فتن ومحن في العصر الأول 3

العلماء

والآن أتحدث العلماء، ومهمتهم في هذه الحياة، سواء من ناحية الشعوب التي هم منها، أو من ناحية الحكام الذين هم تحت ظلهم، والمعلوم أن العلماء ليست مهمتهم محصورة في تقديم العلم كوصفات الطبيب، كل وصفة تناسب مرضاً، أو ظرفاً، أو وضعاً، بل العلماء مهمتهم تسيير الأمور نحو اتباع كتاب الله، ولذلك جاءت الآية القرآنية الكريمة: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59].

يقول الزمخشري :: «هم أمراء السرايا، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع اللَّه، ومن عصاني فقد عصى اللَّه، ومن يطع أميري فقد أطاعني ومن يعص أميري فقد عصاني»، وقيل: هم العلماء الدينون الذين يعلمون الناس الدين، ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر»([1]).

ويؤيد هذا ما ذكره البغوي : في تفسيره: «هُمُ الْفُقَهَاءُ وَالْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ مَعَالِمَ دِينِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ، وَدَلِيلُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ (النِّسَاءِ -83)، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْوُلَاةُ»([2]).

وعلى هذا كان على العلماء مهمة لا تختلف عن مهمة الأمراء والحاكمين، فلا بد أن يقوموا بأدوارهم، لا لتثبيت عروش، أو نقضها، وإنما لتثبيت حق، قد يكون انتهك، أو ضاع، أو ضعف، أو تصدع، أو إحقاق حق حاول المتطرفون، أو من يسيرون في ركب أعدء الأمة أن يضيّعوه أو يهاجمونه، فعلى العلماء أن لا يتقاعسوا عن هذا العمل، أو هذا الأمر.

ومن هنا جاء التعبير النبوي: عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ - وَهَذَا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ - قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ)([3]).

وهنا جاء الحديث دليلاً على العمل الذي على العلماء أن يقوموا به، وليس عملهم هو تبرير الأفعال، أو ما يحكم به الأمراء والولاة، بل الصدع بالحق.

وبما أن كل حكم، مهما كان صالحاً، وعادلاً، ومتّبعاً لدين الله، فلا بد من حدوث بعض الخلل، أو التقصير، أو  الخطأ في استعمال بعض الأحكام، فكان لا بد من أناس يصدعون بالحق، ومجابهة المخطئ، أو المسرف في أحكامه، أو الجاهل بالطريق الصحيح، وقد عرف المسلمون كثيراً من هذه الوقفات في عهد الخلفاء الراشدين، ومن بعدهم على مدى التاريخ الإسلامي، وكيف أن العلماء بناء على مضمون كثير من آيات القرآن الكريم، ومضمون معاني كثير من الأحاديث النبوية حول هذا الموضوع كانوا يتحدثون، ويناقشون مسألة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والأخذ على يد من يجنح في المخالفات، أو في التهاون بالأحكام، لا يخافون في الله لومة لائم، ولا يصدهم عن ذلك سلطة قوية، أو حتى غاشمة، فهذا هو حقهم، وعملهم، وكذلك حق على السلطات أن تتقبل ما يوحهه العلماء لهم من آراء، أو نظرات، أو نقض لبعض ما يحكمون، وألا يسلطوا على العلماء سيف السلطان، وعسفه، وتجبره.

وعلى من يتصدر هذه الأمور أن يعلموا أن الكلمة لها وزن، ولها نتيجة، ولذلك كان الإسلام يطالب الإنسان، أي إنسان أن يزن كلامه، وأن يرى إلى أين يصل، وماذا يهدف، فقد تكون النهاية قاتلة، أو موصلة إلى جهنم، يقول القاضي عياض :: «وقوله [أي النبي صلى الله عليه وسلم]: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يهوى بها في النار)، الحديث: هذا مثل قوله فى الحديث الآخر: (ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت)، وقوله أيضًا: (لا يلقى لها بالاً)، قيل: هى الكلمة يتكلم بها عند سلطان جائر يرضيه بها فيما يسخط الله»([4]).

فهنا الكلمة، أي كلمة تهوي بصاحبها في النار إن كانت في غير محلها، وكما قال الصنعاني : أيضاً: «قوله: (كلمة عدل عند سلطان جائر - أو أمير جائر) - هو شك من الراوي - وإنما كانت أعظم الجهاد، أو فضله على لفظ أبي داود، والنسائي، فإنه عندهما لفظ: (أفضل)؛ لأنه تكلم بحق في موقف لا يؤمَن، وورد الحديث بلفظ: (كان أحب وأفضل) لما فيه من الإعلان بالحق والصدوع به، وإيثار مرضاة الله على مرضاة عباده، والمخاطرة بالنفس لإعلاء كلمة الحق، وإنما كان أفضل من الجهاد بملاقاة الأقران؛ لأنَّ ذلك فيه مظنة الظفر، والغلبة، والسلب، والنفس قوية في الدفع عن دمها بخلاف المتكلم عند السلطان الجائر، فإنَّ بنفسه وماله مخاطرة، وليس فيه شيء مما ذكرناه في ملاقاة الأقران.

وفيه دليل أنَّ أحب الأعمال وأفضلها أشقها على النفس، وأنَّ التعرض للشهادة مع القطع بعدم الغلبة جائز»([5]).

وهنا تعترض العلماء مشكلة بعض الحكام الذين قد لا يتحملون النقد، أو قول الحق، فهل يصدع العلماء بآرائهم، أم يصمتون، فيسلموا، وهل يحق لهم الصمت، وترك قول الحق دون تبيانه للناس، ولكن كل هذه الخلافات تقع بين العلماء، باعتبار أن السلاطين مسلمون، قد ينحرفون، أو يجورون، فماذا يفعل العلماء؟ يقول الإمام ابن الملقن :: «عن طارق بن شهاب أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الجهاد أفضل؟ قال: (كلمة حق عند سلطان جائر).

قلت: واختلف السلف في تأويله - كما قال الطبري.

فقيل: إنه محمول على ما إذا أمن على نفسه القتل، أو أن يلحقه من البلاء ما لا قبل له به، وهو مذهب أسامة بن زيد، وروي عن ابن مسعود، وابن عباس، وحذيفة، وروي عن مطرف بن الشخير أنه قال: والله لو لم يكن لي دين حتى أقوم إلى رجل معه ألف سيف، فأنبذ إليه كلمة فيقتلني، إن ديني إذًا لضيق.

وقيل: الواجب على من رأى منكرًا من ذي سلطان أن ينكره علانية، وكيف أمكنه، روي ذلك عن عمر، وأبيّ، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده).الحديث، وبقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا هابت أمتي أن يقولوا للظالم: يا ظالم فقد تودع منهم).

وقيل: من رأى من سلطانه منكرًا، فالواجب عليه أن ينكره بقلبه فقط، واحتجوا بحديث أم سلمة مرفوعًا: (يستعمل عليكم أمراء بعدي، تعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع)، قالوا: يا رسول الله، أفلا نقاتلهم؟ قال: (لا، ما صلّوا).

والصواب -كما قال الطبري- أن الواجب على كل من رأى منكرًا أن ينكره إذا لم يخف على نفسه عقوبة لا قبل له بها؛ لورود الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة للأئمة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه)، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: (يتعرض من البلاء لما لا يطيق).

فصل:

فإن قلت في حديث أسامة: كيف صار الذي كان يأمرهم وينهاهم معهم في النار، وهو لهم آمرٌ وناهٍ؟ قيل: لم يكونوا أهل طاعته، وإنما كانوا أهل معصيته»([6]).

فنلاحظ هنا تأكيد ابن الملقن : على فكرة أن هؤلاء الحكام عصاة، وليسوا من أهل الكفر، أو أعداء الدين، وهذا ما يجب أن يحذره بعض من يتخذ هذه الأحاديث تكأة لبعض أئمة الكفر، والنفاق، والفجور، وأعداء الدين، ويدافعون عنهم بحجة هذه الروايات، فيصورون أن هذا الدين جاء لاستغلال السلاطين للشعوب، ولاستعبادهم، واضطهادهم، وأنه لا يحق لهم إلا أن يكون طائعين خاضعين، وكأن الإسلام لا علاقة له بتحرير الناس من الظلم، والاضطهاد.

ونتابع ما يقول العلماء هذه الأحاديث التي تدعو إلى قول الحق أما السلاطين المسلمون، الذين قد يقعون في المعاصي، أو الانحراف، أو الظلم، وما على العلماء والعباد أن يقوموا به نحوهم، فيقول المناوي :: «(أحبّ الْجِهَاد) (إِلَى الله كلمة حق) أَي مُوَافق للْوَاقِع بِحَسب مَا يجب، وعَلى قدر مَا يجب فِي الْوَقْت الَّذِي يجب، (تقال لإِمَام) أَي سُلْطَان (جَائِر) أَي ظَالِم؛ لأنّ من جَاهد العدوّ [الكافر] فقد تردّد بَين رَجَاء وَخَوف، وَصَاحب السُّلْطَان [المسلم] إِذا قَالَ الْحق، وَأمر بِالْمَعْرُوفِ، وَنهى عَن الْمُنكر تعرّض للهلاك قطعاً فَهُوَ أفضل»([7]).

ويشرح لنا الإمام ابن عبد البر معنى الجائر كما أورده الزرقاني: «قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْكَلِمَةُ الْأُولَى هِيَ الَّتِي يَقُولُهَا عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، زَادَ ابْنُ بَطَّالٍ: بِالْبَغْيِ، أَوْ بِالسَّعْيِ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَتَكُونُ سَبَبًا لِهَلَاكِهِ، وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْقَائِلُ ذَلِكَ، لَكِنَّهَا رُبَّمَا أَدَّتْ إِلَيْهِ فَيُكْتَبُ عَلَى الْقَائِلِ إِثْمُهَا، وَالْكَلِمَةُ الَّتِي يُرْفَعُ بِهَا الدَّرَجَاتُ، وَيُكْتَبُ بِهَا الرِّضْوَانُ هِيَ الَّتِي يَدْفَعُ بِهَا عَنْ مُسْلِمٍ مَظْلَمَةً، أَوْ يُفَرِّجُ بِهَا عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ يَنْصُرُ بِهَا مَظْلُومًا.

وَقَالَ غَيْرُهُ: الْأُولَى هِيَ الْكَلِمَةُ عِنْدَ ذِي سُلْطَانٍ يُرْضِيهِ بِهَا فِيمَا يَسْخَطُ اللَّهُ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: هَذَا هُوَ الْغَالِبُ، وَرُبَّمَا كَانَتْ عِنْدَ غَيْرِ السُّلْطَانِ مِمَّنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ ذَلِكَ»([8]).

ويشرح الطيبي الحديث النبوي، ويبين مدلولات ألفاظ الحديث اللغوية، فيقول: «إنما صار ذلك أفضل الجهاد؛ لأن من جاهد العدو كان متردداً بين الرجاء والخوف، لا يدري هل يغلِب، أو يُغلَب، وصاحب السلطان مقهور في يده، فهو إذا قال الحق، وأمره بالمعروف، فقد تعرض للتلف، فصار ذلك أفضل أنواع الجهاد من أجل غلبة الخوف.

وإنما كان أفضل؛ لأن ظلم السلطان يسري في جميع من تحت سياسته، وهو جم غفير، فإذا نهاه عن الظلم، فقد أوصل النفع إلى خلق كثير، بخلاف قتل كافر، قال الشيخ أبو حامد [الغزالي] في الإحياء: الأمر بالمعروف مع السلاطين التعريف والوعظ، وأما المنع والقهر، فليس ذلك لآحاد الرعية؛ لأن ذلك يحرك الفتنة، ويهيج الشر؛ ويكون ما يتولد منه من المحذور أكثر، وأما التخشن في القول كقولك: يا ظالم! يا من لا يخاف الله! وما يجري مجراه، فذلك إن كان يتعدى شره إلى غيره لم يجز، وإن كان لا يخاف إلا على نفسه فهو جائز، بل مندوب إليه، فلقد كان من عادة السلف التعرض للأخطار، والتصريح بالأنكار من غير مبالاة بهلاك المهجة؛ لعلهم بأن ذلك جهاد وشهادة»([9]).

وأختم الكلام برأي الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني : في كتابه العظيم فتح الباري: «فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَجِبُ مُطْلَقًا، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، رَفَعَهُ: (أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ)، وَبِعُمُومِ قَوْلِهِ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ) الْحَدِيثَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ إِنْكَارُ الْمُنْكَرِ؛ لَكِنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يَلْحَقَ الْمُنْكِرَ بَلَاءٌ لَا قِبَلَ لَهُ بِهِ، مِنْ قَتْلٍ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: يُنْكِرُ بِقَلْبِهِ؛ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا: (يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ بَعْدِي، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ...) الْحَدِيثَ، قَالَ: وَالصَّوَابُ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ: (لَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ)، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِأَنْ يَتَعَرَّضَ مِنَ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ، انْتَهَى مُلَخَّصًا، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَجِبُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ ضَرَرًا، وَلَوْ كَانَ الْآمِرُ مُتَلَبِّسًا بِالْمَعْصِيَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ يُؤْجَرُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مُطَاعًا، وَأَمَّا إِثْمُهُ الْخَاصُّ بِهِ، فَقَدْ يَغْفِرُهُ اللَّهُ لَهُ، وَقَدْ يُؤَاخِذُهُ بِهِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ إِلَّا مَنْ لَيْسَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ، فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ الْأَوْلَى فَجَيِّدٌ، وَإلَّا فَيَسْتَلْزِمُ سَدَّ بَابِ الْأَمْرِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُهُ، ثُمَّ قَالَ الطَّبَرِيُّ: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ صَارَ الْمَأْمُورُونَ بِالْمَعْرُوفِ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ الْمَذْكُورِ فِي النَّارِ، وَالْجَوَابُ: أَنَّهُمْ لَمْ يَمْتَثِلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، فَعُذِّبُوا بِمَعْصِيَتِهِمْ، وَعُذِّبَ أَمِيرُهُمْ بِكَوْنِهِ كَانَ يَفْعَلُ مَا يَنْهَاهُمْ عَنْهُ، وَفِي الْحَدِيثِ تَعْظِيمُ الْأُمَرَاءِ، وَالْأَدَبِ مَعَهُمْ، وَتَبْلِيغِهِمْ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهِمْ، لِيَكُفُّوا وَيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ بِلُطْفٍ، وَحُسْنِ تَأْدِيَةٍ، بِحَيْثُ يَبْلُغُ الْمَقْصُود من غير أذية للْغَيْر»([10]).

