على طريق المواجهة

1 ـ أن هذا المؤتمر ضم في تشكيلته الطيف الواسع لمكونات الشعب العراقي ، إذ ضمّ قوى وتيارات سياسية مختلفة من حيث رؤاها السياسية والفكرية ، من أحزاب وقوى قومية وإسلامية وليبرالية ويسارية ومن خلفيات مذهبية وطائفية متعددة  إسلامية (سنية وشيعية) ومسيحية، ومن قوميات عربية وكردية وتركمانية ، دون الوقوع في مطب التوزيعات التقسيمية المذهبية والأقوامية فاجتماع هؤلاء جاء على قاعدة الانتماء الوطني وليس على قاعدة الانقسامات المذهبية والفئوية ، وهي مسألة شديدة الأهمية في تكريس الوحدة الوطنية ، وتفويت الفرصة على انبعاث الولاءات مادون الوطنية على حساب عامل الوحدة ولعل في طبيعة هذا التشكيل رداً على ما حاولت سلطة الاحتلال تكريسه عبر تشكيلها لمجلس الحكم والحكومة العراقية التابعين لها على قاعدتي المذهبية والأقوامية والتي أرادت منه إثارة الخلافات والحساسيات بين مكونات الشعب العراقي من خلال تحويل الانتماء من الوطن بصورته الجمعية إلى مادون هذا الوطن من مرجعيات .

            وفي طبيعة التشكيل الجامع للمؤتمر الوطني نلحظ إعادة الاعتبار إلى المكونات والتيارات السياسية التي جرى تغييبها ، خلال العهد السابق ، والتي جرى تشويهها في مرحلة الاحتلال الراهنة . والتي شهدت حالة عشوائية لتشكيل جماعات وأحزاب كثيرة دون أي مبرر موضوعي للكثير منها . وخصوصاً تلك التي جرى دعمها من جماعات المجلس المحلي أو قوى الاحتلال الأمريكي .

2 ـ إعلاء قيم التوحيد الديني وتجاوز المرجعيات المذهبية من خلال الإعلان عن مؤسسات إسلامية جامعة تضم مرجعيات من مذاهب إسلامية متعددة ( شيعية ـ سنية ) تحت اسم هيئة العلماء المسلمين . وهو ما مكّن من جعل الإسلام مكوناً توحيدياً للأمة بدل تحويله إلى مدخل للانقسام المجتمعي على أسس طائفية ومذهبية .

3 ـ تأكيد المجتمعين على الهوية العربية واعتبار العراق بكل مكوناته جزءاً من الأمة العربية والوطن العربي ومشاركة أكراد وتركمان وآشوريين في اتخاذ القرار باعتبارهم جزءاً من مكونات الشعب العراقي يساهم في إزالة الشوائب والحساسيات التي حاول زرعها المحتل وبعض القوى المستقوية به لتعميق الشكوك بين المواطنين العراقيين ووضع أسافين بين الأغلبية والأقليات .

            إن هذا الموقف يجعل من الدفاع عن حقوق المواطنة لجميع المواطنين العراقيين هماً مشركاً وبالتالي يساهم في تبني قضايا الأقليات من قبل الأغلبية باعتبارها قضايا وطنية لا تتناقض مع الطموحات والمصالح القومية العليا للوطن بما فيها السعي لتحقيق الوحدة العربية باعتبارها التطبيق العملي لانتماء العراق العربي .

4 ـ التأكيد على أن رفض الاحتلال هو موقف شعبي وطني بالدرجة الأولى يتشارك فيه جميع المواطنين أو الكتلة الرئيسية منهم على الأقل ، وبالتالي لا يمكن تصويره وكأنه موقف للجماعات "السنية" أو "الشيعية" أو موقف للعرب دون باقي الأطياف ، واعتبار رفض الاحتلال موقفاً وطنياً شاملاً يقطع الطريق على أية محاولة لتسويق الاحتلال بأنه "تحرير" أو مساعدة للشعب العراقي أو لبعض فئاته . ومن المهم هنا أن المؤتمر أكد مسألة بالغة الأهمية حين طرح أن رفض الاحتلال يستتبع بالضرورة رفض كل ما نتج عنه من هيئات ومؤسسات وتشريعات بما فيها مجلس الحكم والحكومة المنبثقة عنه ، أو أية حكومة أخرى ، إضافة لرفضه إجراء انتخابات تحت ظل الاحتلال وبإشرافه .

5 ـ إعلان المؤتمر أن رفض الاحتلال يتطلب مقاومته بكافة الوسائل السلمية والعنفية ( المسلحة ) وأن هذه المقاومة حق مشروع وواجب وطني ، ومن الملاحظ هنا أن المؤتمر أمسك بمسألتين كان يجري تجاهل إمكانية التوافق بينهما ، حين طرح الببعض المقاومة المسلحة باعتبارها الصيغة الوحيدة لمقاومة الاحتلال ، بينما قال آخرون بالمقاومة السياسية وقاموا بالتشكيك بالمقاومة المسلحة وبالقوى التي تمارسها .

