ليالي الروح

على صداها شفةٌ لم تزل = تشقُّ أطباقَ الدُّجى بالهديرْ
أذهلتِ القلبَ فيا للرؤى = مائجةً فائرةً كالسَّعيرْ
تشبُّ يابشرايَ : ذا فجرُها = ينْسجُه المجدُ بنارٍ ونورْ
جاءت بها بقيَّةٌ في الجوى = من سالفِ العزَّةِ خلف العصورْ
ظمأى ليالي الروحِ فاستمطري = من معصراتِ الغيبِ سقيا تُثيرْ
لطيبِها تهتزُّ أرواحُنا = وأطفأتْ للكفرِ نارَ الفجورْ
وأيقظتْ مَن نامَ قيدَ الونى = أو لفَّ عمرَه بتوبٍ وثيرْ
لاتبعثُ المكدودَ من رمسِه = إلا رياحُ الشَّوقِ ضجَّتْ نذيرْ
ماجزعتْ نفسٌ وفي بالها = سِفرٌ حباها من جليلِ الشُّعورْ
ما ردَّ كأسَ الموتِ إلا الذي = أسبلَ في الدنيا إزارَ الحريرْ
وفي هواها أمنياتٌ خلتْ = كما خلا في السَّاحِ قلبُ الجسورْ
وفي السَّماواتِ العلى رفرفتْ = أحلى نسيماتِ المنى والحبورْ
تردُّ للروحِ سنى طهرِها = بعابقٍ من نمنمات الزُّهورْ
ماقيمةُ العيشِ على لقمةٍ = مبثوثةٍ بمُرِّها والمريرْ !
وهذه الدنيا فصولٌ مضتْ = يسيمُ واديها الظلامُ النَّكيرْ
وما صفتْ وليس تصفو وذا = جليلُها يُطوى ويُطوى الحقيرْ
يعزُّ بها ماجنٌ أرعنٌ = يهزأُ بالأقدسِ أنى يدورْ
فهل يرى المسلمُ أشواقَه = وينهضُ اليوم لأمرٍ كبيرْ
وهل زمانُ الراحلين الأُلى = يغشى زمانَ الآخرين الخطيرْ
كم صائحٍ نادى على أهلِه = بالأسَفِ القاتلِ بل بالثُّبورْ !
خبا بأحناءِ ظلامِ الأسى = شعاعُه القدسيُّ بين القبورْ
وبات يشكو في مناجاتِه = هولَ الملمَّاتِ وضيق الصُّدورْ
وفي رحابِ الأرضِ أقدامُه = كانت تهزُّ الراسيات الصُّخورْ
لمَّا سعى للهِ في دعوةٍ = وعاف زينتَها والقصورْ
ولانَ للمؤمنِ صدرُ المدى = فطافَ في أرجائه كالأثيرْ
أمَن كان في الأرضِ أميرَ الورى = ومَن أشادَ المجدَ عبر الدهورْ
ومَن أقامَ الحقَّ في ركنها = وزلزلَ الباطلَ يومَ النَّفيرْ
واليوم ياويح القلوب التي = عطَّرها الصَّبرُ بروحٍ فخورْ
اليوم أين لنا ما قد يُرى = إلا كومضٍ فوق فيض السطورْ
اليوم يشقى المسلمُ المصطفى =من بين أبناءِ الورى بالمصيرْ
مكبَّلٌ يرمي لياليه العنا = كأنَّه في ذي البرايا أسيرْ
ظمأى ليالي الروح ما أكبرتْ = نفسي ربيع العصرِ واهٍ حسيرْ
تسردُ للأيام أقصوصةً = أوَّلُها مرارةٌ والأخيرْ
ضائعةٌ بمسربٍ داكنٍ = وإنْ توشَّى صبحه بالنَّثيرْ
ما حوَّمتْ فوقَ الجموع التي = جابَ علاها كلَّ دربٍ عسيرْ
أو صفَّقتْ أجنحةٌ للهوى = دون سماوات الخلودِ المثيرْ
ما رأتِ الروحُ تجلِّي عزَّةٍ = تكتبُ للروحِ جليلَ المصيرْ
ولا تثنَّى الشَّوقُ في مهجةٍ = أسكرَها الصَّائحُ خلف البحورْ
ترعفُ بالهولِ سُوَيْعاتها = واجمةً وفي الدياجي تسيرْ
قد أدبرتْ عن ربِّها والهدى =وأكبرتْ خذلانَها والفجورْ
عقوبةُ اللهِ لِمَنْ لم يزل = أعمى مع العميان من غير نورْ
ظمأى وأين أمَّةٌ كانت به = تسقي الظماءَ من بطون السَّعيرْ
ظمأى وهذا العصرُ أزرى بها = وعافها مكدودةً في القبورْ
لكنَّها بدينها حيَّةٌ = تخرجُ من ليل الرزيات نورْ
*نشرت في مجلة حضارة الإسلام الدمشقية العدد 33   السنة الحادية والعشرون جمادى الأولى عام ( 1400ه )

وسوم: العدد 1102