سيبقى الشعر

يوسف عُبَيْد (أبو ضياء)

تبرز بين الحين والحين أفكار وتحدث مذاهب نقدية وأدبية وتأتي أزياء للثقافة وتروح أزياء ولكن الشعر باق ما بقي ضمير الإنسان وما هَبَّتْ نسمات الربيع وما طلعت كواكب السماء وما أشرقت الشمس.

سَيَبْقَى الشِّعْرُ

دعاكَ الشِّعر وانسابتْ كطيفِ النُّورِ في الرُّؤْيا قوافيهِ

ورنَّ نشيدهُ الْفَتَّانُ مِنْ أوتارِ عازفهِ وشاديهِ

فلا تتركْ نُعاسَ المرْقدِ الوسْنانِ عن دنياكَ يُبعدهُ ويُقْصيهِ

ولا تُغْمِضْ جُفونكَ عن ضياءٍ راحَ يَهْدِيهِ

ولا تصرفْ فؤادكَ عن نداءٍ راحَ يُوقظهُ ويُحْيِيِهِ

ولا تُوصدْ أمامَ غِنائهِ سمعاً بطيب اللَّحنِ يُطربهُ ويُشجيهِ

فكم طافتْ بكَ الذِّكرى على أملٍ تلاشى كنتَ في الماضي تُرجِّيهِ

وطيفٌ من عذارى الشِّعرِ في الأسحار في شَوق تُناجيهِ

ورفَّ خيالكَ اللَّهفانُ ظمآناً إلى أكواب سَاقيهِ

فشعركَ لا غُواةُ الجنِّ من وَسْوَاسِها الْخَنَّاسِ للتضليل تُوحيهِ

ولكنَّ الملاكَ السَّمح مغموراً بنور اللهِ يكتبهُ ويُمْليهِ

فَمِن إطْلالَةِ الإِصْبَاحِ والطَّيرِ الَّّذي غنَّى يُحَيِّيهِ

ومن همس النَّسيمِ العذبِ والأغصان والنَّهر الَّذي تشدوُ سواقِيهِ

ومِنْ تغريدةِ التَّكبير يُرسلهُ نداءُ الفجرِ صدَّاحاً مُناديهِ

ومن إشراقةِ القرآنِ يتلو آَيَهُ القدسيَّ في المحراب تَالِيهِ

ومن صرحٍ على الإسلام قد شِيْدَتْ مَبانيهِ

ومن تاريخه الوضَّاءِ من صفحاتِ ماضيهِ وحاضرهِ وآتِيهِ

قَبَسْتَ الشِّعر فازدانتْ بكلِّ لآلئِ الأمجادِ حاليةً قوافيهِ

***

ضياءُ الحرفِ أقوى من سياط الظُّلْمِ والظُّلَمِ

ومن أغلال طاغيةٍ يسوق الشَّعب للسِّكِّينِ كَالْغَنَمِ

كتابُ اللهِ حرفٌ صَاغَهُ الرَّحمن في كَلِمٍ ولكن ليس كالْكَلِمِ

تعالى الله مُنْزِلُهُ وَمَنْ قَدْ عَلَّمَ الإنسانَ بالقلمِ

فَمِنْ عَليا بلاغتهِ

ومِنْ آفاق عِزَّتِهِ

ومن يُنْبوعهِ الشَّبِمِ

نظمنَا الشِّعر قُلنَا النَّثر لَحناً ساحِرَ الإيقاعِ والنَّغَمِ

فمنهجُنَا بيانٌ سرمديُّ النُّور رغم الأَعْصُرِ الدُّهُمِ

تَفُلُّ سواعدَ الفولاذِ قوتهُ ويبعثُ غَابِرَ الموتى من الرِّمَمِ

وتصفع جبهةَ النُّمْرودِ حُجتهُ فيهوي صاغِرَ الخُيَلاَءِ والعِظَمِ

وفأسٌ أُشرعتْ في كف إبراهيم تَحْطمُ جبهةَ الصَّنمِ

***

لقد كنَّا حُدَاةَ الشِّعر في البيْداءِ نُنْشِدُهُ نُغَنِّيهَ

مع الرُّكبانِ تطوي الأرضَ يحدوُ في مسير الرَّكْبِ حاديهِ

مع القطعانِ يرجع بالقطيعِ العائدِ المكدودِ نحو الحيِّ راعيهِ

مع الغُزلانِ نحو غديرِها الفِضيِّ رقراقاً على حصباء واديهِ

مع الرَّملِ الذي تذروهُ في صحرائه الظمأَى سَوافيه

ولمِّا شقَّ نورُ الفجرِ بالإصباح ليلُ الشِّرك يَطويهِ

وأذَّنَ في روابي (طيبةَ) الغراء للرَّحمنِ داعيهِ

أذَلَّ السيفُ رأسَ الشِّرك في (بدرٍ) وأرغمَ أنفَ باغيهِ

فكان الشِّعر من (حسانَ) في الميدانِ أمْضَى من مَوَاضِيهِ

وسهماً من سِهام الحقِّ بِاسْمِ الله منتصراً يُسَدِّدُهُ ويرميهِ

