مقسوم لا تاكل

صلاح حميدة

[email protected]

" مقسوم لا تأكل.. وصحيح لا تقسم.. وكل لتشبع"  مثل شعبي فلسطيني يختصر المطالب التعجيزية التي تطرح من الخبيث أمام الجائع المحروم، والتي في محصّلتها لا تؤدّي لحل مشكلة الجائع المظلوم بأخذ ما يحتاج.

قد يكون واقع قطاع غزة تحت الحصار هذه الأيام مشابها لحال الجائع الذي يقف أمام رغيف خبز الذي قيل عنه المثل الشعبي، فالقطاع عاش تحت وطأة حصار بشع استمر لسنوات، ولا زال القطاع يعيش تحت وطأة الحصار بالرغم من الحراك الذي يجري حالياً في عواصم العالم، والذي  يؤشّر إلى نوايا لإدامة وتجميل الحصار وليس رفعه وحل المسألة من جذورها.

ما يميّز حصار غزة أنّ الرّاغبين برفعه هم القلة القليلة من الدول والكثرة الكثيرة من الحركات الشعبية والحقوقية، ولا زالت أطراف فاعلة تستميت في سبيل منع رفع الحصار عن القطاع، مما يضع الغزّيين والمراقبين في حيرة من أمرهم عن الخيارات المطروحة التي يريدون تسميتها رفع أو تخفيف الحصار؟!.

على رأس الرّافضين  لرفع الحصار يقف من يفرضونه بشكل مباشر وهي الدّولة العبرية، ويدرك ساسة هذه الدّولة أنّ مشروع المقاومة الفلسطينية على أرض غزة يمثّل تهديداً إستراتيجياً لدولتهم، وأنّ قطاع غزة بصموده أمام الحصار والحرب التي شنت عليه أصبح رقماً صعباً في معادلة الصّراع ويمثّل صداعاً مزمناً لهم، وكل يوم تشرق فيه الشّمس على قطاع غزة تزداد شوكة المقاومة هناك صلابة وقوة، وأنّ هذا المشروع أصبح حقيقة واقعة يستحيل التّخلّص منها وفق المعطيات الحالية.

ولكن ما العمل؟ يقع ساسة الدولة العبرية في حيرة، فالشّعب الفلسطيني رفض الثّورة على المقاومة الفلسطينية بالرّغم من عيشه تحت حصار لا مثيل له في التاريخ، وكلما تمّ التضييق عليهم أكثر زادوا تمسّكاً بحقوقهم أكثر، وكان أمل الدّولة العبرية أن يستمر الحصار حتى الإستسلام أو الفناء ولا خيار غير ذلك، ولكن مجزرة أسطول الحرية قلبت كل حسابات هؤلاء، فقد طرحت قضية رفع الحصار على نار حامية وأحرجت كل الأطراف المتواطئة والمشاركة في الحصار، وكان لا بد من فعل شيء، حتى الآن يماطل الساسة الإسرائيليون في كيفية الخطوات التي سيتخذونها في سبيل ما يسمّونه تخفيف الحصار، مع  بعض البالونات الاختبارية التي يطرحون من خلالها إلقاء القطاع في وجه مصر، إلى السماح  بفصل غزة نهائياً عن الإحتلال وفتح حدودها البحرية على العالم، إلى رفض فتح حدود غزة البحرية وإبقاء الحدود البرية ومعابرها التي تمثّل المصفاة التي يتم العمل حالياً على تطويرها لتحديد المواد الممنوعة من الدّخول للقطاع، وهذا قد يكون الخيار النّهائي تحت الضّغط الشعبي الدّولي.

أمّا النّظام المصري فيعيش هو الآخر مشكلة مركّبة في طبيعة التعامل مع الحصار على القطاع، فالنّظام -أولاً وأخيراً- يعتبر أنّ التعايش مع حكومة إسلامية التوجه في قطاع غزة أو في أي دولة عربية وإسلامية من المستحيلات، ويرى أنّ التحالف مع "إسرائيل" في سبيل ذلك من التكاليف الشرعية، ويرفض الإعتراف بنتائج الإنتخابات الفلسطينية  منذ البداية وشارك في كل الجهود الهادفة لإجهاض التجربة الدّيمقراطية الوليدة ووءدها في مهدها، بل شنّ حرباً شرسة على خطوط  إمداد المقاومة بالسّلاح، ثم انتقل ذلك للحرب على المواد الغذائية والإحتياجات العينية ومواد البناء والوقود وحتى ألعاب الأطفال، وعمل مع الأمريكان والفرنسيين على إقامة الجدار التحت أرضي الذي أصبح مثل الجبنة السويسرية من كثرة الثقوب التي أحدثها الفلسطينيون فيه مما دفع الأمريكان لوقف بنائه.