وكل ما كتبه هؤلاء العلماء كان عن سلاطين المسلمين، ولذلك كانوا يرون أن بقاء الحكام المسلمين على مكانهم، أفضل من إثارة الناس عليهم، ولكن! أين ما قال العلماء عن طاعة الكافرين، أو الملحدين، أو من تطوعوا لمحاربة الدين وأصحابه، ما موقف هؤلاء العلماء نحو هؤلاء السلاطين؟

يقول الحافظ ابن حجر في فتح الباري: «طَاعَتَهُ [السلطان الجائر] خَيْرٌ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَقْنِ الدِّمَاءِ، وَتَسْكِينِ الدَّهْمَاءِ، وَحُجَّتُهُمْ هَذَا الْخَبَرُ، وَغَيْرُهُ مِمَّا يُسَاعِدُهُ، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا وَقَعَ مِنَ السُّلْطَانِ الْكُفْرُ الصَّرِيحُ، فَلَا تَجُوزُ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ، بَلْ تَجِبُ مُجَاهَدَتُهُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا»([11]).

وهنا لا يتكلم عن السلطان الكافر أصالةً، وإنما عن سلطان مسلم ظهر منه كفر صريح، فأوجب مجاهدته وقتاله، وهذا الذي يخفيه كثير من فقهاء هذا الزمان، ويأتون بالنصوص التي تتكلم عن الحاكم المسلم الصالح.

ونرى أن الشوكاني تكلم بأسلوب أوضح في هذه المسألة فقال: «وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْخُرُوجِ عَلَى الظَّلَمَةِ، وَمُنَابَذَتِهِمْ السَّيْفَ، وَمُكَافَحَتِهِمْ بِالْقِتَالِ، بِعُمُومَاتٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَلَا شَكَّ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ [مصنف كتاب المنتقى لابن تيمية الجد] فِي هَذَا الْبَابِ، وَذَكَرْنَاهَا، أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ مُطْلَقًا، وَهِيَ مُتَوَافِرَةُ الْمَعْنَى، كَمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ لَهُ أَنَسَةٌ بِعِلْمِ السُّنَّةِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَحُطَّ عَلَى مَنْ خَرَجَ مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ الْعِتْرَةِ، وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ، فَإِنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُمْ، وَهُمْ أَتْقَى لِلَّهِ وَأَطْوَعُ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ»([12]).

وقال القرطبي شارح صحيح مسلم: «جواز غيبة المعلن بفسقه ونفاقه، والأمير الجائر والكافر، وصاحب البدعة، وجواز مداراتهم اتقاء شرهم، لكن ما لم يؤدِ ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى، والفرق بين المداراة والمداهنة، أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين، وهي مباحة ومستحسنة في بعض الأحوال، والمداهنة المذمومة المحرمة: هي بذل الدين لصالح الدنيا» ([13]).

وأخيراً أنقل من رسالة صغيرة لعبد المنعم مصطفى حليمة تجميعاً لهذا الموضوع: فصل الكلام في مسألة الخروج على الإمام: «وقال [أي النبي صلى الله عليه وسلم]: (ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منهم فلا يكوننّ عريفاً، ولا شرطياً، ولا جابياً، ولا خازناً)([14])، وقال: (اسمعوا، هل سمعتم أنه سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني، ولست منه، وليس بوارد عليَّ الحوض، ومن لم يدخل عليهم، ولم يعنهم على ظلمهم، ولم يصدقهم بكذبهم،  فهو مني وأنا منه، وهو وارد عليّ الحوض)([15])، وقال: (سيكون أمراء، تعرفون وتنكرون، فمن نابذهم نجا، ومن اعتزلهم سلم، ومن خالطهم هلك) ([16])، وغيرها  كثير من الأحاديث التي تحض على اعتزال العمل عن الطواغيت الظالمين، وعلى اجتنابهم. 

فإن قيل: الأحاديث الآنفة الذكر خاصة بأمراء الجور؟ أقول: أن تُحمل على أئمة الكفر والطغيان من باب أولى وأوكد، والله تعالى أعلم.

ثالثاً: ألا يعترفوا طواعية بشرعيته، وشرعية حكمه ونظامه، ومن ذلك أن لا يُضفوا عليه العبارات التي تفيد الاعتراف بشرعيته كحاكم على البلاد والعباد ...   فإن الأمة لو اجتمعت على ذلك، واتفقت عليه، ولا بد لها من أن تتفق عليه، فإن ذلك مما يعجل من زواله وزوال حكمه عن البلاد والعباد..!»([17]).

وفي السطور الآتية يجد القارئ الكريم صوراً لما ينبغي أن يكون عليه المسلم، وطالب العلم، والعالم، وينظر في هذه الطرق المعروضة أمامه من خلال أحداث التاريخ ، حيث كان العهد بالهدي النبوي قريباً، وحيث يرى شخصيات، وأعلاماً كباراً من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم يعلّمون الناس كيف يكون الأمر عند غياب الحاكم المسلم الذي يريدونه، كما في تصوّرهم، وكيف يجب أن يكون العالم المسلم بين الناس؛ ليقتفي أثر هؤلاء الرهط الذين جنّبوا، أو حاولوا تجنيب الأمة أخطار الفتن، ونتائج المآسي.

وقد سبق الحديث عن أولئك الذين وقعوا في شَرَك الفتن، من القواد والأمراء، وكان الكلام على أحداثهم بشيء من التفصيل، وهي حركات عسكرية، وأما هذا النوع الثاني، فهو من العلماء الذين رأوا أنه لا بد من توجيه الدفة في الحكم، لأنه – برأي عدد منهم – أصبح كسروياً وراثياً، وترك الشورى التي هي أساس تولي الحاكم، فلم يسلّ هؤلاء العلماء سيفاً، ولم يدعوا الناس إلى الثورة، ومحاربة الخلافة، وهؤلاء العلماء ممكن الكلام عنهم على النحو الآتي:

1-  فئة اعتزلت الحكام، وعاشت بعيداً عن الأحداث السياسية، واهتموا بتربية الناس، وتعليمهم أمور دينهم، ودنياهم، ولم يقعوا في براثن أهل الفتن .

2-  فئة كانت مع الخليفة أو الأمير، وساندت النظام القائم، أو ممكن أن نقول عن هذه الفئة إنها كانت موظفة عندهم، بين قضاة، وولاة، وأئمة، وغير ذلك، دون اهتمام بما قد يكون عن الخليفة أو الوالي نوع من الخطأ، أو الانحراف عن المنهج الصحيح، ولم تذكر أيضاً شيئاً عن محاسن هؤلاء الأمراء، والولاة، والخلفاء، ورفضوا أي محاولة من محاولات النيل من الأمراء والولاة، أو مدحهم، والتزلف لهم، لأنهم يرون أن فعلهم قد يكون إضعافاً لهذه الأمة، وإخراجاً لها من خطها الذي ظهرت معالمه في الجهاد والفتوح.

3-  فئة لم تسل سيفاً، أو تنادي بالتحرك ضد الدولة، إلا أنها لم تسكت عما تراه منكراً، بل أنكرته أشد الإنكار، وتحملت تبعة ما نادت به، وهذا هو الأصل الذي يجب أن يكون عند من يريد إعادة الحق.

قبل أن يبدأ الحديث حول هذه الفئات الثلاث، نقول إن خلاف الأمراء لبعض آراء العلماء ليس خطأ دائماً، خصوصاً إذا كان الخلفاء همهم خدمة الإسلام، ونشره، والدعوة له، وليسوا حكاماً اتخذوا غير الإسلام ديناً، ومنهجاً، فهؤلاء الأمراء الأمويون قد يرى بعض العلماء خلاف ما يرون في تسيير أمور الدولة، والأمة، فهناك أمور قد تدعو لها السياسة العامة، أو السياسة الخارجية، أو الداخلية، فينظر لها بعض العلماء من زاويته، بينما يراها الأمراء من زاوية أخرى، وليس بالضرورة أن تكون نظرة العلماء أصح من نظرة الأمراء، وخاصة أن الأمراء في ذلك الوقت كان أكثرهم علماء، ويفهمون نصوص الكتاب والسنة كما يجب أن تُفهم، فالجميع لغتهم واحدة، وفهمهم للنصوص متقارب.

ومثال لهؤلاء الأمراء، ومدى علمهم بالنصوص، وفهمهم لها، ما أورده ابن كثير ؒ عن عمر بن عبد العزيز ؒ عندما أراد الوليد توسعة المسجد النبوي بضم حجر زوجات النبي إلى المسجد النبوي، فجمع عمر، وهو أمير المدينة للوليد، جمع الفقهاء، والعلماء، ووجوه الناس، يقول ابن كثير ؒ:«فَجَمَعَ عُمَرُ بْنُ عَبْد الْعَزيز وُجُوهَ النَّاس، وَالْفُقَهَاءَ الْعَشَرَةَ، وأهل المدينة، وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين الْوَليد، فَشَقَّ عَلَيْهمْ ذَلكَ.

وَقَالُوا: هَذه حُجَرٌ قَصيرَةُ السُّقُوف، وَسُقُوفُهَا منْ جَريد النَّخْل، وَحيطَانُهَا منَ اللَّبن، وَعَلَى أَبْوَابهَا الْمُسُوحُ، وَتَرْكُهَا عَلَى حَالهَا أَوْلَى ليَنْظُرَ إلَيْهَا الْحُجَّاجُ، وَالزُّوَّارُ، وَالْمُسَافرُونَ، وَإلَى بُيُوت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فَيَنْتَفعُوا بذَلكَ، وَيَعْتَبرُوا به، وَيَكُونَ ذَلكَ أَدْعَى لَهُمْ إلَى الزُّهْد في الدُّنْيَا، فَلَا يُعَمّرُونَ فيهَا إلَّا بقَدْر الْحَاجَة، وَهُوَ مَا يَسْتُرُ وَيُكنُّ، وَيَعْرفُونَ أَنَّ هَذَا الْبُنْيَانَ الْعَاليَ إنَّمَا هُوَ منْ أَفْعَال الْفَرَاعنَة، وَالْأَكَاسرَة، وَكُلّ طَويل الْأَمَل، رَاغبٍ في الدُّنْيَا، وَفي الْخُلُود فيهَا.

فَعنْدَ ذَلكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْد الْعَزيز إلَى الْوَليد بمَا أَجْمَعَ عَلَيْه الْفُقَهَاءُ الْعَشَرَةُ الْمُتَقَدّمُ ذكْرُهُمْ، فَأَرْسَلَ إلَيْه يَأْمُرُهُ بالْخَرَاب، وَبنَاء الْمَسْجد عَلَى مَا ذَكَرَ، وَأَنْ يُعَلّيَ سُقُوفَهُ.

فَلَمْ يَجدْ عُمَرُ بُدًّا منْ هَدْمهَا، وَلَمَّا شَرَعُوا في الْهَدْم، صَاحَ الْأَشْرَافُ، وَوُجُوهُ النَّاس من بنى هاشم وغيرهم،  وَتَبَاكَوْا مثْلَ يَوْم مَاتَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وأجاب مَنْ لَهُ ملْكٌ مُتَاخمٌ للْمَسْجد للْبَيْع، فَاشْتَرَى منْهُمْ، وَشَرَعَ في بنَائه، وَشَمَّرَ عَنْ إزَاره، واجتهد في ذلك»([18]).

وبعد مضي أربعة عشر قرناً ويزيد، هل هذه التوسعة أولى للمسجد النبوي، وهدم حجرات النبي وضمها للمسجد، رغم وقوف الفقهاء العشرة، وأشراف الناس، وبني هاشم، وكل المسلمين من سكان المدينة، رغم وقوفهم ضدها، وإصرار الخليفة الوليد عبد الملك، أم الأولى ترك هذه التوسعة، وإبقاء الحجرات النبوية؟.

فهل هذه التوسعة بهذه الظروف والملابسات كانت أصلح، وأمثل للأمة، أم رأي الفقهاء، وجمهور أهل المدينة هو الأمثل؟

قد يكون رأي الخليفة، والأمراء أن إبقاء الحجرات النبوية قد يودي بكثير من أفراد الأمة إلى تقديس هذه البيوت، وجعلها أماكن مقدسة، كما حدث في كثير من الأماكن الإسلامية، وعادوا إلى كثير من الوثنيات، والشركيات، والغلو، والتقديس، والخروج عن الحدود الشرعية من هذا الباب.

فيرى الخليفة أن إقفال هذا الباب بتوسعة المسجد النبوي أفضل، وخصوصاً إذا رأينا الآن أن توسعة المسجد النبوي في عصرنا تغطي مساحة المدينة النبوية قبل الإسلام.

ولو أقفل باب التوسعة للمسجد النبوي، وحصره في مساحة الروضة النبوية –على صاحبها أفضل الصلاة والسلام -، لأحس الناس بضيق المسجد، وعدم تحقيقه للتوسعة على الناس.

ولو وافق الخليفة على رأي الفقهاء، وبقيت الحجرات النبوية إلى عصرنا، لرأينا تاريخاً موثقاً ماثلاً أمامنا، لتاريخ مطلع الإسلام، كما نعلم تاريخ الآشوريين، والفينقيين، وغيرهم من شعوب الأرض، حيث آثارهم تدل على وجودهم، وحياتهم في زمن معين، ومثل هذا نراه مثلاً في تاريخ النبي عيسى صلى الله عليه وسلم، حيث نجد آثاراً كثيراً عن مهده، وأماكن حياته.

فهذا مثال من بعض وجوه الخلاف بين العلماء والحكام.

ومثال آخر من مخالفة الولاة لبعض الأحكام الشرعية، وكيف يكون موقف المسلمين منهم:

يقول الصحابي الجليل عُبادة بن الصَّامت قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: (إنَّها ستكونُ عليكم بعدي أُمراءُ، تَشغَلُهم أشياءُ عن الصلاة لوَقتها، حتَّى يَذهَبَ وقتُها، فصَلُّوا الصَّلاةَ لوَقتها)، فقال رجلٌ: يا رسولَ اللَّه، أُصَلّي معهم؟ قال: (نعم، إن شئتَ)، وقال سُفيان: إن أدرَكتُها معهم أُصلّي معهم؟ قال: (نعم، إن شئت)»([19]).