ملاحمُ من دَمِ الشُّهداء راح الشِّعرُ يكتبها فتلهبهُ وتغنيهِ

هتافُ الجندِ في (اليرموك) والأبطالُ دَكَّتْ عرشَ طاغيهِ

وصوتٌ قادسيُّ اللَّحن ما زالت تهزُّ مسامعَ الدُّنيا أغانيهِ

وَحَمْحَمَةُ الخيولُ الدُّهُمِ خلفَ جوادِ (معتصمٍ) مجيرِ العرض حاميهِ

وتكبيرُ الأُباةِ الصِّيدِ نحوَ (القدسِ) والرَّاياتُ تخفقُ فوقَ فاتحهِ وغازيهِ

وجاءَ الفتحُ بعد الفتحِ فازدانتْ بنصر الله حاليةً قوافيهِ

فما مِنْ سِفْرِ ملحمةٍ مِنَ الأمجادِ إلاَّ راح يَرويهِ

وما مِنْ تاجِ سلطانٍ تَرَصَّعَ بالنَّضير الحُرِّ إلاَّ مِنْ دَرَاريهِ

وما مِنْ مأتمٍ يمضي وتبقى بعدهُ الأمواتُ إلاَّ مِنْ مَراثيهِ

ولا قَطْرٌ يغيث الأرضَ بعد الْجَدْبِ إلاَّ مِنْ غَواديهِ

ولا ليلٌ يلفُّ البائسَ المحزونَ إلاَّ وهو كاشِفُهُ وماحِيهِ

ولا صبحٌ من الآمال صافي الحسن إلاَّ وهو مُرْشِدهُ وهاديهِ

*      *        *

سيبقى الشِّعر لن يفنَى إلى أن تذبلَ الدُّنيا وسحرُ جمالها يفنى

سيبقى الشِّعر ما لبس الرَّبيع الحلو زينته ووشَّى السَّهل والْحَزْنَا

سيبقى الشِّعرُ ما خطرَ النَّسيم الرَّطب مُبْتَرِداً وضمَّخ بالنَّدى الغصنا

سيبقى الشِّعر ما رفَّ الجناحُ السابح الممراح خفَّاقاً وما غنَّى

سيبقى الشِّعر ما بقيتْ نجومُ اللَّيل دائبةَ السُّرى وَسْنَى

لقد كنّا حُداةَ الشِّعر مُذْ كانتْ قوافيهِ وَمُذْ كنّا

رفعناهُ لواءً خافقاً يزهو يتيهُ بأفقهِ الأَسْنَى

وصنَّاهُ عن الإسفافِ فاستعلى وتوَّجْنَاهُ بالأمجادِ فاستغنَى

وَلَفَّتْهُ العواصفُ من دَعَاوَى الفنِّ والتجديدِ ما غَضَّتْ له جَفْنَا

وهزَّتْهُ المعاولُ من دعاةِ الهدمِ فانْحَطَمتْ ولم تَهْدِمْ له رُكْنَا

لقد سمّوا سخيفَ القولِ إبداعاً وسمّوا زيفهُ فَنَّا

وجاؤوا بالهزيل الْغَثّ لا شعراً ولا نثراً فَشَاهَ اللفظ والمعنى

غواشٍ من ضبابِ الغربِ أخفتْ مِنْ مُحَيَّاهُ الجمالَ الْغَضَّ والْحُسْنَا

تعالى الشِّعرُ فامتنعتْ قوافيه على الدُّخلاءِ لا بُخلاً ولا ضَنَّا

وَلاَنَ جِمَاحُهُ وانقادَ للرُّوادِ لا خَوَراً ولا وَهْنَا

سَمَا كالغيثِ فهوَ الأرفعُ الأعلى وجادَ الأرضَ فهو الأقربُ الأدنَى

حدائقهُ الحسانُ الخضرُ قد أضحى كتابُ اللهِ حولَ رياضها حِصنَا

قطوفٌ من جَنَى الفصحى بغير مغارسِ الأمجادِ لا تنمو ولاَ تُجنَى

*      *        *

سيبقى الشِّعر صوتاً يبعث التَّاريخَ من أعماق ماضيهِ

ويوقظُ من مراقدهِ رُفُاتَ المجد ينشرهُ ويحييهِ

سيبقى مشعلاً يُردي ظلامَ اللَّيل يجتاح العوادي من غواشيهِ

سيبقى الشعر مَلاَّحاً يقود الفُلكَ رغمَ الموْجِ والتّيهِ

سيبقى الشِّعر يهدي موكب العلياء نجماً في مراقيهِ

سيبقى في مسير الدَّهرِ لحناً في مسامعهِ ونوراً في مآقيهِ

سيبقى من سَنا القرآنِ يقبس لحنهُ الشُّعراء يُنشدهُ مُغنّيهِ

سيبقى الفأسُ في يُمنَى خليلِ اللهِ والرَّحمنُ ناصرهُ وراعيهِ

يُحطّمُ صولةَ النُّمرودِ والعرشَ الذي يَزهُو بِطاغيهِ

فيهوي ناحِتُ الأصْنَام لا يحمي لها عزَّاً ولا الأصنامُ تَحميهِ