شمس مجزرة الحرية وموقف تركيا الرّسمي وضع النّظام المصري في موقف محرج أمام الشعب المصري والعالم العربي والإسلامي، فقد ظهر بوضوح متلبّساً بجرم التآمر والحصار والحرب على القطاع المحاصر، وكان لا بد من مخرج لهذا الموضوع يحقق عدة نقاط...

* تتمثّل الأولى في منع الإعتراف الدّولي بحركة حماس وبنتائج الإنتخابات الفلسطينية، ورفض التعامل المباشر معها من أي طرف دولي مهما كانت درجة التواصل وإبقاء ذلك عبر وسطاء أو عبر قنوات أمنية متدنية المستوى أو عبر لقاءات غير رسمية.

* منع رفع الحصار عن القطاع بشكل كامل وخاصة من قبل البحر وإبقاء المعابر الإسرائيلية هي المعابر التي يتاجر الفلسطينيون من خلالها استيراداً وتصديراً، وأن يقتصر دور معبر رفح على تنقّل الأفراد الذين يسمح لهم الأمن المصري بالسفر بعد دفع أتاوات مالية، كما نقل عن مسافرين فلسطينين عبروا من قطاع غزة.

*منع أي دور في إعادة البناء في قطاع غزة للحكومة هناك، وهو ما عبّر عنه أمين عام جامعة الدول العربية الذي يعتبره الكثير من المحللين موظفاً في وزارة الخارجية المصرية، وبالتالي هناك معضلة يواجهها من يحاصرون القطاع حول الكيفية التي ستدار فيها إعادة إعمار القطاع.

*مواصلة الحرب على إمدادات السلاح للمقاومة الفلسطينية وكل فترة تعلن المخابرات المصرية عن ضبط قذائف وأسلحة ومتفجرات في سيناء كانت معدّة للتهريب لقطاع غزة، إضافة لاعتقال كل من يشتبه بعلاقته بالمقاومة الفلسطينية من المسافرين عبر رفح والبقية معروفة عن الإستقبال الذي يعدّ لهم هناك.

الطّرف الثاني من الإنقسام الفلسطيني يعلن أنّه مع رفع الحصار هذه الأيام، ولكن تحت إشراف الحكومة المعيّنة في رام الله، بل يرفض فتح ميناء غزة أمام السفن بشكل مباشر، ويصر على أن يكون التبادل التجاري عن طريق المعابر البرية مع الإحتلال، ولا يعتبر أنّ معبر رفح  يقع ضمن المعابر المطلوب منها رفع الحصار، بل يصر والمصريون على إعادة العمل باتفاقية العام 2005م لتشغيل المعبر تحت الرقابة الأوروبية المباشرة والكاميرات الإسرائيلية التي كانت تراقب كل شاردة وواردة هناك، وهذا يربطونه بتوقيع حركة حماس ورقة المخابرات المصرية.

يربط أصحاب هذا الرّأي موقفهم هذا من الحصار بمنع انفصال القطاع نهائياً عن مشروعهم السياسي التفاوضي الذي يعتبرون أنه سيفضي لدولة فلسطينية في الضفة والقطاع في النهاية، ويعتبرون أنّ المدخل لرفع الحصار بشكل كلي عن القطاع يجب أن يأتي عبر توقيع حركة حماس على ورقة المخابرات المصرية، وحماس تعلن رفضها للتوقيع على الورقة المصرية لأسباب كثيرة أعلنتها مراراً، وتعلن فوق ذلك أنّها لن ترضخ تحت الحصار بشقيه الإنساني والسياسي، بل هناك من يتساءل عن جدوى البقاء تحت رحمة الإحتلال مع إمكانية التّخلّص منها؟ وهل تحرر غزة سيقوّي الضّفة أم سيجعلها لقمة سائغة بيد الإحتلال؟ وهل عافية غزة تضرّ الضّفة؟ وهل التمثيل السياسي لقطاع غزة مقدم على تحريرها؟ وهذه كلها يطرحها الكاتب الفتحاوي زكريا محمد في مقال بعنوان (غزة تتحول إلى عقدة الميزان).

يأتي هنا دور حكومة المقاومة في القطاع وموقفها ومناصريها من الحصار ومن الحراك الذي يتم، من الواضح انّ هناك سعي لتهميش وعزل المقاومة الفلسطينية من أيّ اتصالات سياسية، ولكن تبقى هي الحاضر المغيّب والرّقم الذي يضعه جميع الأطراف في حساباتهم، وأعلنت الحكومة في غزة عن رفضها لأيّ تجميل للحصار على حساب رفعه نهائياً، وهي تصر على فتح جميع المعابر بما فيها معبر رفح، ولكن من المؤكّد أنّها تفضّل فتح ميناء غزة لكسر الحصار نهائياً، وتكمن أهميّة ورقة الميناء بأنّها تحرق كافّة أوراق الضغط على المقاومة من باب ابتزازها بمعاناة النّاس في العيش والتنقّل والتجارة والتواصل مع العالم، وبالتالي سيقف من يحاصرونها الآن عاجزين أمام الواقع الجديد المتمثّل بقطاع غزة المحرر المتصل بحريّة مع العالم، والذّي سيشكل رأس جسر وحجر زاوية في تطوير المقاومة الفلسطينية ونجاح تجربتها في المزاوجة بين الحكم والمقاومة، ولذلك هناك إجماع من كل الأطراف التي تناصب المقاومة العداء على رفض فتح ميناء غزة تحت أي ظرف.