وروى مسلم عَن الأَسْوَد، وَعَلْقَمَةَ قَالاَ: أَتَيْنَا عَبْدَ اللَّه بْنَ مَسْعُودٍ في دَاره، فَقَالَ: أَصَلَّى هَؤُلاَء خَلْفَكُمْ؟ فَقُلْنَا: لاَ، قَالَ: فَقُومُوا فَصَلُّوا، فَلَمْ يَأْمُرْنَا بأَذَانٍ، وَلاَ إقَامَةٍ، قَالَ: وَذَهَبْنَا لنَقُومَ خَلْفَهُ، فَأَخَذَ بأَيْدينَا، فَجَعَلَ أَحَدَنَا عَنْ يَمينه، وَالآخَرَ عَنْ شمَاله، قَالَ: فَلَمَّا رَكَعَ وَضَعْنَا أَيْديَنَا عَلَى رُكَبنَا، قَالَ: فَضَرَبَ أَيْديَنَا، وَطَبَّقَ بَيْنَ كَفَّيْه، ثُمَّ أَدْخَلَهُمَا بَيْنَ فَخذَيْه، قَالَ: فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: (إنَّهُ سَتَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ، يُؤَخّرُونَ الصَّلاَةَ عَنْ ميقَاتهَا، وَيَخْنُقُونَهَا إلَى شَرَق الْمَوْتَى، فَإذَا رَأَيْتُمُوهُمْ قَدْ فَعَلُوا ذَلكَ، فَصَلُّوا الصَّلاَةَ لميقَاتهَا، وَاجْعَلُوا صَلاَتَكُمْ مَعَهُمْ سُبْحَةً، وَإذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً، فَصَلُّوا جَميعًا، وَإذَا كُنْتُمْ أَكْثَرَ منْ ذَلكَ، فَلْيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، وَإذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَفْرشْ ذرَاعَيْه عَلَى فَخذَيْه، وَلْيَجْنَأْ، وَلْيُطَبّقْ بَيْنَ كَفَّيْه، فَلَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى اخْتلاَف أَصَابع رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَأَرَاهُمْ»([20]).

بعد هذه المقدمة نعود لنعيش مع فئات العلماء، وكيف كانوا مع حكامهم.

أ- فئة اعتزلت:

يمكن القول إن جميع فئات العلماء خلال هذا القرن يجمعها جامع واحد، واتفقت عليه، هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولذلك بعد استعراض الفئتين: الفئة التي اعتزلت الحكام، والفئة التي كانت معهم، سيكون الحديث عن الفئة الثالثة التي لم تترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، نجد أن هذه الفئة فيها من الأولى، والثانية عدد كبير، أي أنهم كلهم اتفقوا على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولكن كل بطريقته.

والفئة التي اعتزلت لها أدلتها في ترك أبواب السلاطين، ولها آراؤها، وعند الحديث عن بيعة يزيد بن معاوية لدى ابن كثير أتى على شيء من آراء هذه الفئة أثناء كلامه على لعن يزيد، فقال: «ذهب إلى الترخيص في لعنة يزيد بن معاوية، وهو رواية عن أحمد بن حنبل، اختارها الخلال، وأبو بكر عبد العزيز، والقاضي أبو يعلى، وابنه القاضي أبو الحسين، وانتصر لذلك أبو الفرج بن الجوزي في مصنف مفرد وجوّز لعنته، ومنع من ذلك آخرون، وصنفوا فيه أيضاً لئلا يجعل لعنه وسيلة إلى أبيه، أو أحد من الصحابة، وحملوا ما صدر عنه من سوء التصرفات على أنه تأول، وأخطأ، وقالوا: إنه كان مع ذلك إماماً فاسقاً، والإمام إذا فسق لا يعزل بمجرد فسقه على أصح قولي العلماء، بل يجوز الخروج عليه لما في ذلك من  إثارة الفتنة، ووقوع الهرج، وسفك الدماء الحرام، ونهب الأموال، وفعل الفواحش مع النساء وغيرهن، وغير ذلك مما كل واحدة فيها من الفساد أضعاف فسقه، كما جرى مما تقدم إلى يومنا هذا»([21]).

وهذا أمر غريب من أمثال هذه العلماء، كيف يتوصولون إلى فسق يزيد بسبب روايات التاريخ التي لا سند لها، بينما هناك روايات حديثية لم توافق على هذا الرأي، كما رأينا من ابن عمر، وابن الحنفية رحمهما الله، وغيرهما؟

وما ذكره من أنه يُخشى من لعنه التوصل إلى أبيه، وإلى غيره من الصحابة، ويؤيد صحة هذا الر أي ما نراه عند الروافض، ومن لفّ لفيفهم.

فهذه الأسباب التي جعلت هؤلاء يسكتون، ولا يثورون، وجعلت مثل عمرو البكالي ؒ يقول: ««إذَا أَمَرَكَ الْإمَامُ بالصَّلَاة، وَالزَّكَاة، وَالْجهَاد في سَبيل اللَّه، فَقَدْ حَلَّتْ لَكَ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ، وَحَرُمَ عَلَيْكَ سَبُّهُ»([22]).

ومع كل هذه الأفكار فقد رأى هؤلاء أن عليهم الابتعاد عن أبواب الأمراء، وعدم الاقتراب منهم، فهذا جعفر الصادق ؒ مع أنه لم يسل سيفاً، أو يشرعه في وجه سلطان، ولم يتنقص سلطاناً، أو يطالب بالثورة عليه، طالب باعتزال السلاطين، والابتعاد عن أبوابهم، فروي عنه: «الْفُقَهَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُل، فَإذَا رَأَيْتُمُ الْفُقَهَاءَ قَدْ رَكبُوا إلَى السَّلَاطين فَاتَّهمُوهُمْ»([23]).

وهذه الجملة مروية بروايات عدة، ومنهم من رفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصح رفعها، واحتج بها كثير من أهل العلم، ونسبتها إلى جعفر بن محمد أو غيره، أولى من نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وابتعاد هذه الفئة عن الحاكم، ونفورها من بابه ليس معناه أنهم تركوه وشأنه يفعل ما يريد، فهم إما سكتوا عنه خوف الفتنة، والإرجاف بين الناس، وإما أنهم لم يتهموه بدينه، والكفر بدين اللَّه، ومع هذه التعليلات لم ينسوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فما رأوه من أمور الناس مخالفاً لما يعرفونه من نصوص نبهوا عليها بحكمة، ولم يسكتوا عنه.

وهذه بعض الروايات حول هؤلاء النفر، مرتبة حسب الترتيب الألفبائي:

1- أسامة بن زيد:

«واعتزل أسامة الفتن بعد قتل عثمان، إلى أن مات في أواخر خلافة معاوية، وكان قد سكن المزة من عمل دمشق، ثم رجع فسكن وادي القرى، ثم نزل إلى المدينة، فمات بها بالجرف»([24]).

2- الأسود بن سريع:

صحابي غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه، ونزل البصرة، وقصّ بها([25])، ولما قتل عثمان، ركب الأسود سفينة، وحمل معه أهله وعياله، فانطلق، فما رئي بعد([26]).

3- جرير بن عبد الله البجلي:

أسلم بعد نزول المائدة عندما وفد عَلَى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم سَنَة عشر، فأسلم في رمضان، فأكرم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مقدمه، وَكَانَ بديع الجمال، مليح الصورة إلَى الغاية، طويلًا، قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «عَلَى وجهه مسحة مَلَك»، وَرُويَ عَن عمر رضي الله عنه قَالَ: جَريرُ يوسف هَذه الأمة، ولما قتل عثمان اعتزل عليًا وَمُعَاويَة، وأقام بنواحي الجزيرة حتى توفي([27]).

4- الحسن البصري:

أدرك الحسن البصري عدة فتن، وكاد أن يسير في ركاب ابن الأشعث، كما حصل مع سعيد بن جبير ؒ، إلا أنه خرج منها، وتركها.

يروي الإمام ابن كثير ؒ عن أَيُّوب السّخْتيَانيُّ ؒ: «إنَّ الْحَجَّاجَ أَرَادَ قَتْلَ الْحَسَن مرَارًا، فَعَصَمَهُ اللَّهُ منْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ مَعَهُ مُنَاظَرَاتٍ...

عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَكُنْ ممَّنْ يَرَى الْخُرُوجَ عَلَيْه، وَكَانَ يَنْهَى أَصْحَابَ ابْن الْأَشْعَث عَنْ ذَلكَ، وَإنَّمَا خَرَجَ مَعَهُمْ مُكْرَهًا كَمَا قَدَّمْنَا، وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: إنَّمَا هُوَ نقْمَةٌ فَلَا تُقَابَلُ نقْمَةُ اللَّه بالسَّيْف، وَعَلَيْكُمْ بالصَّبْر وَالسَّكينَة وَالتَّضَرُّع»([28]).

وفي فتنة يزيد بن المهلب يقول ابن كثيرؒ: «وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْريُّ في هَذه الْأَيَّام يُحَرّضُ النَّاسَ عَلَى الْكَفّ، وَتَرْك الدُّخُول في الْفتْنَة، وَيَنْهَاهُمْ أَشَدَّ النهي، وذلك لما وقع من القتال الطَّويل الْعَريض في أَيَّام ابْن الْأَشْعَث، وَمَا قتل بسبب ذَلكَ منَ النُّفُوس الْعَديدَة، وَجَعَلَ الْحَسَنُ يَخْطُبُ الناس ويعظهم في ذلك، ويأمرهم بالكف»([29]).

وكان مما قال لهم في قتال الحجاج: «أَرَى أَنْ لَا تُقَاتلُوهُ؛ فَإنَّهَا إنْ تَكُنْ عُقُوبَةً منَ اللَّه، فَمَا أَنْتُمْ برَادّي عُقُوبَةَ اللَّه بأَسْيَافكُمْ، وَإنْ يَكُنْ بَلَاءٌ، فَاصْبرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ، وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكمينَ»([30]).

وفي رواية أخرى لابن سعد: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّهُ وَاللَّه مَا سَلَّطَ اللَّهُ الْحَجَّاجَ عَلَيْكُمْ إلَّا عُقُوبَةً، فَلَا تُعَارضُوا عُقُوبَةَ اللَّه بالسَّيْف، وَلَكنْ عَلَيْكُمُ السَّكينَةَ وَالتَّضَرُّعَ»([31]).

وقَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَزيدَ الْعَبْديُّ قَالَ: سَمعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: «لَوْ أَنَّ النَّاسَ إذَا ابْتُلُوا منْ قبَل سُلْطَانهمْ صَبَرُوا مَا لَبثُوا أَنْ يُفْرَجَ عَنْهُمْ، وَلَكنَّهُمْ يَجْزَعُونَ إلَى السَّيْف، فَيُوَكَّلُونَ إلَيْه، فَوَاللَّه مَا جَاؤُوا بيَوْم خَيْرٍ قَطُّ»([32]).

وعندما سئل عن الفتن التي وقعت في عصره، مثل فتنة يزيد بن المهلب، وفتنة محمد بن عبد الرحمن بن الأشعث: «يَا أبا سَعيدٍ، مَا تَقُولُ في الْفتَن، مثْل يَزيدَ بْن الْمُهَلَّب، وَابْن الأَشْعَث؟ فَقَالَ: لا تَكُنْ مَعَ هَؤُلاء، وَلا مَعَ هَؤُلاء»([33]).

وعندما طلبوا منه أن يدخل على الأمراء: «حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ مهْرَانَ قَالَ: قيلَ للْحَسَن: أَلَا تَدْخُلُ عَلَى الْأُمَرَاء، فَتَأْمُرَهُمْ بالْمَعْرُوف، وَتَنْهَاهُمْ عَن الْمُنْكَر؟ قَالَ: لَيْسَ للْمُؤْمن أَنْ يُذلَّ نَفْسَهُ، إنَّ سُيُوفَهُمْ لَتَسْبقُ أَلْسنَتَنَا، إذَا تَكَلَّمْنَا قَالُوا بسُيُوفهمْ هَكَذَا، وَوَصَفَ لَنَا بيَده ضَرْبًا»([34]).

ولذلك كان رأيه الابتعاد عن أبواب السلاطين بقدر الاستطاعة، وكان يوبخ الذين يتزلفون إلى السلطان، فقد «خَرَجَ الْحَسَنُ منْ عنْد ابْن هُبَيْرَةَ، فَإذَا هُوَ بالْقُرَّاء عَلَى الْبَاب، فَقَالَ: «مَا يُجْلسُكُمْ هَاهُنَا؟ تُريدُونَ الدُّخُولَ عَلَى هَؤُلَاء الْخُبَثَاء؟ أَمَا وَاللَّه، مَا مُجَالَسَتُهُمْ بمُجَالَسَة الْأَبْرَار، تَفَرَّقُوا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ أَرْوَاحكُمْ، وَأَجْسَادكُمْ، قَدْ لَقَّحْتُمْ نعَالَكُمْ، وَشَمَّرْتُمْ ثيَابَكُمْ، وَجَزَزْتُمْ شُعُورَكُمْ، فَضَحْتُمُ الْقُرَّاءَ فَضَحَكُمُ اللَّهُ، وَأَمَا وَاللَّه لَوْ زَهَدْتُمْ فيمَا عنْدَهُمْ، لَرَغبُوا فيمَا عنْدَكُمْ، لَكنَّكُمْ رَغبْتُمْ فيمَا عنْدَهُمْ، فَزَهدُوا فيمَا عنْدَكُمْ، أَبْعَدَ اللَّهُ مَنْ أَبْعَدَ»([35]).

وهكذا كان الحسن البصري ؒ، فهو بقدر ما يهرب من أبواب الأمراء، وهم كما نعلم أنهم كانوا من دعاة الإسلام، والمجاهدين في سبيل اللَّه، ويدعو إلى الابتعاد عنهم، إلا أنه كان يمنع من قتالهم، أو القيام عليهم، ويرفض حمل السيف في وجوههم، أو الدعوة للخروج عليهم، لأنه يعتبر هذا من الفتنة التي تدمر الأمة، وتلقي بها في المهالك.

5- حذيفة بن اليمان:

وهو صحابي جليل له رواية في الحديث النبوي، أسلم وأبوه، وهاجرا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وشهدا أُحُدًا، وقُتل أبوه يومئذ، وأسلمت أمه وهاجرت([36]).

