الاستبداد في الشام

مقبرة جماعية لكل خيرٍ إنسانيّ

د. محمد بسام يوسف*

[email protected]

حديث المجازر والمقابر الجماعية في سورية.. ليس ذا شجونٍ فحسب، بل هو حديث يحمل أعظم الألم والأسى والحزن والأسف، فالمقابر الجماعية في سورية ليست جسديةً وحسب، بل هي متعدّدة الأشكال والأصناف، عُمرها بعُمْرِ النظام الحاكم، وقد بدأت منذ أكثر من أربعة عقود، ولم تنتهِ حتى الآن، فهي مستمرة باستمرار المستبدِّين، الذين يستبدّون بكل شيءٍ في البلاد، ويطبعون بصماتهم القمعية فوق الأرض وتحتها.. على ظهرها وفي باطنها!..

لعلّ أول شاهدٍ على نفاق ما يُسمى بالعالَم الحُرّ إزاء ممارسات النظام الدمويّ، الذي يحكم سورية ويمتدّ شرّه إلى خارج حدودها.. هو هذا الصمم الدوليّ المفتعَل، الذي يُشكِّل الغطاء المناسب لجرائم هذا النظام الحاكم، ليستمرّ في عَسَفه وتجبّره.. على الرغم من صرخات شعبنا وقواه الوطنية الحرّة، التي ملأت الآفاق والفضاءات!..

إنّ جريمةً عُظمى بحجم مجزرة تدمر أو مجازر حماة المتعاقبة، وغيرها.. ليست جديرةً –وفق سلوك هذا المجتمع الدوليّ الأصمّ- باستثارة ذرّةٍ من ضميرٍ بشريّ.. في الوقت الذي يهبّ فيه الصُّمّ البُكم العُميُ ويستنفرون، للدفاع عن ممرِّضةٍ غربيةٍ مجرمةٍ قتلت –مع سبق الإصرار- عشرات الأطفال الأبرياء بالإيدز في بلدٍ عربيٍّ مسلم!..

النظام الدمويّ في سورية لن يبقى أبد الدهر، بل سيزول أطال الزمن أم قَصُر، وستنتهي مدة صلاحيّتة في خدمة سادته، وستمتدّ الاكتشافات المذهلة إلى باطن التاريخ والأرضِ في سورية، لتظهر للعالَم كله، حقيقةُ حكّامها الجائرين، وطبيعةُ الاستبداد فيها، وأنموذجُ الحكم الدكتاتوريّ، الذي تضيع في ثنايا سجاياه القمعية.. محاكمُ التفتيش، وما انتشر في العصور الوسطى الظلامية من قهرٍ وإجرامٍ في أوروبة والغرب!..

لعلّ التلاعب بالحقيقة وإخفاءها والتمويه عليها والمراوغة للحؤول دون ظهورها.. لعلّ ذلك في نهجِ النظام الأحاديّ.. هو المقبرة الأولى في البلاد، طوال عشرات السنين من تاريخه السلطويّ الأسود، فالحقيقة في عهد هذا النظام لها مجازر ومقابر!..

في سورية المنكوبة بالاستبداد والنظام الشموليّ الاستئصاليّ، كل جانبٍ من جوانب الحياة له مجازر، وكل المجازر لها مقابر، وكل المقابر يتستّر عليها نظام الحُكم المستبدّ، بغطاءٍ دوليٍّ وإرهابٍ مخابراتيٍّ داخليّ، ويُبرّرها الحكام الشموليونّ، بضرورة السير على النهج الثوريّ المستمَدّ من مناهج الثورات الشرقية الحمراء الآفلة، في تصفية (أعداء الثورة) وخصومها وذوي الآراء المخالفة لها، الذين يتحرّكون و(يتآمرون)، حسب مزاعمهم، لينالوا من (صمود) النظام و(ممانعته)!.. و(تصدّيه) للهجمات (الإمبريالية) التآمرية المزعومة.. وكل تلك المجازر ومقابرها لها قوانين ودساتير، صُنِعَت خصّيصاً للاستمرار في الاستبداد، وممارسة الباطل والفساد متعدّد الأشكال، ولم يَعُد مُستَغرباً أن يكونَ الناطق الأول بهذه الحقيقة، هو الضابط (حافظ أسد)، حين أطلقها من ثكنة (الشرفة) في حماة عام 1964م: (سنُصفّي خصومَنا جسدياً)، وذلك قبل انقضاضه على كرسيّ الحكم بست سنوات، ليشتدّ بعدها ليلُ سورية اسوداداً وظلاماً!..