            إن المقاومة السياسية لا يمكن انكارها في العمل الوطني التحرري ، وهي شديدة الأهمية في تحول حركات المقاومة إلى حركات تحرر وطني شامل ، لكن المقاومة السياسية يجب أن تلتف حول المقاومة المسلحة ، وتشكل الغطاء السياسي لها وإلا تحولت إلى أداة تعطيل للعمل الكفاحي .

            إن هذا الوعي يجعل من المؤتمر بمثابة الجناح السياسي لحركات المقاومة المسلحة . ويكفل أن يصب عملها باتجاه تحقيق الأهداف السياسية الوطنية العليا للمقاومة .

6 ـ التأكيد على أهمية الديمقراطية وضرورتها في البناء الوطني ، أي بناء الدولة العراقية المتحررة والمستقلة ، إن هذا التأكيد يقطع الطريق أمام أية محاولة لاستعادة أو إنتاج النظام الديكتاتوري من جهة أو التخويف من ذلك لتبرير الاحتلال من جهة أخرى . إن هذا التأكيد يؤسس لعلاقات متينة وقائمة على الثقة بين جميع فئات الشعب العراقي وقواه السياسية ، كما يفرض توجهاته على قوى المقاومة المسلحة باعتبارهما جزأين متكاملين من العمل الوطني التحرري .

            لقد جاء انعقاد هذا المؤتمر في مرحلة حاسمة من مراجل النضال الوطني بشعبنا في العراق ، حيث بات وضع الاحتلال في مأزق مع تطور عمليات المقاومة وتوسعها ودخول قوى جديدة
فيها ,ومع انكشاف الكثير من نتائج الاحتلال وسلوكياته . سواء على مستوى الفساد واستمرار التخريب في بنية المجتمع العراقي وإهدار ثرواته ، في افتقاره البعد الأخلاقي والسياسي ، عبر مسلسل فضائح التعذيب والممارسات اللاأخلاقية لقوات الاحتلال وعبر انكشاف أكذوبة الوعد الديمقراطي ، وفي افتقاده أساساً للمشروعية الأمنية والدولية بعد ما تبين من خداع أمريكي ـ بريطاني للمجتمع الدولي حول الأهداف الحقيقية للاحتلال ، والتي طرحت في حينها قضية وجود سلاح دمار شامل عراقي يؤثر على السلام العالمي وعلى أمن المنطقة ! كما أن هذا المؤتمر جاء مترافقاً ومتوجاً للانتفاضة الشعبية العارمة التي عمت معظم الأراضي العراقية .

ـ2ـ

مرة أخرى الفضائح الأخلاقية الأمريكية

في المعتقلات العراقية

 

يحاول الإعلام الأمريكي ومعه الإدارة الأمريكية تصوير ما حدث في معتقل أبو غريب بأنه حوادث فردية محدودة مسئول عنها مجموعة من الجنود الأمريكيين .وهم يستندون في ذلك إلى أن الوثائق المنشورة تقتصر على تلك المجموعة ، وفي أحيان أخرى تشمل حوادث فردية أخرى جرى التقاط صور لها .

            هذا التصوير لا يستقيم مع الوقائع ولا مع المنطق ، حيث هناك العشرات بل المئات من شهادات لمعتقلين عراقيين عن صنوف التعذيب التي تعرضوا لها والتي يجري تجاهلها ، وعدم الالتفات إليها ، وهناك الكثير من الممارسات والقرائن عن قتل متعمد لمدنيين في الشوارع أو في المعتقلات وقصف وحشي لأحياء سكنية وعمليات دهم مصورة ودهس بجنازير الدبابات لسيارات مدنية وأفراد وهناك شهادات صحفية لجنود أمريكيين وغيرهم فارين من الخدمة تناقلتها وكالات الأنباء تؤكد تلك الجرائم . وفي المنطق أن كشف هكذا حوادث عن طريق الصور الفاضحة يكاد يكون مستحيلاً أو نادراً . ولكن تلك الممارسات المتفرقة التي تم الكشف عنها لا يمكن النظر إليها إلا باعتبارها نموذجاً عن سياسة عامة تمارسها قوات الاحتلال . ويعزز ذلك التصور ثلاثة أمور :

الأول : إعلان إحدى المجندات التي شاركت بحفلات التعذيب اللاأخلاقي والجنسي أنها وزملاءها تلقوا تعليمات واضحة باستخدام مثل تلك الأساليب من قبل جهات مسؤولة في جهاز الاستخبارات الأمريكية . وهذا الإعلان تأيد بتصريح للمسؤولة الأمريكية عن سجن أبو غريب والتي قالت أن المخابرات الأمريكية هي التي تشرف على التحقيق , وأنها تلقت تعليمات من قيادات عسكرية عليا من السكون عت تلك الممارسات .