وحذيفة رضي الله عنه هو الذي روى حديث الفتنة، «قَالَ أَبُو إدْريسَ الْخَوْلَانيُّ سَمعتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَان يَقُولُ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عَنْ الْخَيْر، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرّ؛ مَخَافَةَ أَنْ يُدْركَني، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه، إنَّا كُنَّا في جَاهليَّةٍ، وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بهَذَا الْخَيْر، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْر منْ شَرٍّ؟ قَالَ: (نَعَمْ)، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلكَ الشَّرّ منْ خَيْرٍ؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَفيه دَخَنٌ)، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: (قَوْمٌ يَهْدُونَ بغَيْر هَدْيي، تَعْرفُ منْهُمْ، وَتُنْكرُ) قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلكَ الْخَيْر منْ شَرٍّ؟ قَالَ: (نَعَمْ، دُعَاةٌ إلَى أَبْوَاب جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إلَيْهَا قَذَفُوهُ فيهَا)، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه، صفْهُمْ لَنَا، فَقَالَ: (هُمْ منْ جلْدَتنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بأَلْسنَتنَا)، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُني إنْ أَدْرَكَني ذَلكَ؟ قَالَ: (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلمينَ وَإمَامَهُمْ)، قُلْتُ: فَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ، وَلَا إمَامٌ؟ قَالَ: (فَاعْتَزلْ تلْكَ الْفرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بأَصْل شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْركَكَ الْمَوْتُ، وَأَنْتَ عَلَى ذَلكَ»([37]).

ووردت ألفاظ أخرى لهذا الحديث في غير هذه الرواية:

« يَكُونُ بَعْدى أَئمَّةٌ لاَ يَهْتَدُونَ بهُدَايَ، وَلاَ يَسْتَنُّونَ بسُنَّتي، وَسَيَقُومُ فيهمْ رجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطين في جُثْمَان إنْسٍ »، قَالَ قُلْتُ كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّه إنْ أَدْرَكْتُ ذَلكَ قَالَ « تَسْمَعُ وَتُطيعُ للأَمير، وَإنْ ضُربَ ظَهْرُكَ، وَأُخذَ مَالُكَ، فَاسْمَعْ وَأَطعْ » ([38]).

وفي رواية: «فتْنَةٌ عَمْيَاءُ، صَمَّاءُ، عَلَيْهَا دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَاب النَّار، وَأَنْتَ أَنْ تَمُوتَ يَا حُذَيْفَةُ، وَأَنْتَ عَاضٌّ عَلَى جذْلٍ، خَيْرٌ لَكَ منْ أَنْ تَتَّبعَ أَحَدًا منْهُمْ»([39]).

وفي رواية: «قُلْتُ: فَمَا يَكُونُ بَعْدَ الْهُدْنَة؟ قَالَ: «دُعَاةُ الضَّلَالَة، فَإنْ رَأَيْتَ يَوْمَئذٍ للَّه U في الْأَرْض خَليفَةً فَالْزَمْهُ، وَإنْ ضَرَبَ ظَهْرَكَ، وَأَخَذَ مَالَكَ، وَإنْ لَمْ تَرَ خَليفَةً، فَاهْرُبْ حَتَّى يُدْركَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَاضٌّ عَلَى جذْل شَجَرَةٍ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه فَمَا يَكُونُ بَعْدَ ذَلكَ؟ قَالَ: «الدَّجَّالُ»([40]).

ورواية عَنْ زَيْد بْن وَهْبٍ، قَالَ: سَمعْتُ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: «إنَّ الْفتْنَةَ وُكّلَتَ بثَلَاثٍ: بالْحَادّ النّحْرير الَّذي لَا يَرْتَفعُ لَهُ شَيْءٌ إلَّا قَمَعَهُ بالسَّيْف، وَبالْخَطيب الَّذي يَدْعُو إلَيْهَا، وَبالسَيّد، فَأَمَّا هَذَان فَتَبْطَحُهُمَا لوُجُوههمَا، وَأَمَّا السَّيّدُ فَتَبْحَثُهُ حَتَّى تَبْلُوَ مَا عنْدَهُ»([41]).

ورواية عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: «إيَّاكُمْ وَمَوَاقفَ الْفتَن» قيلَ: وَمَا مَوَاقفُ الْفتَن يَا أَبَا عَبْد الله؟ قَالَ: «أَبْوَابُ الْأُمَرَاء، يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ عَلَى الْأَمير فَيُصَدّقُهُ بالْكَذب، وَيَقُولُ مَا لَيْسَ فيه»([42]).

وعَنْ شمْرٍ، قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ: «أَيَسُرُّكَ أَنْ تَقْتُلَ أَفْجَرَ النَّاس»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «إذَنْ تَكُونُ أَفْجَرَ منْهُ»([43]).

وعلى هذا يكون حذيفة بن اليمان رضي الله عنه من الذين لا يقبلون الدخول على الحكام، ولا يقبلون مقارعتهم أيضاً، بل يعتزلهم، كما فُهم من حديثه الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

6- خريم بن الأخرم:

صحابي جليل، مختلف في شهوده بدراً، روى الحاكم ؒ: «قال مسلم، والبخاريّ، والدّارقطنيّ وغيرهم: له صحبة، وزاد البخاريّ في التّاريخ: شهد بدراً، وكأنه أشار إلى الحديث الآتي: قال ابن سعد: كان الشّعبي يروي عن أيمن بن خريم، قال: إن أبي وعمي شهدا بدراً، وعهدا ألا أقاتل مسلماً»([44]).

وعنْ قَيْس بْن أَبي حَازمٍ، وَعَامرٍ الشَّعْبيّ، قَالَا: قَالَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَم لأَيْمَنَ بْن خُرَيْمٍ: أَلَا تَخْرُجْ فَتُقَاتلْ مَعَنَا؟ فَقَالَ: إنَّ أَبي وَعَمّي شَهدَا بَدْرًا، وَإنَّهُمَا عَهدَا إلَيَّ أَنْ لَا أُقَاتلَ أَحَدًا يَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإنْ أَنْتَ جئْتَني ببَرَاءَةٍ منَ النَّار، قَاتَلْتُ مَعَكَ، قَالَ: فَاخْرُجْ عَنَّا، قَالَ: فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ:

وَلَسْتُ بقَاتلٍ رَجُلًا يُصَلّي     عَلَى سُلْطَانٍ آخَرَ منْ قُرَيْش   لَهُ سُلْطَانُهُ وَعَلَيَّ إثْمي     مُعَاذَ اللَّه منْ جَهْلٍ وَطَيْش   أَأَقْتُلُ مُسْلمًا في غَيْر جُرْمٍ     فَلَيْسَ بنَافعي مَا عشْتُ عَيْشي  

هَذَا حَديثٌ صَحيحُ الْإسْنَاد عَلَى شَرْط الشَّيْخَيْن»([45]).

7- سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:

أَحَدُ الْعَشَرَة الْمَشْهُود لَهُمْ بالْجَنَّة، وَأَحَدُ السّتَّة أَصْحَاب الشُّورَى الَّذينَ تُوُفّيَ رَسُولُ الله وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، أَسْلَمَ قَديمًا، وَكَانَ فَارسًا شُجَاعًا منْ أُمَرَاء رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَقَد اسْتَنَابَهُ عمر عَلَى الْكُوفَة، وكان سيداً مطاعاً، وَثَبَتَ في صَحيح مُسْلمٍ أَنَّ ابْنَهُ عُمَرَ جَاءَ إلَيْه وَهُوَ مُعْتَزلٌ في إبله، فَقَالَ: النَّاسُ يَتَنَازَعُونَ الْإمَارَةَ وَأَنْتَ هَاهُنَا؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إنّي سَمعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ يُحبُّ الْعَبْدَ الْغَنيَّ الْخَفيَّ الْتَقيَّ»([46]).

وقد أورد ابْنُ عَسَاكرَ رواية دون إسناد، وعزاها لبعض أهل العلم، وعلى ما يظهر أخذها عن الزبير بن بكار، كما ذكر ذلك الصفدي، ونقلها عن ابن عساكر ابن كثير فقال: «ذَكَرَ بَعْضُ أَهْل الْعلْم أَنَّ ابْنَ أَخيه هَاشمَ بْنَ عُتْبَةَ بْن أَبي وَقَّاصٍ جاءه فقال له: يا عم، ها هنا مائَةُ أَلْف سَيْفٍ يَرَوْنَكَ أَحَقَّ النَّاس بهَذَا الْأَمْر.

فَقَالَ: أُريدُ منْ مائَة أَلْف سَيْفًا وَاحدًا، إذَا ضَرَبْتُ به الْمُؤْمنَ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، وَإذَا ضَرَبْتُ به الْكَافرَ قَطَعَ.

وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاق عَن ابْن جُرَيْجٍ: حَدَّثَني زَكَريَّا بن عمرو أن سَعْدَ بْنَ أَبي وَقَّاصٍ وَفَدَ عَلَى مُعَاويَةَ، فَأَقَامَ عنْدَهُ شَهْرَ رَمَضَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَيُفْطرُ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: فَبَايَعَهُ، وَمَا سَأَلَهُ سَعْدٌ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ»([47]).

بينما ذكر الحاكم عَن ابْن سيرينَ، قَالَ: قيلَ لسَعْد بْن أَبي وَقَّاصٍ: أَلَا تُقَاتلُ فَإنَّكَ منْ أَهْل الشُّورَى، وَأَنْتَ أَحَقُّ بهَذَا الْأَمْر منْ غَيْركَ، قَالَ: «لَا أُقَاتلُ حَتَّى يَأْتُوني بسَيْفٍ لَهُ عَيْنَان وَلسَانٌ وَشَفَتَان يَعْرفُ الْكَافرَ منَ الْمُؤْمن، قَدْ جَاهَدْتُ وَأَنَا أَعْرفُ الْجهَادَ، وَلَا أَنْجَعُ بنَفْسي إنْ كَانَ رَجُلًا خَيْرًا منّي» هَذَا حَديثٌ صَحيحٌ عَلَى شَرْط الشَّيْخَيْن، وَلَمْ يُخْرجَاهُ»([48]).

وأما رواية ابن سعد عَنْ مُحَمَّدٍ بن عمر الواقدي قَالَ: «نُبّئْتُ أَنَّ سَعْدًا كَانَ يَقُولُ: مَا أَزْعُمُ أَنّي بقَميصي هَذَا أَحَقُّ منّي بالْخلَافَة، قَدْ جَاهَدْتُ إذْ أَنَا أَعْرفُ الْجهَادَ، وَلَا أَبْخَعُ نَفْسي إنْ كَانَ رَجُلٌ خَيْرًا منّي، لَا أُقَاتلُ حَتَّى تَأْتُوني بسَيْفٍ لَهُ عَيْنَان، وَلسَانٌ وَشَفَتَان، فَيَقُولَ: هَذَا مُؤْمنٌ، وَهَذَا كَافرٌ»([49]).

8- شريح بن الحارث:

القَاضي الْكُوفي، مخضرم أدْرك الْجَاهليَّة، ولم يرَ النبي صلى الله عليه وسلم، وفد من الْيمن بعد النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولاه عمر القَضَاء، وعثمان، وعلي بن أبي طالب، وعزله علي، ثم ولاه معاوية، وَأقَام على الْقَضَاء ستّينَ سنة،  وَجَاء أَنه استعفى من الْقَضَاء قبل مَوته بسنة، وَتُوفّي سنة سبع وَسبعين، وَقيل غيرها، وَله مائَة وثمان سنين، أَو وَعشر سنين، أَو وَعشْرُونَ سنة.

وكانت فتنة ابن الزُّبَيْر تسع سنين.

عن شريح قال: لما كانت الفتنة لم أسأل عنها.

فقال رجل: لو كنت مثلك ما باليت متى مت، فقال شريح: فكيف بما في قلبي.

وقد رواه شقيق بن سلمة عن شريح قال: في الفتنة ما استخبرت، ولا أخبرت، ولا ظلمت مسلماً، ولا معاهداً ديناراً، ولا درهماً.

قَالَ شُرَيْحٌ في الْفتْنَة الَّتي كَانَتْ عَلَى عَهْد ابْن الزُّبَيْر: مَا سَأَلْتُ فيهَا، وَلَا أَخْبَرْتُ.

قَالَ جَعْفَرٌ: وَبَلَغَني أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: وَأَنَا أَخَافُ أَنْ لَا أَكُونَ نَجَوْتُ.

لَبثَ شُرَيْحٌ في الْفتْنَة تسْعَ سنينَ لَا يُخْبرُ، وَلَا يَسْتَخْبرُ، فَقيلَ لَهُ: قَدْ سَلمْتَ.

قَالَ: فَكَيْفَ بالْهَوَى؟([50]).

9- عبد الرحمن بن أبي بكر:

أما عبد الرحمن بن أبى بكر، فشهد يوم بدر، وأحد مع المشركين، ودعا إلى البراز، فقام إليه أبوه ليبارزه، فذكر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ له: متعنا بنفسك، ثمّ أسلم، وحسن إسلامه، ومات فجأة سنة ثلاث وخمسين بجبل بقرب مكة، فأدخلته عائشة بنت أبى بكر الحرم، ودفنته، وأعتقت عنه، شهد الجمل، وقدم على ابن عامر البصرة، لهُ صُحْبَة مع النَّبي صلى الله عليه وسلم، وَيُقَال أسلم في هدنة الْحُدَيْبيَة، سكن المدينة، وتوفي بمكة، ولا يعرف في الصحابة أربعة ولاء: أب، وبنوه بعده، كل منهم ابْنُ الَّذي قبله، أسلموا وصحبوا النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إلا أَبُو قحافة، وكان عبد الرحمن شجاعًا، حَسن الرمي، سمع النَّبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه، شقيق عائشة، ثم أسلم، وحسن إسلامه، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية، وشهد اليمامة مع خالد، فَقَتل سبعة من كبار الكفار، وهو قاتل محكم اليمامة ابن الطفيل، رماه بسهم في نحره فقتله، مَاتَ سنة ثَمَان وَخمسين قبل عَائشَة، وَقيل سنة ثَلَاث وَخمسين، وَحمل إلَى مَكَّة وَدفن بهَا.

أخرج البخاريّ، من طريق يوسف بن ماهك: كان مروان على الحجاز استعمله معاوية، فخطب، فذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاً، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة، فقال مروان: هذا الّذي أنزل اللَّه فيه: ﴿وَالَّذي قالَ لوالدَيْه أُفٍّ لَكُما﴾ [الأحقاف: 17]، فأنكرت عائشة ذلك من وراء الحجاب.

وخطب معاوية، فدعا الناس إلى بيعة يزيد، فكلمه الحسين بن علي، وابن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، فقال له عبد الرحمن: أهرقلية، كلما مات قيصر كان قيصر مكانه؟ لا نفعل واللَّه أبداً.

بعث معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر بعد ذلك بمائة ألف، فردّها، وقال: لا أبيع ديني بدنياي.