*     *     *

كان (نزار قباني) يتغنّى بدمشق، ويصفها أجمل وصف، فتلهف لها القلوب، وتستوعب حقيقتها العقول، وتستنفر لها كل الأحاسيس المرهَفَة، فتراه يقول:

قمرٌ دمشقيٌ يُسافرُ في دمي = وبلابلٌ.. وسنابلٌ.. وقِبَابُ

الفُلُّ يبدأ مـــــــــن دمشقَ بياضَهُ = وبِعِطرِها تتعطّرُ الأطيـــــــــــــــابُ

إلى أن يقول:

والماءُ يبدأُ من دمشقَ.. فحيثُما = أسندتَ رأسكَ، جَدولٌ ينسابُ

ولم يخطر في بال القباني يومها، أن يأتيَ يومٌ على الشام، لُتحرِّفَ الفئة الحاكمة مقولتَه الشعرية المتألّقة إلى: (.. فحيثُما = أسندتَ رأسكَ، مَقْبَرٌ يرتابُ)!.. مع أنّ الشاعر الكبير يستدركُ في القصيدة إياها، ليصفَ الحال، والحال هي دائماً مستمدَّة من بغي الحاكمين باسم (الوحدة والحرية)، على هذا الشعب السوريّ المنكوب بهم:

من أينَ يأتي الشِّعرُ.. حيَن نَهارُنــا = قَمعٌ، وحينَ مساؤنا إرهابُ

سَرَقوا أصابِعَنا وعِطرَ حُــــروفِنـــــــــــــــــــــــــــا = فبأيِّ شيءٍ يَكتبُ الكُتّابُ؟!..

ثم يختم (نزار) وصفه لطبيعة الحال السورية، بكلامه الجامع:

والحُكمُ شُرطيٌّ يسيرُ وراءَنا = سِرّاً.. فنكهةُ خُبزِنا استجوابُ!..

هي ذي القضية إذن، حُكمٌ متجبِّر، يتحكم بالبلاد والعباد، ويتدخّل في كل شؤونهم العامة والخاصة، ليصوغَها على قوالب الحزب الأحاديّ الحاكم، وعلى نُمرة الفئة الحاكمة، التي اغتصبت السلطة منذ صبيحة الثامن من آذار لعام 1963م.. حُكمٌ لم يصنع لنا إلا المجازر والمقابر، التي ملأت كلَّ مكانٍ وزاويةٍ في الوطن الحبيب، ووقف أربابها إلى جوارها أو فوقها، يتراقصون على أشلائنا، ويَسكرون بدمائنا، ويُعَربِدون على قِيَمنا وأسسِ الحياة الفاضلةِ في شآمنا!..

