حَدِّثْ أَبَاكْ

يوسف عُبَيْد (أبو ضياء)

يأتي لزيارتي مخترقاً أسوارَ السِّجنِ وحرَّاسَه ويلوحُ طيفهُ في الخيال من وراء القُضْبَانِ وأسمعُ صوتَه من خلف الجُدرانِ وهو يُرَدِّدُ أبي.. أبي.. أبي

حَدَّثْ أَبَاكَ

أَيُّ الوجومِ على محيَّاكَ الجميلْ

مُتسائلُ النظراتِ بَادي اللَّمحِ في الطَّرفْ البليلْ

ماذا يجيش بصدركَ الطِّفل الصغير؟ ألا تقولْ

إنِّي لأعلم إِنْ سألتُكَ لا تجيبْ

ستظلُّ في الصَّمت الكئيبْ

مُتكتِّمَ الخَلجاتِ في عينيكَ طيفٌ كالشُّعاع لَدَى المغيبْ

قُلْ ما تشاء فكلُّ ما تلقيهِ من قولٍ على سمعي حبيبْ

قل أَيَّ شيءٍ واتركِ الصَّمتَ الكئيبْ

فبكلِّ حرفٍ نغمةٌ تشدو ومزمارٌ طروبْ

فَلأَنْتَ ضوءٌ شَعَّ في جنبيَّ في ليل الخُطوبْ

وَلأَنتَ نبعٌ فَجَّرَ السَّلسال والآمال في القلبِ الجديبْ

ولأنت ذكرى عن خيال لا تغيبْ

ولأنت عزمٌ يَسْتَردُّ لي الشَّبابَ إذا تولىَّ العُمْرُ واشتعل

المشيبْ

***

أتزورني ما أجمل الساعاتِ إذ يلقى الأبُ المشتاق زائرهُ

الوليدْ

ما أجمل اللَّحظات حين تُطلُّ كالأمل السعيدْ

وتمدُّ في خفَرٍ يديكْ

وتقبِّل الكفَّ التي تحنوُ عليكْ

وتشعُّ آمالُ الحياة بمقلتيك

فإذا وقفتَ أمام سُورِ السِّجن محروساً بأسلحة الجنودْ

ودَلَفْتَ من بابٍ إلى بابِ بطيءَ الخَطوِ في حذرٍ وئيدْ

ورأيتَ والدكَ السجينَ وراء قضبانِ الحديدْ

فابْسُمْ لَهُ كم هشَّ بسَّاماً لطيفِكَ مِنْ بعيدْ

وطواكَ في الصَّدر الخَفُوقِ ورعشةِ القلبِ الودودْ

كم راح يهتف باسمكَ الغالي على وترِ القصيدْ

ويعيده حُلْوَ المذاق ولا يمل فيستزيدْ

(أضِيَاءُ) يا أحلى نشيدٍ في الفم الظَّامي إلى عذب النشيدْ

حدِّثْ أباكَ بما تريدْ

فالقلبُ مبتهجٌ سعيدْ

جذلانَ قد نسيَ القيود وظُلْمَ مَنْ صنعوا القيودْ

***

حدِّث أباكَ عن الربوع عن المنازل والدِّيارْ

عن عشِّكَ الهاني وعن ضَحِكاتِ إخوتكَ الصِّغارْ

تستيقظون مع النَّهار كأنكم بسماتُ لؤلؤةِ النَّهارْ

وتُغازلونَ الوردَ والطَّيرَ المغرِّدِ حطَّ وحيثُ طارْ

وتصارعونَ الرِّيح عابثةً بأذيالٍ مُشَعَّثَةٍ قِصارْ

والأوْجهُ السُّمْرُ التي حيناً يعفِّرها الغُبارْ

فيعودُ حُلواً باسمَ الذَّراتِ يشرقُ كالنَّضارْ

***

حدِّثه عن ألعابكَ الهُوُجِ التي تلهو بِهِنَّ مع الصِّحابْ

عن مرتعٍ يَمتدُّ أحياناً إلى وقت الغيابْ

حدِّثه عن قلم الرَّصاص عن المِدَاد عن المحابر والكتابْ

وعن الدَّفاتر عن خطوط الرَّسم عن درس القراءة والحسابْ

وعن الحقيبةِ والوظيفة والعتاب مِنَ المعلِّم والعقابْ

وعن النُّقود تعدُّها جَذِلاً لتشتريَ الجديدَ من الثياتْ

حدِّثْ أباكَ إذا نهضتَ من الفراش وحان للدَّرس الذَّهابْ

ومضيتَ منطلقاًَ عزوفَ النَّفس عن ذوق الطَّعام أو الشّرابْ

تجري فلا يُثْنِيكَ لَسْعُ البرد أو يُبقيكَ مُنْهَلُّ السَّحابْ

حدِّث أباكَ فلا يملُّ السَّمع ما أحلى الحكاياتِ العذابْ

حدِّثْهُ لا تُطرقْ خجولَ الطَّرف مُختنقَ الجوابْ

لا تُرسلِ النَّظرات غائمةً كأَطيافِ المغيبْ

لا تَمضِ في الصَّمتِ الكئيبْ

حدِّث أباك فكل ما تُلْقيه من قول على سمعي حبيبْ

في كلِّ حرفٍ نعمةٌ تشدو ومِزْمَارٌ طروبْ