وخرج إلى مكة، فمات بها قبل أن تتمّ البيعة ليزيد([51]) .

ومع أن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه لم يبايع معاوية ليزيد، واعتبر الأمر هرقلية، وكسروية، ورفض أن يكون مع معاوية، أو يقبل منه عطاء، مع ذلك لم يُبد له عداوة، أو خروجاً، بل تركه، واعتزل في مكة حتى توفي رضي الله عنه.

10- عبد اللَّه بن عكيم:

أَبُو معبد أدْرك النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف لَهُ سماع صحيح، فَلم يسمع منْهُ شَيْئاً، كتب النَّبي صلى الله عليه وسلم إلَى جُهَيْنَة قبل مَوته بشهرين، وأنفذ إلَيْه الْحجَّاج في علّة، فَقَامَ عَبْد اللَّه بْن عكيم فَتَوَضَّأ، وَصلى رَكْعَتَيْن، ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إنَّك تعلم أَنّي لم أزن، وَلم أسرق قطّ، وَلم آكل مَال يَتيم قطّ، وَلم أقذف مُحصنَة قطّ، فَإن كنت صَادقاً فادرأ عني شَره، فَأَتَاهُ نائله، وَلم يتَعَرَّض بشَيْء يكرههُ ([52]).

وكان عبد الله بن عكيم يرى أن ذكر السلطان بسوء فتنة مرفوضة، ومحاولة لقتله، ولذلك قَالَ: «لَا أُعينُ عَلَى دَم خَليفَةٍ أَبَدًا بَعْدَ عُثْمَانَ، قَالَ: فَيُقَالُ لَهُ: يَا أَبَا مَعْبَدٍ، أَوَ أَعَنْتَ عَلَى دَمه؟ فَقَالَ: إنّي لَأَعُدُّ ذكْرَ مَسَاويه عَوْنًا عَلَى دَمه»، وقد مات في ولاية الحجاج بن يوسف الثقفي ([53]).

11- عبد الله بن عمر ب:

 يكنى: أبا عبد الرّحمن، وأسلم مع إسلام أبيه بمكة، وهاجر مع أبيه وأمه إلى المدينة، وهو ابن عشر سنين، من رجالات «قريش»، وكان وصيّ أبيه، وله عقب بالمدينة، شهد المشاهد كلها بعد يوم: بدر، واستصغر يوم أحد، وشهد الخندق مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبقي حتى مات في سنة ثلاث وسبعين، وبقي إلى زمن عبد الملك([54]).

وقد سأله أحدهم: يَا أَبَا عَبْد الرَّحْمَن، حَدّثْنَا عَن الْقتَال في الْفتْنَة، وهو يعلم أن ابن عمر يعتبر القتال بين المسلمين من الفتنة، يُريدُ أَنْ يَحْتَجَّ بالْآيَة عَلَى مَشْرُوعيَّة الْقتَال في الْفتْنَة، وَأَنَّ فيهَا الرَّدَّ عَلَى مَنْ تَرَكَ ذَلكَ، ولذلك ردّ عليه ابْن عُمَرَ: ثَكلَتْكَ أُمُّكُ، الضَّميرَ في قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَاتلُوهُمْ﴾ للْكُفَّار، فَأَمَرَ الْمُؤْمنينَ بقتَال الْكَافرينَ حَتَّى لَا يَبْقَى أَحَدٌ يُفْتَنُ عَنْ دين الْإسْلَام، وَيَرْتَدُّ إلَى الْكُفْر، وَوَقَعَ نَحْوُ هَذَا مع نَافع بْن الْأَزْرَق الخارجي، فَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ عَنْ دينه، فمحمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين، وَكَانَ الدُّخُولُ في دينهمْ فتْنَةٌ، وَلَيْسَ كَقتَالكُمْ عَلَى الْمُلْك، أَيْ في طَلَب الْمُلْك يُشيرُ إلَى مَا وَقَعَ بَيْنَ مَرْوَانَ ثُمَّ عَبْد الْمَلك ابْنه، وَبَين بن الزبير، وَمَا أشبه ذَلك، وَكَانَ رَأْي ابن عُمَرَ تَرْكَ الْقتَال في الْفتْنَة([55]).

وقد روى مسلم عَنْ أَبي نَوْفَلٍ، رَأَيْتُ عَبْدَ الله بْنَ الزُّبَيْر عَلَى عَقَبَة الْمَدينَة، قَالَ: فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ تَمُرُّ عَلَيْه، وَالنَّاسُ حَتَّى مَرَّ عَلَيْه عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ، فَوَقَفَ عَلَيْه فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ، أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، أَمَا وَالله لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَالله لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَالله لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَالله إنْ كُنْتَ، مَا عَلمْتُ، صَوَّامًا، قَوَّامًا، وَصُولًا للرَّحم، أَمَا وَالله لَأُمَّةٌ أَنْتَ أَشَرُّهَا لَأُمَّةٌ خَيْرٌ»([56]).

ولهذا المعطيات عن ابن عمر ب كان في أيام الفتنة يقبل بكل الأمراء الذين يأتونه، ويطيعهم، ويمنع التحول عنهم، وقد ذكر ابن سعد بسند صحيح عَنْ زَيْد بْن أَسْلَمَ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، كَانَ في زَمَان الْفتْنَة لَا يَأْتي أَميرٌ إلَّا صَلَّى خَلْفَهُ، وَأَدَّى إلَيْه زَكَاةَ مَاله([57]).

12- عبد اللَّه بن عون:

عبد اللَّه بن عون بن أرطبان مولى مزينة، وأتى أنس بن مالك، الحافظ أحد الأئمة الأعلام، كَانَ للْقُرْآن تَاليًا، وَللْجَمَاعَة مُوَاليًا، وَعَنْ أَعْرَاض الْمُسْلمينَ عَافيًا، مات سنة إحدى وخمسين ومائة ([58]).

روى ابن سعد عن «بَكَّارُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَعَت الْمُعْتَزلَةُ بابْن عَوْنٍ إلَى إبْرَاهيمَ بْن عَبْد اللَّه بْن حَسَنٍ، فَقَالُوا: إنَّ هَهُنَا رَجُلًا يَرْبُثُ النَّاسَ عَنْكَ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّه بْنُ عَوْنٍ، فَأَرْسَلَ إلَيْه أَنْ مَا لي وَلَكَ، فَخَرَجَ عَن الْبَصْرَة حَتَّى نَزَلَ الْقُرَيْظيَّةَ، فَلَمْ يَزَلْ بهَا حَتَّى كَانَ منْ أَمْر إبْرَاهيمَ مَا كَانَ.

قَالَ بَكَّارٌ: «وَرَأَيْتُ ابْنَ عَوْنٍ لَمَّا خَرَجَ إبْرَاهيمُ بْنُ عَبْد اللَّه بْن حَسَنٍ أَمَرَ بأَبْوَابه - وَكَانَتْ شَارعَةً عَلَى سكَّة الْمرْبَد - فَغُلّقَتْ، فَلَمْ يَكُنْ يَدَعُ أَحَدًا يَطْلُعُ، وَلَا يَنْظُرُ، وَلَا يَفْتَحُ بَابًا»([59]).

13- عبد الله بن مسعود:

الصحابي الجليل الكبير عَبْدُ اللَّه بْنُ مَسْعُود بْن غَافل بْن حَبيب، وَيُكْنَى أَبَا عَبْد الرَّحْمَن، أَسْلَمَ قَبْلَ دُخُول رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم دَارَ الْأَرْقَم، وروى عَليّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كُنْتُ مُؤَمّرًا أَحَدًا دُونَ شُورَى الْمُسْلمينَ لَأَمَّرْتُ ابْنَ أُمّ عَبْدٍ»، مَاتَ عَبْدُ اللَّه بْنُ مَسْعُودٍ بالْمَدينَة وَدُفنَ بالْبَقيع سَنَةَ اثْنَتَيْن وَثَلَاثينَ، وصَلَّى عَلَى عَبْد اللَّه بْن مَسْعُودٍ عَمَّارُ بْنُ يَاسرٍ، وَقَالَ قَائلٌ: صَلَّى عَلَيْه عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَاسْتَغْفَرَ كُلُّ وَاحدٍ منْهُمَا لصَاحبه قَبْلَ مَوْت عَبْد اللَّه، قَالَ: وَهُوَ أَثْبَتُ عنْدَنَا: إنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ صَلَّى عَلَيْه، قَالَ: وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّه عَنْ أَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ([60]).

ولَمَّا بَعَثَ عُثْمَانُ إلَى عَبْد اللَّه بْن مَسْعُودٍ يَأْمُرُهُ بالْخُرُوج إلَى الْمَدينَة اجْتَمَعَ إلَيْه النَّاسُ، وَقَالُوا: أَقمْ وَلا تَخْرُجْ، وَنَحْنُ نَمْنَعُكَ أَنْ يَصلَ إلَيْكَ شَيْءٌ تَكْرَهُهُ منْهُ، فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّه: إنَّ لَهُ عَلَيَّ طَاعَةً، وَأَنَّهَا سَتَكُونُ أُمُورٌ وَفتَنٌ، لا أُحبُّ أَنْ أَكُونَ أَوَّلُ مَنْ فَتَحَهَا، فر الناس، وخرج إلَيْه، وروي عَن ابْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ حين نافر الناس عُثْمَان رضي الله عنه: مَا أحب أني رميت عُثْمَان بسهم، وقال بعض أصحابه: مَا سمعت ابْن مَسْعُود يَقُول في عُثْمَان شيئاً قط، وسمعته يَقُول: لئن قتلوه لا يستخلفون بعده مثله، ولما مات ابْن مَسْعُود نعي إلَى أَبي الدرداء، فَقَالَ: مَا ترك بعده مثله، ومات ابْن مَسْعُود رحمه الله بالمدينة سنة([61]).

14- محمد بن مسلمة:

ابْن سَلمَة بن خَالد بن عدي، حَليف لبني الْأَشْهَل الْأنْصَاريّ الْحَارثيّ، يكنى أَبَا عبد الرَّحْمَن، وقيل غير ذلك، شهد بَدْرًا، والمشاهد كلهَا، وَكَانَت وَفَاته في صفر سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين، وَقيل سنة ستّ وَأَرْبَعين، وَهُوَ ابْن سبع وَسبعين سنة، وكَانَ أسمر شَديد السمرَة، وَكَانَ من فضلاء الصَّحَابَة، وَهُوَ أحد الَّذين قتلوا كَعْب بن الْأَشْرَف الْيَهُوديّ بأَمْر رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، اسْتَخْلَفَهُ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الْمَدينَة في بعض غَزَوَاته، قَالَ حُذَيْفَةُ: «مَا أَحَدٌ تُدْركُهُ الْفتْنَةُ، إلَّا وَأَنَا أَخَافُهَا عَلَيْه، إلَّا مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، فَإنّي سَمعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَهُ: «لَا تَضُرُّكَ الْفتْنَةُ»، ورواية أبي داود بسند صحيح([62]) قَالَ حُذَيْفَةُ: مَا أَحَدٌ منَ النَّاس تُدْركُهُ الْفتْنَةُ، إلَّا أَنَا أَخَافُهَا عَلَيْه إلَّا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَإنّي سَمعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «لَا تَضُرُّكَ الْفتْنَةُ»، وَلم يشْهد محمد بن سلمة الْجمل، وَلَا صفّين، وَاعْتَزل الْفتْنَة، وَاتخذ سَيْفاً من خشب، وَجعله في جفن، وَذكر أَن رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمره بذلك، قَالَه ابْن عبد الْبر، وَذكره في كتَابه صلى الله عليه وسلم في تَرْجَمَة أبي بن كَعْب([63])، وهو من المواظبين على العبادة، والخلوة بالتعبد، اعتزل الفتن، وضرب فسطاطه بالربذة.

وعَنْ حَمَّاد بْن سَلَمَةَ، عَنْ عَليّ بْن زَيْدٍ عَنْ أَبي بُرْدَةَ، قَالَ: مَرَرْنَا بالرَّبَذَة، فَإذَا فُسْطَاطُ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ، فَقُلْتُ: لَوْ خَرَجْتَ إلَى النَّاس، فَأَمَرْتَ وَنَهَيْتَ؟ فَقَالَ: قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «يا محمد بن مَسْلَمَةَ، سَتَكُونُ فُرْقَةٌ وَفتْنَةٌ وَاخْتلافٌ، فَاكْسَرْ سَيْفَكَ، واقطع وَتَرَكَ، وَاجْلسْ في بَيْتكَ»، فَفَعَلْتُ الَّذي أَمَرَني به النَّبيُّ  صلى الله عليه وسلم وقَالَ لي إسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَن، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ وَشُعْبَةُ، عَن الأَشْعَث، عَنْ أَبي بُرْدَةَ، عَنْ ضُبَيْعَةَ - قَالَ شُعْبَةُ: أَو ابْنُ ضُبَيْعَةَ - قَالَ حُذَيْفَةُ: إنّي لأَعْرفُ رَجُلاً لا تَضُرُّهُ الْفتْنَةُ، فَأَتَيْنَا الْمَدينَةَ، فَإذَا فُسْطَاطٌ مَضْرُوبٌ، وَإذَا هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ: لا يشتمل على شيء منْ أَمْصَارهم حَتَّى يَنْجَليَ الأَمْرُ عَمَّا انْجَلَى([64]).

ورواية أحمد بسند حسن: «بَعَثَنَا يَزيدُ بْنُ مُعَاويَةَ إلَى ابْن الزُّبَيْر، فَلَمَّا قَدمْتُ الْمَدينَةَ، دَخَلْتُ عَلَى فُلَانٍ - نَسيَ زيَادٌ اسْمَهُ- فَقَالَ: إنَّ النَّاسَ قَدْ صَنَعُوا مَا صَنَعُوا، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ: أَوْصَاني خَليلي أَبُو الْقَاسم صلى الله عليه وسلم: «إنْ أَدْرَكْتَ شَيْئًا منْ هَذه الْفتَن، فَاعْمَدْ إلَى أُحُدٍ، فَاكْسرْ به حَدَّ سَيْفكَ، ثُمَّ اقْعُدْ في بَيْتكَ»، قَالَ: «فَإنْ دَخَلَ عَلَيْكَ أَحَدٌ إلَى الْبَيْت، فَقُمْ إلَى الْمَخْدَع، فَإنْ دَخَلَ عَلَيْكَ الْمَخْدَعَ، فَاجْثُ عَلَى رُكْبَتَيْكَ، وَقُلْ بُؤْ بإثْمي وَإثْمكَ، فَتَكُونَ منْ أَصْحَاب النَّار، وَذَلكَ جَزَاءُ الظَّالمينَ»، فَقَدْ كَسَرْتُ حَدَّ سَيْفي، وَقَعَدْتُ في بَيْتي»([65]).