هذا الرفض لفتح الميناء وضع تلك الأطراف أمام ضغط رفع أو تخفيف الحصار، وهذا في محصّلته لن يضرّ المقاومة الفلسطينية، بل هو محصّلة صمودها والمحاصرين معها ومن حولها، إضافة لمحصلة نضال وتضحيات المتضامنين معها، فالحصار هدف بشكل رئيس لتيئيس الشعب الفلسطيني ودفعه للثورة على الحكومة في غزة، فكل تخفيف للحصار سيصب حتماً لصالح الحكومة التي لم يثر عليها الناس في أسوأ الأحوال فكيف عندما تسير الأوضاع نحو الأفضل؟ ولهذا التخفيف من الحصار نتائج أهمّها تخفيف العبء عن المقاومة في الإهتمام بتوفير احتياجات النّاس، وبغضّ النّظر عن طبيعة الإشراف على المواد كالإسمنت والحديد فهي في المحصّلة ستحل مأساة يعيشها عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين هدمت بيوتهم في الحرب، كما أنّ الإسمنت المهرب متوفّر في القطاع  ويباع على الأرصفة ومن يبني التّحصينات لن يحتاج للإسمنت الإسرائيلي فقد بنى ما يريد بالإسمنت المصري كما قال الكاتب الغزّاوي فايز أبو شمالة. يضاف إلى ذلك إنّ تخفيف الحصار سيحيي قطاعات واسعة من الإقتصاد المحلّي، وسيفتح الباب  لحل مشكلة البطالة التي يعيشها الاف العمّال، أمّا المواد الممنوعة من الدّخول للقطاع فسيركّز المهرّبون على تهريبها إلى القطاع بعد أن كانوا يهرّبون كل شيء، إضافة لفوائد أخرى كثيرة.

أمّا فيما يخصّ العزل السياسي للمقاومة الفلسطينية، فهي تعيش في عزلة دبلوماسية مقنّعة منذ فترة طويلة، ولكن هذه العزلة بدأت بالتفكك قبل وبعد مجزرة الحرية،  ولن يلبث من بدأوا بالنّزول عن شجرة الحصار- بخطوات التخفيف منه- أنّ ينزلوا عن شجرة العزل السياسي فيما بعد، وقد  يتم فتح ملف الأسير جلعاد شاليت وصفقة التبادل من جديد بعد أن فشلت ورقة الحصار في في الضّغط لإطلاق سراحه، وفوق ذلك كله وصل كل من يدعم المقاومة الفلسطينية من العرب والمسلمين ومن العالم لقناعة راسخة أنّه راهن على الحصان الرّابح الذي لا يلين أمام الضّغوطات العالمية مهما بلغت التّضحيات، ويحقق الإنجازات في ظل ظروف مستحيلة.

وتأتي هنا قضية السلاح الذي يعلن من يحاصرون القطاع عن خوفهم من تصنيعه بفعل المواد المستوردة عبر معابر الإحتلال، فالسلاح - كما تعلن المقاومة - لم يدخل عبر المعابر من قبل ولا يعتقد أنّه سيدخل من خلالها من بعد، وتصنيع السلاح مستمر قبل الحصار وخلاله وربّما بعد تخفيفه، والواقع يتحدّث عن نفسه في الحرب الأخيرة على غزة التي أثبتت أنّ المقاومة تتسلح بصواريخ متنوعة فاجأت الإحتلال بالرغم من الحرب على خطوط إمداد السلاح من طهران ودمشق وبيروت حتى غزة.

يحاول من يحاصرون غزة وضعها والنّخب السياسية فيها أمام خيارات مستحيلة، يتداخل فيها الإنساني مع السّياسي، وتطرح فيها حلول المشاكل الرّاهنة في قطاع غزة، وترهن بالتوقيع  على شروط الرّباعية التي لها مداخل عدة كالورقة المخابراتية المصرية، ولكن الواقع في القطاع يعمل وسيعمل لصالح المقاومة وكل ما يفعل ضدّها يأتي باثر عكسي على من يحاصرون القطاع، فهي لا تقف أمام خيارات ( مقسوم لا تاكل.. وصحيح لا تقسم) فقط، بل لديها أوراق رابحة تمثّلت بالصّمود الأسطوري أمام الحرب والحصار، بل لن يمضي وقت طويل حتى يفسد أسطول الحرية الثّاني عليهم كل تحرّكاتهم الحالية وستضع المقاومة الفلسطينية ورقتها الرّابحة أمامهم جميعاً.