صدى بيروت في عمان

صدى بيروت في عمان

أسئلة المواطنة والديمقراطية

محمد أبو رمان

كالعادة؛ يشهد الشارع الأردني وجدالات نخبه السياسية والإعلامية استقطاباً واصطفافاً حادّاً في الموقف من مواجهات بيروت الأخيرة.

صدى عمان لأحداث بيروت ذو نكهة خاصّة! فالدولة والمعارضة تتعاملان مع الأحداث الجارية وكأنّها صراع بينهما، لا في بيروت. لكن الفارق أنّ موقف الدولة -للأمانة- أكثر اتزاناً واعتدالاً يتحدث بلغة تدعو إلى الحل السلمي الداخلي والحوار والهدوء، بينما موقف المعارضة هو أقرب إلى "خطاب حرب" ودعوة إلى "التكسير" منه إلى خطاب عقلاني ديمقراطي!

لن نخوض في أحداث بيروت؛ إلاّ من زاوية "القراءة الأردنية"، وسوف أقف هنا مع بيان أصدرته شخصيات سياسية أردنية، أبرقت إلى "المعارضة المسلحة" في لبنان تؤيد ضمنياً ما قامت به وتعتبره جزءاً من معركة تدور بين "قوى المقاومة والمواجهة والاستشهاد وبين قوى الهيمنة والأمركة والتهويد والاستسلام". ويعلنون بصورة حاسمة تأييدهم لنصر الله: "إننا نتشرف بأن نعلن بأعلى صوت أننا نعتبر أنفسنا جزءاً لا يتجزأ من المقاومة للمشروع الصهيوني الأميركي بقيادة حزب الله وبقيادة سماحة السيد حسن نصر الله".

أوّل ما يلفت الانتباه في هذا البيان "الثوري" أنّه ألغى مشروعية الحكومة والدولة اللبنانية على السواء؛ فاعتبر الحكومة الممثلة بأكثرية نيابية جزءاً من معسكر الصهينة والأمركة والعمالة، وما شئتم من ألفاظ التخوين والتشكيك، وهي أحكام - إذا صحّت- فإنّ ما قام به حزب الله، باستباحة بيروت بالسلاح، يعتبر "عملاً وطنياً" شريفاً، نتغنى به، وانتصارا عظيما، ضد "قوى عميلة" للخارج!

لنتساءل – في ضوء هذا المنطق السياسي- ماذا عن "ِشَعْب الأكثرية" (السنة والدروز والمسيحيين باستثناء جماعة الجنرال عون) هل هم جزء أيضاً من "مشروع الخيانة"! فمن يؤيد الخائن هو خائن، أليس كذلك؟! إذن فنحن نخوّن أكثرية اللبنانيين ونبيح لأقلية استباحتهم واستخدام السلاح ضدهم، بذريعة "العلاقة مع أميركا"، فلا قيمة لمعنى المواطنة والسلم الأهلي ولا قيمة للعملية السياسية الداخلية والمؤسسات الدستورية طالما أنّنا نتحدث عن عملاء ومقاومين!

هذا المنطق يتجاوز أيضاً مفهوم الدولة ويصادر الوطن لصالح "اللعبة الدولية والإقليمية"، طالما أنّه يلغي مضامين الخلاف الداخلي كافة ويتجاوز عن كل المسائل الداخلية. يؤكد هذه القراءة أحد كتّابنا الذي يتحدث عن استحالة "تحييد" لبنان في المعركة الإقليمية، بمعنى أنّ المعارضة الأردنية ليست لديها مشكلة في أن تدفع بيروت الوادعة السالمة ثمن أمنها واقتصادها ورفاهها لعيون إيران أو أميركا أو سورية.

ما يؤكد "المنطق الدموي" لبيان الشخصيات الأردنية أنّه لم يأتِ من قريب أو بعيد على ذكر ما تمّ من "تجاوزات" هائلة من حزب الله؛ أولاً استخدام السلاح في معادلة داخلية، ثانياً إحراق مؤسسات إعلامية، ثالثاً قتل مدنيين وأبرياء، رابعاً اعتداء على صور رموز في الحكومة والطرف الآخر. فهذه الأحداث، التي تخلع مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة من أساسها، لا قيمة لها في مهب "المعركة الكبرى".

هو المنطق نفسه (بل الأسماء والشعارات نفسها) الذي كان يبرر لصدام حسين دكتاتورية دمرت نسيج المجتمع العراقي ومهّدت للمشاعر "الطائفية"، التي لعب عليها الاحتلال لاحقاً، وهو المنطق نفسه الذي يتغاضى عن قمع النظام السوري لكل أشكال الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة وكل ذلك بذريعة مواجهة "المشروع الامبريالي" أو "الصهيوني" أو "الأميركي". ولا أعلم متى نتعلّم الدرس: أنّ الإنسان المرعوب لا يصنع انتصاراً والمجتمع المنقسم على نفسه طائفياً وعرقياً هو أشبه ببيت العنكبوت.

يغيب تماماً عن قراءة "المعارضة الأردنية" الدور الإيراني التخريبي في العراق ولبنان، ولا تقرأ المعارضة الأردنية بيانات فصائل المقاومة العراقية التي تتحدّث عن احتلال إيراني أخطر من الاحتلال الأميركي وعن عمليات تطهير طائفي وقتل على الهوية وتغيير لهوية بغداد.. كل هذا لا يهم (العراق، لبنان،..) في مواجهة "المشروع الأميركي- الصهيوني".

لكن هل يقول لنا "سياسيوّنا"؛ كيف لدولٍ أن تكون مع أميركا وإسرائيل في حربي أفغانستان والعراق وقبل ذلك في حرب الخليج الأولى ثم تصبح فيما بعد عدوة لهما في فلسطين حصرياً؟ وماذا قدمت هذه الدول لفلسطين غير شعارات لا تسمن ولا تغني من جوع! وبالمنطق نفسه هل تضيع بغداد وبيروت، وربما غيرهما لاحقاً، بذريعة "شعارات تحرير فلسطين"!

بإسقاط بيان الشخصيات الأردنية نفسه على الواقع الأردني؛ فإنّ الحكومة الأردنية هي المستفيد الأول من ذلك؛ لأنّ هذا المنطق يبيح لها أن تقوم بما قامت به في الانتخابات البلدية والنيابية لا بل وأن تكسّر القوى المؤيدة لحماس وسورية وحزب الله وأن تزج بها في السجون، طالما أنّها من "أعداء الوطن" وجزء من "المعسكر الآخر" في المنطقة؟!

فوق ذلك؛ فإنّ هذا المنطق، بخاصة أنّ بني ارشيد وقع على البيان بصفته أميناً عاماً لجبهة العمل الإسلامي، يطرح تساؤلات حقيقية وجدية عن مدى إيمان المعارضة الإسلامية بالعملية الديمقراطية وبالعمل السلمي، بعد تأييدها لما قام به حزب الله ..

هو منطق عام يسود للأسف، ونقرؤه في خطاب تيار واسع من النخب السياسية الحكومية والمعارضة، ولدى شريحة واسعة من الرأي العام معبأة إعلامياً، فحوى هذا المنطق: لا قيمة للديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة، كلها عناوين ثانوية، في مهب معركة كبرى، سواء كانت بعناوين أمنية أم أيديولوجية، ما نزال نعيش فصولها الدموية منذ عقود وبذريعتها نغتال بأنفسنا إنسانيتنا وحريتنا وحقوقنا، ولا نأخذ منها إلاّ الشعارات والخطابات، ومزيداً من الخراب، ويعيش عليها من يتقنون جيّداً فن العزف على العواطف والغرائز!