ويورد الإمام ابن حجر العسقلاني عن هشام عن الحسن أن محمد بن مسلمة قال: أعطاني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سيفاً، فقال: «قاتل به المشركين ما قاتلوا، فإذا رأيت أمتي يضرب بعضهم بعضاً، فائت به أحُداً، فاضرب به حتّى ينكسر، ثمّ اجلس في بيتك، حتّى تأتيك يد خاطئة، أو منيّة قاضية» ففعل.

قلت [القائل ابن حجر]: ورجال هذا السند ثقات، إلا أن الحسن لم يسمع من محمد بن مسلمة.

وقال ابن سعد: أسلم قديماً على يدي مصعب بن عمير قبل سعد بن معاذ، وآخى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي عبيدة، وشهد المشاهد: بدراً، وما بعدها إلا غزوة تبوك، فإنه تخلف بإذن النبي صلى الله عليه وسلم له أن يقيم بالمدينة.

وقال ابن عبد البرّ: كان من فضلاء الصحابة، واستخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة في بعض غزواته، وكان ممن اعتزل الفتنة، فلم يشهد الجمل، ولا صفّين.

وقال حذيفة في حقه: إني لأعرف رجلاً لا تضره الفتنة، فذكره، وصرّح بسماع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم([66]).

وأورد ابن سعد عَنْ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ قَالَ: «أَعْطَاني رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم سَيْفًا فَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، جَاهدْ بهَذَا السَّيْف في سَبيل اللَّه، حَتَّى إذَا رَأَيْتَ منَ الْمُسْلمينَ فئَتَيْن تَقْتَتلَان، فَاضْربْ به الْحَجَرَ حَتَّى تَكْسرَهُ، ثُمَّ كُفَّ لسَانَكَ وَيَدَكَ حَتَّى تَأْتيَكَ مَنيَّةٌ قَاضيَةٌ، أَوْ يَدٌ خَاطئَةٌ»، فَلَمَّا قُتلَ عُثْمَانُ، وَكَانَ منْ أَمْر النَّاس مَا كَانَ، خَرَجَ إلَى صَخْرَةٍ في فنَائه، فَضَرَبَ الصَّخْرَةَ بسَيْفه حَتَّى كَسَرَهُ، أَخْبَرَنَا كَثيرُ بْنُ هشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا إسْحَاقُ بْنُ عَبْد اللَّه بْن أَبي فَرْوَةَ، بنَحْو هَذَا الْحَديث، قَالَ: «وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ يُقَالُ لَهُ: فَارسُ نَبيّ اللَّه، قَالَ: فَاتَّخَذَ سَيْفًا منْ عُودٍ قَدْ نَحَتَهُ، وَصَيَّرَهُ في الْجَفْن مُعَلَّقًا في الْبَيْت، وَقَالَ: إنَّمَا عَلَّقْتُهُ أُهَيّبُ به ذَاعرًا»([67]).

15- مطرف بن عبد اللَّه الشخير:

مُطرّف بن عبد الله بن الشخير، يكنى أبا عبد اللَّه، وأخوه أبو العلاء يزيد بن عبد اللَّه، وكان أبو العلاء أسنَّ من الحسن البصري بعشر سنين، ومُطرّفٌ أسنُّ من أبي العلاء بعشر سنين، أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكره له ابن سعد مناقب كثيرة، وقال: كان ثقة، له فضل وورع، وعقل وأدب، مات في إمارة الحجاج بعد الطّاعون الّذي كان سنة سبع وثمانين([68]).

«وَكَانَ مُطَرّفٌ إذَا كَانَت الْفتْنَةُ نَهَى عَنْهَا وَهَرَبَ...حدثنا سُفْيَانُ، قَالَ: قَالَ مُطَرّفٌ: إنَّ الْفتْنَةَ لَيْسَتْ تَأْتي تَهْدي النَّاسَ، وَلَكنْ إنَّمَا تَأْتي تُقَارعُ الْمُؤْمنَ عَنْ دينه، وَلَأَنْ يَقُولَ اللَّهُ: لمَ لَا قَتَلْتَ فُلَانًا؟ أَحَبُّ إلَيَّ منْ أَنْ يَقُولَ: لمَ قَتَلْتَ فُلَانًا؟»، وقال مطرف أيضاً: «إنَّ الْفتْنَةَ لَا تَجيءُ تَهْدي النَّاسَ، وَلَكنْ تَجيءُ تُقَارعُ الْمُؤْمنَ عَنْ دينه»([69]).

و«قَالَ مُطَرّفٌ: قُلْتُ لعمْرَانَ بْن حُصَيْنٍ: أَنَا أَفْقَرُ إلَى الْجَمَاعَة منْ عَجُوزٍ أَرْمَلَةٍ؛ لأَنَّهَا إذَا كَانَتْ جَمَاعَةٌ عَرَفْتُ قبْلَتي وَوَجْهي، وَإذَا كَانَت الْفُرْقَةُ الْتَبَسَ عَلَيَّ أَمْري، قَالَ لَهُ: «إنَّ اللَّهَ U سَيَكْفيكَ منْ ذَلكَ مَا تُحَاذرُ»([70]).

16- أبو موسى الأشعري:

هو عبد اللَّه بن قيس بن سليم بن حضار الأشعري، من كهلان بن سبأ، وأم أبي موسى ظبية بنت وهب أسلمت، وماتت بالمدينة، وقيل أسلم بمكة، وهاجر إلى أرض الحبشة، ثم قدم مع أهل السفينتين ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بخيبر([71])، وهو الإمَامُ الكَبيْرُ، صَاحبُ رَسُوْل اللَّه صلى الله عليه وسلم الفَقيْهُ، المُقْرئُ، وَهُوَ مَعْدُوْدٌ فيْمَنْ قَرَأَ عَلَى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أَقْرَأَ أَهْلَ البَصْرَة، وَفَقَّهَهُمْ في الدّيْن، فَفي الصَّحيْحَيْن: عَنْ أَبي بُرْدَةَ بن أَبي مُوْسَى، عَنْ أَبيْه: أَنَّ رَسُوْلَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: (اللَّهُمَّ اغْفرْ لعَبْد اللَّه بن قَيْسٍ ذَنْبَهُ، وَأَدْخلْهُ يَوْمَ القيَامَة مُدْخَلاً كَريْماً)([72]).

اسْتَعْمَلَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَمُعَاذاً عَلَى زَبيْدٍ، وَعَدَنَ، ... وَوَليَ إمْرَةَ الكُوْفَة... وَليَ البَصْرَةَ لعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَوَليَ الكُوْفَةَ، وَبهَا مَاتَ، وَقَالَ مَسْرُوْقٌ: كَانَ القَضَاءُ في الصَّحَابَة إلَى ستَّةٍ: عُمَرَ، وَعَليٍّ، وَابْن مَسْعُوْدٍ، وَأُبَيٍّ، وَزيْدٍ، وَأَبي مُوْسَى، وَلاَ رَيْبَ أَنَّ غُلاَةَ الشّيْعَة يُبْغضُوْنَ أَبَا مُوْسَى رضي الله عنه لكَوْنه مَا قَاتَلَ مَعَ عَليٍّ، ثُمَّ لَمَّا حَكَّمَهُ عَليٌّ عَلَى نَفْسه عَزَلَهُ، وَعَزَلَ مُعَاويَةَ، وَأَشَارَ بابْن عُمَرَ؛ فَمَا انْتَظَمَ منْ ذَلكَ حَالٌ([73]).

استعمله عثمان على الكوفة، ثم كان أحد الحكمين بصفين، ثم اعتزل الفريقين([74]).

17- أبو بكرة نفيع بن الحارث:

نفيع بن الحارث بن كلدة أبو بكرة الثقفي، صَحَابيٌّ جَليلٌ كَبيرُ الْقَدْر، هو أخو زياد بن سمية لأمه، وقيل له أبا بكرة لأنه تدلى من حصن الطائف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأعتقه يومئذ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من خيار الصحابة، أسلم وهو بن ثماني عشرة سنة، وانتقل إلى البصرة ومات سنة تسع وخمسين، مات بالبصرة في ولاية زياد، وقال المدائني مات سنة خمسين، وقال البخاري قال مسدد مات أبو بكرة مات سنة ثنتين وخمسين، وصلى عليه أبو برزة الأسلمي، وكان أوصى بذلك وقال أبو نعيم: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، وَكَانَ ممَّن اعْتَزَلَ الْفتَنَ، فَلَمْ يَحْضُرْ شَيْئًا منْهَا([75])، وكان ممن اعتزل يوم الجمل، ولم يقاتل مع واحد من الفريقين([76]).

روى الإمام البخاري عَنْ الْأَحْنَف بْن قَيْسٍ قَالَ: ذَهَبْتُ لأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ، فَلَقيَني أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ: أَيْنَ تُريدُ؟ قُلْتُ أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ، قَالَ ارْجعْ فَإنّي سَمعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إذَا الْتَقَى الْمُسْلمَان بسَيْفَيْهمَا فَالْقَاتلُ وَالْمَقْتُولُ في النَّار)، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه، هَذَا الْقَاتلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُول؟ قَالَ: (إنَّهُ كَانَ حَريصًا عَلَى قَتْل صَاحبه)([77]).

18- يونس بن عبيد:

الإمام، أَبو عبد اللَّه العبديُّ مولاهم البصريُّ، مولى لعبد القيس، يكنى أبا عبد اللَّه، أخو صفيّة بنت عبيد مولاة سمية أم زياد، الحافظ، أحدُ الأئمَّة الأعلام، وَكَانَ ثقَةً، كَثيرَ الْحَديث، روى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قضى أن الولد للفراش، لما حضر استلحاق زياد، فأنكر ذلك، وقال له معاوية: لتنتهين أو لأطيرنّ بك طيرة بطيئاً وقوعها، فقال له يونس: هل إلا إلى اللَّه، ثم أقع؟ قال: نعم، واستغفر اللَّه، وسكت مات سنة تسع وثلاثين ومائة ([78]).

وقيل لـيونس بن عبيد: أتعرف أحداً يعمل بعمل «الحسن» ؟ فقال: والله لا أعرف أحداً يقول بقوله، فكيف يعمل بعمله، ثم وصفه فقال: كان إذا أقبل فكأنه أقبل من دفن حميمه، وإذا جلس فكأنه أمر بضرب عنقه، وإذا ذكرت النار فكأنها لم تخلق إلّا له، وقَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: ثَلَاثَةٌ احْفَظُوهُنَّ عَنّي: لَا يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ عَلَى سُلْطَانٍ يَقْرَأُ عَلَيْه الْقُرْآنَ، وَلَا يَخْلُوَنَّ أَحَدُكُمْ مَعَ امْرَأَةٍ شَابَّةٍ يَقْرَأُ عَلَيْهَا الْقُرْآنَ، وَلَا يُمَكّنْ أَحَدُكُمْ سَمْعَهُ منْ أَصْحَاب الْأَهْوَاء([79]).

إذن توقفت هذه الفئة، فلم تقاتل حاكماً، ولم تمدح أحداً، وإنما انشغلت بدعوتها إلى اللَّه، وبعبادتها للَّه، وبتعليم عباد اللَّه دين اللَّه، ورأت أن من الفتنة أن تسلّ سيفاً في وجه حاكم مسلم، ومن الفتنة أن تسل لساناً في مديحه، أو إعانته، وعاشت بعيدة عن الأضواء المثيرة، وعاشت زاهدة في الدنيا، قانعة بما كتب اللَّه لها، وكانت قدوة لفئات كثيرة تأتي بعدها، فلا يعرف لأصحابها عَلَم ولا راية، ولا يسمع لهم صخب، ولا ضجيج في أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، ينشغلون بذواتهم، وبإصلاح نفوسهم، وقلوبهم، وإصلاح نفوس الناس وقلوبهم، ويحذرون الناس من الاقتراب من أبواب السلاطين، أو الانغماس في حيواتهم، وأحوالهم.

مع العلم أن السلاطين في هذا العصر لم يتبنوا ديناً، أو اعتقاداً، أو سلوكاً، أو أحكاماً غير أحكام دين الإسلام، وإنما قد يكون هناك تقصير، أو انحراف سلوكي، أو خلقي لبعض هؤلاء الحكام، فلم تعرف دول الإسلام في التاريخ انحرافاً ظاهراً عن معتقدات دين الإسلام، أو أحكامه إلا عند ظهور الفاطميين، والقرامطة، والبويهيين، وأمثالهم، وما حدث من ظهور الحكام الجدد منذ بداية القرن العشرين.

ب- فئة مع السلطان:

وهذه الفئة التي توظفت عند السلطان، أو كانت تتردد على بلاطه، لم تنسَ أن عليها واجباً هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كما سلف الكلام من قبل، إلا أنها رأت أن السير بخط موازٍ للسلطان، وعدم السير بخط معاكس له أولى، وأجدى نفعاً للأمة، والسلطان معاً، فهي توجه الأمة إلى التمسك بمبادئ دينها، وتنشر العلم بين صفوف أبنائها، وفي الوقت نفسه تبقى قريبة من السلطان توجهه، وتسدي له النصح بشيء من اللين، والهدوء حتى لا تحدث فتنة شعواء، تودي بالأمة إلى مهاوي الردى، وشعارهم في ذلك: «ظالم غشوم خير من فوضى تدوم».