*     *     *

في سورية، مجازر من نوعٍ فريد، وكل المجازر فيها لها مقابر!.. فلسِلك (التعليم) مجزرة، راح ضحيّتها آلاف المعلّمين وأساتذة الجامعات من غير المنتمين إلى الحزب الحاكم، قُبِروا أحياء في غَيابة الإهمال والإقصاء وضياع لقمة العَيش.. ولسِلك (القضاء) مجازره، وضحاياها مئات القضاة الأكفياء، الذين دُفِنوا في غياهبِ الحياة القمعية، وحوربوا بكل الوسائل الوضيعة.. و(للنقابات المهنية) مجازر ومقابر، بمرسومٍ جمهوريٍ أُطلِقَ عنانه بتاريخ: (8/4/1980م).. و(للدستور) مجزرة ومقبرة، شُيِّدَ على جنباتها دستور البعث الضامن لاستمرار التسلّط والاستبداد والحُكم الأحاديّ.. و(للقوانين المدنية والقضائية) مجازر ومقابر، بُنيَ على أنقاضها قانون الطوارئ والأحكام العُرفية والقانون القاتل رقم (49) لعام 1980م.. و(للمحاكم المدنية) مجازر ومقابر، أقيمت على أنقاضها محاكم أمن الدولة الاستثنائية والمحاكم العسكرية الميدانية.. و(للمجتمع المدنيّ) ومؤسّساته مجازر ومقابر، حَلّت محلّها تشكيلات الحزب الأسديّ ومنظماته الشوهاء وبصماته المشوَّهة.. و(للمدارس الشرعية) مجازر ومقابر، دُفِنَت فيها القِيَم الإسلامية الخالصة، لتشغل مكانها قِيَمُ الطائفيين الكارثية ومؤامراتهم الدنيئة.. و(للحجاب الإسلاميّ) مجازر ومقابر، دُفِنَت فيها الفضيلة والعِفَة والطُهر.. و(للطفل السوريّ) نصيبه من المجازر والمقابر، التي دُفِنَت فيها براءته وفطرته الربانية السليمة، فرُبِّيَ في منظمات الحزب الأسديّ -رغم أنف أهله- على القِيَمِ القمعيّة البوليسيّة، فحُرِّضَ الولد على أبيه، وحُرِّضَت البنتُ على أمها، والشقيق على شقيقه، وابن العشيرة على شيخه، والتلميذ على معلّمه، والجارُ على جاره، والصديق على صديقه.. و(للوحدة والحرية) مجزرة.. فمقبرة، إذ صارتا بفعل الجزّار الحاكم أبعد من (دَرْب التبّان).. و(للاقتصاد) مجزرة ومقبرة، قام عليها فاسدو النظام الحاكم  ووصوليّوهم.. فدُفِن فيها كل قرشٍ حلال، وكل خُلُقٍ وطنيٍ طاهرٍ كريم.. و(للسياسة) مجزرة ومقبرة، سُجِّيَ فيها كل إخلاصٍ للوطن والشعب، وحَل مَحلّه اللّعب على جراح الوطن، وفق قانون بيع الشرف وشراء الرضى الصهيونيّ والدوليّ، وكذلك البهلوانيات السياسية، من أجل الحفاظ على كرسيّ الحُكم.. و(للأمن والأمان) مجازر ومقابر لا تُحصى، دُفِنَ فيها استقرار المواطن والوطن، وحَلّت محله البلطجة المخابراتية والقمع والقلق والرعب والقهر والخوف.. و(لأرض الوطن) مجزرة ومقبرة، دُفِنَ فيها الجولان المحتل، ونام الدفّانون قريري العيون، يحمون العدوَّ الصهيونيّ.. ويحميهم، ويشترون كراسيّهم باللعب على حبال خرافة (التوازن الاستراتيجيّ) تارةً، ومتاهة (الخيار الاستراتيجيّ) تاراتٍ وتارات!..

*     *     *

في سورية، مجازر لا تُعَدّ، ومقابر لا تُحصى، ولعلّ أهونها (على بشاعتها وفظاعتها وشدة إجرامها) المجازر الجسدية التي راح ضحيّتها عشرات الآلاف من أبناء الوطن السوريّ الأبرياء، في تدمر وحماة وجسر الشغور وحلب وحمص واللاذقية وإدلب ودمشق والقامشلي ودير الزور، وفي كل السجون والمعتقلات، المنتشرة في طول الوطن وعَرضه، التي ابتلعت عشرات الآلاف من خيرة أبناء سورية الجريحة!..

*     *     *

الحديث عن مجازر الفئة الحاكمة ومقابرها الجماعية.. طويل ذو شجونٍ وشجون، تدفعنا لنقدّم كل ما قلناه، وما سنقوله.. هديةً إلى أولئك الواهمين، الذين تهزّهم كلمة حرّة لمستَضعَفٍ جريح، ولا تحرِّك كلُ منتجات الاستبداد غيرَتَهم على دينهم ووطنهم وآخرتهم التي سيلقون الله عزّ وجلّ عليها، وتتجمّد كل أحاسيسهم عند قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (.. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ.. كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ) (رواه مسلم)..

سينتهي الظلم في سورية بإذن الله، وسيأفل الباطل، تقريراً لسنن الله عزّ وجلّ في أرضه وعباده، وذلك بإصرار المضطهَدين على انتزاع حقوقهم المشروعة والتحرّر من العبودية لغير الله عزّ وجلّ، وذلك مهما حاول الأرباب المزيّفون وعبيدهم تزوير الحقائق، وتزييف الوجه القبيح لنظام المجازر.. المجازر متعدّدة الأشكال والألوان، التي يندى لها جبين كل إنسانٍ سويّ العقل والمبدأ والعقيدة.. والشرف والضمير والأخلاق!..

(.. وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) (طـه: من الآية97).

               

*    عضو مؤسِّس في رابطة أدباء الشام