث العربي ولن أخرج عن تقاليد القوم , فنحن أبناء المشرق منذ بدء الحضارة , من السومريين إلى البابليين إلى الفراعنة وحتى يومنا هذا , لم أخرج عن تراثهم وطبيعة حكمهم , إلا بعض الحكام في مراحل معينة , خرجوا عن تلك المسيرة , وعددهم قليل جداً , وسيرتي هي مع الكثرة وليست مع القلة
فالحرية والعدالة نحن نزنها بميزاننا , والتفكير والتطور والتقدم نحن من يهتم فيه , فلا تتعبوا أنفسكم بالتفكير , لأننا أُعطينا قداسة وعلما لاهوتي نستطيع أن نفكر ونتدبر نيابة عنكم
وقد أَعذر من أنذر , فلا تزعجوني في نومي بعد الآن
الصحفي وما الجديد في الأمر ؟
إن ما عبر عنه سيادة الرئيس مطبق على واقعنا , وأجيال كثيرة عاشته قبلنا ونحن فيه
الجديد في الأمر أن رسالة الرئيس ذكرتني بالملحمة البابلية , والتي لا يعرف من هو قائلها ولا كاتبها وإنما كتبت في الألف الأخيرة قبل الميلاد والتي كانت بعنوان (لأمتد حنّ رب الحكمة )
فلقد لخص الدكتور (عبد الغفار المكاوي) تلك المحادثة في كتابه جذور الإستبداد بالآتي:
ماذا يفعل الإنسان عندما يجد أن القيم فقدت قيمتها, بعد أن كانت حية ومؤثرة على عهد الأجداد والأسلاف وكيف يتصرف وهو يرى حضارته وهي أزومة تتحشرج في صدرها الأنفاس الأخيره ؟
ويتزاحم عليها النمل والسوس الذي ينخر في أصلها وجذورها والجراد الذي يلتهم الخضار من فروعها وأوراقها , فالطيور تهجر الأعشاش التي بنتها , وتأوي يائسة أو مترفعة لحزنها وصمتها . وعندما ينظر هذا الإنسان الذي تحول إلى شاهد أم على زمنه وأهله , فيهوله الإضطراب والخلل في كل شيء , ويفزعه خلو الساحة لعقارب الخسة والغدر , وكلاب السلب والنهب وقرود الوصولية والإنهزامية , أيبقى أمامه إلا أن يصرخ ويحذر وينذر,أو يسقط في الهاوية التي تتعطل فيها إرادة الحياة , وتشل القدرة على الإختيار , وبادرة الفعل الحر؟ وهل نعجب عندئذ حال ما نجده غارقا في القنوط والتشاؤم , أو سادراً في العبث والسخرية , أو فاتحا ذراعيه لاحتضان العون الأخير , بعد أن غاب عنيٌّ عن كل شيء.
ونحن أمة بُنيت ثقافتها على الطاعة ما قبل الميلاد وحتى الآن , ولا يخلو زمن عندنا مهما تعددت أشكال الحكم فيه, إلا وترى الدعوة فيه إلى العدل , حتى الذين حكموا بالعدل تم التخلص منهم غيلة وغدرا , بينما المستبدون لم يتركوا الحياة إلا بالموت
بينما في الغرب كانت الدعوة للحب والحياة , ومنها بحثوا في الأسباب لتجميل الحياة ووصلوا إلى ما هم عليه الآن
والتصق بنا على مر العصور الظلم والإستبداد , ويؤكد السيد الرئيس في رسالته تلك ما ذهب إليه أكثر فلاسفة الغرب شهرة كأرسطو وهيجل وغيرهما الكثير عن الإستبداد في الشرق
الصحفي متهكما
وهل تريد من سيادته أن يكذب أرسطو وهيجل؟
يتابع المفكر كلامه :
ماذا نعرفه أو كنا نعرفه ؟ ماذا علينا أن نعمل ؟ماذا يحق لنا أن نؤمن به أو نأمل فيه ؟
وأتجاوز كانط وأقول من نحن ؟
نحن من بنو الإنسان , وطالما نحن من البشر فعلينا واجبات كثر , وقمة تلك الواجبات , هو الحصول على العدل ,والعدل لن يكون بقوانين وتشريعات ودساتير فقط , وإنما يكون حقا لكل فرد من أفراد المجتمع كالماء والهواء , وليس ذلك منة من الحاكم أو الملك أو المستبد , فالحكمة هنا تنطبق على قول الشاعر (جوته) هو انه لا يستحق الحرية ولا الحياة والعدل إلا من <<يغزوها>> ويقتحمها ويكافح في سبيلها كل يوم
وعاد المفكر لحالته السابقة العميقة في التفكير بعد أن تركه صديقه الصحفي بدون وداع وكان يهمس ببعض الكلمات في داخله
لن أفعل شيئاً لن أكتب كلمة بعد الآن , لن أبني بيتا ولن أتزوج ولن يكون لي ابنا , حتى لا يكون عبداً مملوكا , ولا يسمع تهديداً ولكي لا يقول :
هذا ما جناه أبي علي ولم أجن على أحد