ونلاحظ هذه الصورة واضحة عند بيعة الناس ليزيد بن معاوية، ويذكر ذلك المؤرخ العظيم الإمام ابن كثير ؒ: «وَوَفَدَت الْوُفُودُ منْ سَائر الْأَقَاليم إلَى يَزيدَ، فَكَانَ فيمَنْ قَدمَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، فَأَمَرَهُ مُعَاويَةُ أَنْ يُحَادثَ يَزيدَ، فَجَلَسَا، ثُمَّ خَرَجَ الْأَحْنَفُ، فَقَالَ لَهُ مُعَاويَةُ: مَاذَا رَأَيْتَ من ابْن أَخيكَ؟ فَقَالَ: إنَّا نَخَافُ اللَّهَ إنْ كَذَبْنَا، وَنَخَافُكُمْ إنْ صَدَقْنَا، وَأَنْتَ أَعْلَمُ به في لَيْله وَنَهَاره، وَسرّه وَعَلَانيَته، وَمَدْخَله وَمَخْرَجه، وَأَنْتَ أَعْلَمُ به بمَا أَرَدْتَ، وَإنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نَسْمَعَ وَنُطيعَ، وَعَلَيْكَ أَنْ تَنْصَحَ للْأُمَّة... وكان [معاوية] ظن أن لَا يَقُوم أَحَدٌ منْ أَبْنَاء الصَّحَابَة في هذا المعنى، ولهذا قال لعبد اللَّه بن عُمَرَ فيمَا خَاطَبَهُ به: إنّي خفْتُ أَنْ أَذَرَ الرَّعيَّةَ منْ بَعْدي كَالْغَنَم الْمَطيرَة، لَيْسَ لَهَا رَاعٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: إذَا بَايَعَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ بَايَعْتُهُ، وَلَوْ كَانَ عَبْدًا مُجَدَّعَ الْأَطْرَاف... وَرُوّينَا عَنْ مُعَاويَةَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا في خُطْبَته: اللَّهمّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنّي وَلَّيْتُهُ لأَنَّهُ فيمَا أَرَاهُ أَهْلٌ لذَلكَ، فأتمم له ما وليته، وإن كنت وَلَّيْتُهُ لأَنّي أُحبُّهُ فَلَا تُتْممْ لَهُ مَا وَلَّيْتُهُ»([80]).

بعد هذه المقدمة أستعرض أسماء عدد من أصحاب هذا الاتجاه، وأرتبها حسب الترتيب الألفبائي:

1- الأحنف بن قيس:

الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ مُخَضْرَمٌ، وَاسْمُهُ: صَخْرُ بْنُ قَيْس بْن مُعَاويَةَ بْن حُصَيْن بْن مَنَاةَ بْن تَميم بْن مُرَّةَ السعدي المنقري التميمي، أبو بحر: سيد تميم، ورهطه: بنو مرة بن عبيد، الذين بعثوا بصدقات أموالهم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم مع «عكراش بن ذؤيب، أحد العظماء الدهاة الفصحاء الشجعان الفاتحين يضرب به المثل في الحلم ولد في البصرة، وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وأتى رسولُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قومه يدعوهم إلى الإسلام، فلم يجيبوا، فقال «الأحنف» : إنه ليدعوكم إلى الإسلام، وإلى مكارم الأخلاق، وينهاكم عن ملائمها، فأسلموا، وأسلم «الأحنف»، ولم يفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان زمن «عمر» وفد إليه، وشهد مع «على» رضي الله عنه «صفين»، ولم يشهد «الجمل» مع أحد من الفريقين، وهو الذي إذا غضب غضب له مائه ألف لا يدرون فيم غضب، كان ثقة مأمونا قليل الحديث، وذكر الحاكم أنه الذي افتتح مرو الروذ، وقال مصعب بن الزبير يوم موته: «ذهب اليوم الحزم والرأي» قيل: مات سنة 67، وقيل سنة 72، توفي سنة 72 هـ([81]).

وعن ابن إسماعيل بن أبي خالد أنه رأى الأحنف بن قيس عليه مطرف خز، ومقطعة من يمنة، وعمامة من خز، وهو على بغلة، وكان الأحنف صديقاً لمصعب بن الزبير، فوفد عليه بالكوفة، ومصعب بن الزبير يومئذ وال عليها، فتوفي الأحنف عنده بالكوفة، فرؤي مصعب في جنازته يمشي بغير رداء([82]).

وَلما اسْتَقر الْأَمر لمعاوية، دخل عَلَيْه الْأَحْنَف، فَقَالَ لَهُ مُعَاويَة: وَالله يَا أحنف، مَا أذكر يَوْم صفّين إلَّا كَانَت في قلبي حزازة إلَى يَوْم الْقيَامَة، فَقَالَ لَهُ الْأَحْنَف: وَالله يَا أَمير الْمُؤمنينَ، إن الْقُلُوب الَّتي أبغضناك بهَا لفي صدورنا، وَإن السيوف الَّتي قَاتَلْنَاك بهَا لفي أغمادها، وَإن تدن من الْحَرْب فتراً ندن منْهَا شبْرًا، وَإن تمش إلَيْهَا نهرول، ثمَّ قَامَ وَخرج، وَكَانَت أُخْت مُعَاويَة وَرَاء حجاب، فَسمعت الْكَلَام، فَقَالَت: يَا أَمير الْمُؤمنينَ من هَذَا الَّذي يتهدد ويتوعد؟ فَقَالَ: هَذَا الَّذي إذا غضب غضب لغضبه مائَة ألف من بني تَميم، لَا يَدْرُونَ فيمَ غضب، وَلما نصب مُعَاويَة وَلَده يزيد لولاية الْعَهْد أقعده في قبَّة حَمْرَاء، فَجعل النَّاس يسلمُونَ على مُعَاويَة، ثمَّ يميلون إلَى يزيد حَتَّى جَاءَ رجل فَفعل ذَلك، ثمَّ رَجَعَ إلَى مُعَاويَة، فَقَالَ: يَا أَمير الْمُؤمنينَ، اعْلَم لَو أَنَّك لَو لم تول هَذَا أُمُور الْمُسلمين لأضعتها، والأحنف جَالس، فَقَالَ لَهُ مُعَاويَة: مَا لك لَا تَقول يَا أَبَا بَحر؟ فَقَالَ: أَخَاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت، فَقَالَ مُعَاويَة: جَزَاك الله عَن الطَّاعَة خيراً، كان من سادات الناس، وعقلاء التابعين، وفصحاء أهل البصرة وحكمائهم، ممن فتح على يده الفتوح الكثيرة للمسلمين، وكان ممن اعتزل وقعة الجمل، ثم شهد صفّين، ومات بالكوفة سنة سبع وستين في إمارة بن الزبير، وصلى عليه مصعب بن الزبير، ومشى في جنازته بغير رداء.

وله قصص يطول ذكرها مع عمر، ثم عثمان، ثم مع علي، ثم مع معاوية، ثم مع من بعده إلى أن مات بالبصرة زمن ولاية مصعب بن الزبير سنة سبع وستين، ومشى مصعب في جنازته، وقال مصعب يوم موته: ذهب اليوم الحزم والرّأي([83]).

وقيل للأحنف: كيف سوّدك قومك وأنت أرذلهم خلقة؟ قال: لو عاب قومي الماء ما شربته، وكان من أمراء علي يوم صفين([84]).

ووصف الإمام ابن كثير دخوله على معاوية، فقال: فَلَمَّا رَأَى مُعَاويَةُ الْأَحْنَفَ رَحَّبَ به، وَعَظَّمَهُ، وَأَجَلَّهُ، وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرير، ثُمَّ تَكَلَّمَ الْقَوْمُ فَأَثْنَوْا عَلَى عُبَيْد اللَّه، وَالْأَحْنَفُ سَاكتٌ، فَقَالَ مُعَاويَةُ: انْهَضُوا فَقَدْ عَزَلْتُهُ عَنْكُمْ، فَاطْلُبُوا وَاليًا تَرْضَوْنَهُ، فَمَكَثُوا أَيَّامًا يَتَرَدَّدُونَ إلَى أَشْرَاف بَني أُمَيَّةَ، يَسْأَلُونَ كُلَّ وَاحدٍ منْهُمْ أَنْ يَتَوَلَّى عَلَيْهمْ، فَلَمْ يَقْبَلْ أَحَدٌ منْهُمْ ذَلكَ، ثُمَّ جَمَعَهُمْ مُعَاويَةُ فَقَالَ: مَن اخْتَرْتُمْ ؟ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْه، وَالْأَحْنَفُ سَاكتٌ، فَقَالَ لَهُ مُعَاويَةُ: مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ ؟ فَقَالَ: يَا أَميرَ الْمُؤْمنينَ، إنْ كُنْتَ تُريدُ غَيْرَ أَهْل بَيْتكَ فَرَاءٍ رَأْيَكَ، فَقَالَ مُعَاويَةُ: قَدْ أَعَدْتُهُ إلَيْكُمْ، ثُمَّ إنَّ مُعَاويَةَ أَوْصَى عُبَيْدَ اللَّه بالْأَحْنَف خَيْرًا، وَقَبَّحَ رَأْيَهُ في مُبَاعَدَته، فَكَانَ الْأَحْنَفُ بَعْدَ ذَلكَ أَخَصَّ أَصْحَاب عُبَيْد اللَّه، وَلَمَّا وَقَعَت الْفتْنَةُ لَمْ يَف لعُبَيْد اللَّه غَيْرُ الْأَحْنَف بْن قَيْسٍ([85]).

وَقَدْ كَانَ زيَادُ بْنُ أَبيه يُقَرّبُهُ وَيُعَظّمُه، ولما رَدَّ مُعَاويَةُ ابن زياد إلَى الْولَايَة... ثُمَّ قَالَ لَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ: كَيْفَ جَهلْتَ مثْلَ الْأَحْنَف ؟ إنَّه عَزَلَكَ، وَوَلَّاكَ، وَهُوَ سَاكتٌ، فَعَظُمَتْ مَنْزلَةُ الْأَحْنَف بَعْدَ ذَلكَ عنْدَ ابْن زيَادٍ([86]).

2- أسيد بن أحيحة

تابعي من أولاد الصحابة الذين تأخر إسلامهم، فأبوه من مسلمة الفتح، وأسيد  كان من أصحاب معاوية، وكان مبايناً لعبد اللَّه بن الزبير، فتقاول هو وابن عمه عبد اللَّه بن صفوان بن أمية في أمره، فسار إلى الشّام، ورجع مع جيوش يزيد بن معاوية، فحاصر ابن الزبير.

وحكى الفاكهيّ... أنه لحق بعبد الملك، فاستمده للحجاج فأمدّه بطارق في أربعة آلاف» ([87]).

وقال الحافظ ابن عساكر: «كان شديد الخلاف على عبد اللَّه بن الزبير فتوعده عبد اللَّه بن صفوان يعني ابن أمية، فلحق بعبد الملك بن مروان، فاستمده للحجاج بن يوسف، فقال: لولا أن ابن الزبير تأول قول الله ﴿ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه﴾ [البقرة: 191] ما كنا إلا أكلة رأس»([88]).

3- أبو أيوب الأنصاري:

خَالد بن زيد بن كُلَيْب أَبُو أيُّوب الأنصاريّ النَّجَّاري، مضيف رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا قدم الْمَدينَة نزل عَلَيْه في دَاره، وَشهد الْعقبَة الثَّانيَة، وبدراً، وأُحُداً، وَالْخَنْدَق، والمشاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وَلم يزل مُجَاهدًا حَتَّى مَاتَ في غزَاة قسطنطينية سنة خمس وَخمسين للْهجْرَة، شَهدَ أَبُو أَيُّوبَ بَدْرًا، ثُمَّ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ غَزَاةٍ للْمُسْلمينَ إلَّا هُوَ في أُخْرَى، ولما استعمل على الجيش شابّ، فقعد، فتلهّف بعد ذلك، فقال: ما ضرّني من استعمل عليّ، فمرض وكَانَ أَمير الْجَيْش يزيد بن مُعَاويَة من قبل أَبيه، فَلَمَّا مرض أَبُو أَيُّوب دخل يزيد يعودهُ، وَسَأَلَهُ حَاجَة، فَأَوْصَاهُ إذا مَاتَ أَن يتَقَدَّم به إلَى أَرض الْعَدو مَا اسْتَطَاعَ من غير مشقَّةٍ على أحدٍ من الْمُسلمين، ثمَّ يُوطأ قَبره حَتَّى لَا يعرف، فَأخْبر يزيد النَّاس بذلك، فاستسلم النَّاس، وَانْطَلَقُوا بجنازته إلَى جَانب حَائط القسطنطينيَّة، فَدفن، ثمَّ صلى عَلَيْه يزيد، وَكَانَ الرّوم يتعاهدونه، ويرمُّونه، ويستسقون إذا قحطوا، وآخى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بَينه وَبَين مُصعب بن عُمَيْر، وَحضر مَعَ عَليّ حَرْب الْخَوَارج بالنَّهروان، وحرس النَّبي صلى الله عليه وسلم ليلة بنى بصفية، فَقَالَ لَهُ النَّبي صلى الله عليه وسلم: (رَحمك الله يَا أَبَا أَيُّوب)، مرَّتَيْن، وَنزع من لحية النَّبي صلى الله عليه وسلم أَذَى، فَقَالَ: (لَا يصيبك السوء يَا أَبَا أَيُّوب)، وَكَانَ من أحب الصَّحَابَة إلَيْه، وَهُوَ الَّذي كذَّب مَا قيل في عَائشَة ل، فَنزلت: ﴿لَوْلَا إذْ سمعتموه...﴾ الْآيَة، أَي فَعلْتُمْ كَمَا فعل أَبُو أَيُّوب، وروى لَهُ الْجَمَاعَة، وكان أبو أيوب الأنصاري مع علي بن أبي طالب في حروبه كلها، ثم مات بالقسطنطينية من بلاد الروم في زمن معاوية، وكانت غزاته تلك تحت راية يزيد، هو كان أميرهم يومئذ ([89]).

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ : آخَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَبي أَيُّوبَ، وَبَيْنَ مُصْعَب بْن عُمَيْرٍ، وَشَهدَ أَبُو أَيُّوبَ بَدْرًا، وأُحُدًا، وَالْخَنْدَقَ وَالْمَشَاهدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وَتُوُفّيَ عَامَ غَزَا يَزيدُ بْنُ مُعَاويَةَ الْقُسْطَنْطينيَّةَ في خلاَفَة أَبيه مُعَاويَةَ سَنَةَ اثْنَتَيْن وَخَمْسينَ، وَقَبْرُهُ بأَصْل حصْن الْقُسْطَنْطينيَّة بأَرْض الرُّوم فيمَا ذُكرَ يَتَعَاهَدُونَ قَبْرَهُ، وَيَزُورُونَهُ وَيَسْتَسْقُونَ به إذَا قَحَطُوا([90]).

وذكر الحافظ ابن حجر ؒ في الإصابة عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: غزونا مع عبد الرحمن بن خالد ابن الوليد، فأتي بأربعة أعلاج من العدو، فأمر بهم فقتلوا صبراً بالنبل، فبلغ ذلك أبا أيوب، فقال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينهى عن قتل الصبر، ولو كانت دجاجة ما صبرتها، فبلغ ذلك عبد الرحمن فأعتق أربع رقاب([91]).