الثاني : أن معظم الذين كشفت الصور عن تعرضهم للتعذيب الجنسي هم من المواطنين الأبرياء الذين أوقفوا لمجرد الشبهة وللاستقصاء عن معلومات تتعلق بمطلوبين ومقاومين وأن هؤلاء قد أفرج عنهم فيما بعد . وهو ما يطرح تساؤلات عن طبيعة الممارسات التي يتعرض لها المقاومون أو المطلوبون الرئيسيون

الثالث : أن المسؤولين الأمريكيين رغم ورود الصور إليهم منذ أشهر طويلة لم يقوموا بعزل الجنود والضباط المسؤولين عن تلك الفضائح ، بل استمر هؤلاء في عملهم إلى أن تم نشر الفضيحة في الصحافة  كما أن تلك القيادة لم تقم بتفتيش أي معتقلات أخرى من تلك المنتشرة على امتداد الأراضي العراقية ، ولم تتخذ أية إجراءات صارمة بحق المسؤولين عنها

            إن تلك الممارسات هي نتيجة منطقية للمنظومة الأخلاقية الأمريكية التي تصور العرب والمسلمين بأنهم من جنس أدنى من الجنس الأمريكي ، وأحد الأمثلة الصغيرة على هذا التفريق أن الولايات المتحدة الأمريكية فرضت على ليبيا تعويضاً لضحايا طائرة لوكربي يبلغ عشرة ملايين دولار لكل ضحية ، بينما أعلنت عن استعدادها لدفع تعويض قدره ألفان وخمسمائة دولار لكل عراقي مدني بريء يقتل على أيدي المحققين أو عن طريق الخطأ ، ولا يستحق هذه التعويضات المدنيون الذين يقتلون خلال العمليات الحربية ‍‍..

            هذا هو الفارق بين الفرد الأمريكي وبين الإنسان العربي في النظرة الأمريكية الرسمية وهو فارق يجعل من عمليات التعذيب الجنسي واللاأخلاقي مجرد أخطاء فردية وفق المنظومة الأخلاقية للقيادة السياسية والعسكرية الأمريكية!

            بعد هذا نعود للسؤال هل تبقى الولايات المتحدة الأمريكية راعية لحقوق الإنسان وللديمقراطية حتى بمعناها البسيط والفردي . ناهيك عن حق الشعب .؟‍

_3_

العقوبات على سورية والمأزق العراقي

            إعلان الإدارة الأمريكية عن البدء بتطبيق بعض العقوبات الاقتصادية على سورية يحمل بعض الدلالات الهامة التي يجب التوقف عندها .

أولها : توصيف تلك العقوبات بأنها عقوبات لسورية ، أي أنها موجهة ضد الشعب السوري وليس ضد النظام السياسي الحاكم فيها ، فالعقوبات المطروحة تهدف إلى الإضرار بالاقتصاد السوري مما ينعكس على المواطن السوري ، ولعل هذا مؤشراً واضحاً ودقيقاً بأن المقصود هو معاقبة المواطن السوري ، وأحسب أن المسألة محسوبة ومقصودة فالذي يقف ضد أهداف الولايات المتحدة الأمريكية هو سورية بحالتها الجمعية ، وهذا ما لمسته الإدارة الأمريكية بوضوح خلال التظاهرات الشعبية التي جابت المدن السورية وعبر مشاركة آلاف الشباب السوريين الذين تطوعوا للقتال إلى جانب أخوتهم العراقيين في بدايات الحملة الاستعمارية التي تعرض لها العراق العام الماضي ، وظهر هذا الموقف السوري الجمعي في دعم حزب الله وحركات المقاومة الفلسطينية . وساهمت قوى المعارضة الوطنية الديمقراطية بوضوح في هذا الموقف مما أربك الكثير من مفردات السياسية الأمريكية تجاه سورية .

ثانيها : أن الهدف المعلن لتطبيق هذه العقوبات هو عدم تجاوب سورية مع الطلب الأمريكي في مساندة سياسة أمريكا في العراق ، وعدم الضغط على حزب الله الذي يقوم بين الحين والآخر بمناوشة العدو الصهيوني وإزعاجه كما حدث مؤخراً عندما جرّه إلى معركة داخل الخط الأزرق قتل فيها أحد ضباط العدو ، وهذا الهدف المعلن يقطع الطريق على المقولة الأمريكية بأن العقوبات المطروحة إنما تستهدف تعزيز الديمقراطية ومصالح الشعوب !!

ثالثها : أن تطبيق العقوبات في هذا الوقت بالذات على سورية يراد منه إبعاد الأضواء على الفضائح الأمريكية في العراق ، وخصوصاً فضائح التعذيب اللاأخلاقي الذي تمارسه قوات الاحتلال وتوجيهها نحو مكان آخر .

            ومن هذه المؤشرات يتضح أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد قادرة في هذه المرحلة على الأقل تغطية سياستها بالإعلان عن تبنيها مصالح الشعوب وحريتهم مما يدفعها للإعلان صراحة عن الأهداف الحقيقية لها : وهنا يسجل للمقاومة العراقية أنها بصمودها واستمراريتها وتصاعدها قد وجهت لطمات قوية إلى الإدارة الأمريكية المتصهينة وتركتها عارية من أي شيء يغطي عورتها . ولتظهر على حقيقتها كقوة " استعمارية " فاشية عنصرية لا تملك سوى حلماً أمبراطورياً بالاستيلاء على العالم لصالح قلة من الفاسدين .