عن ابن سيرين قال كان أبو أيوب الأنصاري يغزو مع يزيد بن معاوية، فمرض وهو معه، فدخل عليه يزيد يعوده، فقال له: حاجتك؟ قال: إذا أنا مت، فسر بي في أرض العدو ما استطعت، ثم ادفني، قال: فلما مات، سار به حتى أوغل في أرض الروم يوماً، أو بعض يوم، ثم نزل فدفنه([92]).

وعَن الْهَيْثَم بن عَديٍّ، قَالَ : هَلَكَ أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَاريُّ سَنَةَ خَمْسينَ بأَرْض الرُّوم وَهُوَ غَازٍ مَعَ يَزيدَ([93]).

4- الحارث بن حاطب بن الحارث:

الحارث بن حاطب بن الحارث بن معمر بن حبيب بن وهبٍ بن حُذافة بن جُمَع القُرشي، وأمُّهُ فاطمةُ بنتُ المُجلَّل ولدتهُ بأرض الحبشة هو وأخاه محمداً، وبقي إلى أن اسْتخلفه ابنُ الزُبير على مكة سنة ست وستين([94])، وهو من الذين ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم في غزوة بدر مع أنهم لم يحضروها، ورده من الروحاء إلى بني عمرو بن عوف لشي بلغه عنهم([95]).

 «قال مصعب الزبيري: استعمله مروان على المساعي، أي بالمدينة، وعمل لابنه عبد الملك على مكة»([96]).

‏5- الحسن بن علي بن أبي طالب

كان رضي الله عنه «سيداً حليماً ورعاً فاضلاً عفيفاً، دعاه ورعه إلى أن ترك الملك في الدنيا رغبة فيما عند اللَّه، قال: واللَّه ما أحببت ‏منذ علمت ما يضرني وينفعني أن ألي أمري أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أن يهراق في ذلك محجمة دم»([97]).

 قال عبد اللَّه بن جعفر: «قال الحسن: إني رأيت رأياً أحبّ أن تتابعني عليه.

قلت: ما هو؟

قال: رأيت أن أعمد إلى المدينة فأنزلها، وأخلي الأمر لمعاوية، فقد طالت الفتنة، وسفكت الدماء، وقطعت السبل.

قال: فقلت له: جزاك اللَّه خيراً عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم»([98]).

وقال الحافظ ابن حجر ؒ: «فدعا عمرو بن سلمة الأرحبي، وأرسله إلى معاوية يشترط عليه: وبعث معاوية عبد الرحمن بن سمرة وعبد اللَّه بن عامر فأعطيا الحسن ما أراد»، فجاء له معاوية من منبج إلى مسكن، فدخلا الكوفة جميعاً، فنزل الحسن القصر، ونزل معاوية النّخيلة، وأجرى عليه معاوية في كل سنة ألف ألف درهم، وعاش الحسن بعد ذلك عشر سنين.

قال ابن سعد: وأخبرنا عبد اللَّه بن بكر السهمي، حدثنا حاتم بن أبي صغيرة، عن عمرو بن دينار، قال:

وكان معاوية يعلم أن الحسن أكره الناس للفتنة، فراسله وأصلح الّذي بينهما، وأعطاه عهداً إن حدث به حدث والحسن حيّ ليجعلنّ هذا الأمر إليه.

قال: فقال عبد اللَّه بن جعفر:

قال الحسن: إني رأيت رأياً أحبّ أن تتابعني عليه. قلت: ما هو؟ قال:

رأيت أن أعمد إلى المدينة فأنزلها، وأخلي الأمر لمعاوية، فقد طالت الفتنة، وسفكت الدماء، وقطعت السبل، قال: فقلت له: جزاك اللَّه خيراً عن أمة محمد، فبعث إلى حسين فذكر له ذلك، فقال: أعيذك باللَّه فلم يزل به حتى رضي.

وقال يعقوب بن سفيان: حدّثنا سعيد بن منصور، حدثنا عون بن موسى، سمعت هلال بن خباب: جمع الحسن رؤوس أهل العراق في هذا القصر  - قصر المدائن- فقال:

إنكم قد بايعتموني على أن تسالموا من سالمت، وتحاربوا من حاربت، وإني قد بايعت معاوية، فاسمعوا له وأطيعوا([99]).

و«عَنْ زَيْد بْن أَسْلَمَ قَالَ: دَخْلَ رَجُلٌ على الحسن بن علي، وهو بالمدينة وَفي يَده صَحيفَةٌ، فَقَالَ: مَا هَذه؟ فَقَالَ: ابن معاوية يعدنيها وَيَتَوَعَّدُ، قَالَ: قَدْ كُنْتَ عَلَى النّصْف منْهُ، قال: أجل ولكن خشيت أن يجئ يَوْمَ الْقيَامَة سَبْعُونَ أَلْفًا، أَوْ ثَمَانُونَ أَلْفًا، أو أكثر أو أقل، تَنْضَحُ أَوْدَاجُهُمْ دَمًا، كُلُّهُمْ يَسْتَعْدي اللَّهَ فيمَ هُريقَ دَمُهُ»([100]).

6- رجاء بن حيوة

هو من التابعين الذين كان لهم أثر في الحياة العامة، وقام بأعمال جليلة أيام الأمويين، وهو «تَابعيٌّ جَليلٌ، كَبيرُ الْقَدْر، ثقَةٌ فَاضلٌ عَادلٌ، وَزيرُ صدْقٍ لخُلَفَاء بَني أُمَيَّةَ، وَكَانَ مَكْحُولٌ إذَا سُئلَ يَقُولُ: سَلُوا شَيْخَنَا وَسَيّدَنَا رَجَاءَ بْنَ حَيْوَةَ»([101]).

وقال أبو نعيم: «عَن الْعَلَاء بْن رُؤْبَةَ

قَالَ: كَانَتْ لي حَاجَةٌ إلَى رَجَاء بْن حَيْوَةَ فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَقَالُوا: هُوَ عنْدَ سُلَيْمَانَ بْن عَبْد الْمَلك.

قَالَ: فَلَقيتُهُ فَقَالَ: «وَلَّى أَميرُ الْمُؤْمنينَ الْيَوْمَ ابْنَ مَوْهَبٍ الْقَضَاءَ، وَلَوْ خُيّرْتُ بَيْنَ أَنْ أَليَ وَبَيْنَ أَنْ أُحْمَلَ إلَى حُفْرَتي لَاخْتَرْتُ أَنْ أُحْمَلَ إلَى حُفْرَتي».

قُلْتُ: إنَّ النَّاسَ يقُولُونَ: إنَّكَ أَنْتَ الَّذي أَشَرْتَ به؟ قَالَ: «صَدَقُوا، إنّي نَظَرْتُ للْعَامَّة، وَلَمْ أَنْظُرْ لَهُ»([102]).

وروى أيضاً: «عَن ابْن عَوْنٍ قَالَ: «مَا أَدْرَكْتُ منَ النَّاس أَحَدًا أَعْظَمَ رَجَاءً لأَهْل الْإسْلَام منَ الْقَاسم بْن مُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّد بْن سيرينَ، وَرَجَاء بْن حَيْوَةَ»([103]). 

7- سعيد بن العاص:

من صغار الصحابة، وهو فصيح، ولفصاحته كان عضواً في لجنة جمع المصاحف وكتابتها في عهد عثمان رضي الله عنه، ولم يشهد الفتنة بين أصحابها، بل اعتزلها، فليس له ذكر في الجمل، ولا صفين، ووفد على معاوية بعد استقرار الأمر لمعاوية رضي الله عنه.

قال الإمام ابن كثير ؒ: «وَكَانَ عُمْرُ سَعيدٍ يَوْمَ مَاتَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم تسْعَ سنينَ، وَكَانَ منْ سَادَات الْمُسْلمينَ... وَاسْتَنَابَهُ عُثْمَانُ عَلَى الْكُوفَة بَعْدَ عَزْله الْوَليدَ بْنَ عُقْبَةَ، فَافْتَتَحَ طَبَرسْتَانَ وَجُرْجَانَ، ...فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لمُعَاويَةَ وَفَدَ إلَيْه فَعَتَبَ عَلَيْه، فَاعْتَذَرَ إلَيْه، فَعَذَرَهُ في كَلَامٍ طَويلٍ جدًّا، وَوَلَّاهُ الْمَدينَةَ مَرَّتَيْن ... وَكَانَ سَعيدٌ هَذَا لَا يسبُّ عَليًّا ...وَقَدْ كَانَ حَسَنَ السّيرَة، جَيّدَ السَّريرَة، وَكَانَ كَثيرًا مَا يَجْمَعُ أَصْحَابَهُ في كُلّ جُمُعَةٍ فَيُطْعمُهُمْ وَيَكْسُوهُمُ الْحُلَلَ...ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْمَدينَة فَأَقَامَ بهَا إلَى أَنْ مَاتَ، وَكَانَ كَريمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا... وفي طَريق الزُّبَيْر بْن بَكَّارٍ: حَدَّثَني رَجُلٌ عَنْ عَبْد الْعَزيز بْن أَبَانٍ حَدَّثَني خَالدُ بْنُ سَعيدٍ عَنْ أَبيه عَن ابْن عُمَرَ قَالَ: جَاءَت امْرَأَةٌ إلَى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم ببرد.

فقالت: إني نذرت أَنْ أُعْطيَ هَذَا الثَّوْبَ أَكْرَمَ الْعَرَب.

فَقَالَ: «أعطه هَذَا الْغُلَامَ»- يَعْني سَعيدَ بْنَ الْعَاص - وَهُوَ وَاقفٌ، فَلذَلكَ سُمّيَت الثّيَابَ السَّعيديَّة... وَذَكَرَ أَنَّ عُثْمَانَ عَزَلَ عَن الْكُوفَة المغيرة وولاها سعد بن أبي وقاص، ثم عزله وولاها الوليد بن عتبة، ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى سَعيدَ بْنَ الْعَاص، فَأَقَامَ بهَا حينًا، وَلَمْ تُحْمَدْ سيرَتُهُ فيهمْ، وَلَمْ يُحبُّوهُ، ثُمَّ رَكبَ مَالكُ بْنُ الْحَارث - وَهُوَ الْأَشْتَرُ النَّخَعيُّ - في جَمَاعَةٍ إلَى عُثْمَانَ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَعْزلَ عَنْهُمْ سَعيدًا فَلَمْ يَعْزلْهُ، وَكَانَ عنْدَهُ بالْمَدينَة فَبَعْثَهُ إلَيْهمْ، وَسَبَقَ الْأَشْتَرُ إلَى الْكُوفَة فَخَطَبَ النَّاسَ وَحَثَّهُمْ عَلَى مَنْعه منَ الدخول إليهم، وركب الأشتر في جيش يمنعوه منَ الدُّخُول، قيلَ تَلَقَّوْهُ إلَى الْعُذَيْب، - وَقَدْ نزل سعيد بالرعثة - فَمَنَعُوهُ منَ الدُّخُول إلَيْهمْ، وَلَمْ يَزَالُوا به حَتَّى رَدُّوهُ إلَى عُثْمَانَ، وَوَلَّى الْأَشْتَرُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَريَّ عَلَى الصَّلَاة وَالثَّغْر وَحُذَيْفَةَ بْنَ اليمان على الفيء، فَأَجَازَ ذَلكَ أَهْلُ الْكُوفَة وَبَعَثُوا إلَى عُثْمَانَ في ذَلكَ فَأَمْضَاهُ، وَسَرَّهُ ذَلكَ فيمَا أَظْهَرَهُ، ولكن هذا كان أَوَّلَ وَهَنٍ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ.

وَأَقَامَ سَعيدُ بْنُ الْعَاص بالْمَدينَة حَتَّى كَانَ زَمَنُ حَصْر عُثْمَانَ فَكَانَ عنْدَهُ بالدَّار، ثُمَّ لَمَّا رَكبَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مَعَ عَائشَةَ منْ مَكَّةَ يُريدُونَ قَتَلَةَ عُثْمَانَ رَكبَ مَعَهُمْ، ثُمَّ انْفَرَدَ عَنْهُمْ هُوَ وَالْمُغيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَغَيْرُهُمَا، فَأَقَامَ بالطَّائف حَتَّى انْقَضَتْ تلْكَ الْحُرُوبُ كُلُّهَا، ثُمَّ وَلَّاهُ مُعَاويَةُ إمْرَةَ الْمَدينَة سَنَةَ تسْعٍ وَأَرْبَعينَ» ([104]).

8- عبد الرحمن بن خالد بن الوليد:

يروى أنه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وله رؤية، وشهد الفتوح، وشهد صفين، وكان ممن جعلوه أميراً لغزو القسطنطينية روى الحاكم عَنْ أَسْلَمَ أَبي عمْرَانَ، قَالَ: غَزَوْنَا منَ الْمَدينَة نُريدُ الْقُسْطَنْطينيَّةَ وَعَلَى الْجَمَاعَة عَبْدُ الرَّحْمَن بْنُ خَالد بْن الْوَليد وَالرُّومُ مُلْصقُو ظُهُورهمْ بحَائط الْمَدينَة، فَحَمَلَ رَجُلٌ عَلَى الْعَدُوّ، فَقَالَ النَّاسُ: مَهْ مَهْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يُلْقي بيَدَيْه إلَى التَّهْلُكَةَ، فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: «إنَّمَا نَزَلَتْ هَذه الْآيَةُ فينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَار، لَمَّا نَصَرَ اللَّهُ نَبيَّهُ، وَأَظْهَرَ الْإسْلَامَ، قُلْنَا لَهُمْ: نُقيمُ في أَمْوَالنَا، وَنُصْلحُهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ U: ﴿وَأَنْفقُوا في سَبيل اللَّه، وَلَا تُلقُوا بأَيْديكُمْ إلَى التَّهْلُكَة﴾ [البقرة: 195]، فَالْإلْقَاءُ بأَيْدينَا إلَى التَّهْلُكَة أَنْ نُقيمَ في أَمْوَالنَا وَنُصْلحَهَا، وَنَدَعَ الْجهَادَ»، قَالَ أَبُو عمْرَانَ: فَلَمْ يَزَلْ أَبُو أَيُّوبَ يُجَاهدُ في سَبيل اللَّه حَتَّى دُفنَ بالْقُسْطَنْطينيَّة»([105]).

وذكره الحافظ ابن حجر في كتابه عن الصحابة فقال: «قال ابن منده: له رؤية، قال ابن السكن: يقال له صحبة...وزعم سيف أنه شهد فتوح الشام مع أبيه ... وأنه كان يؤمر على غزو الروم أيام معاوية، وشهد معه صفين، وكان أخوه المهاجر بن خالد مع علي في حروبه، ... وكان عبد الرحمن عظيم القدر عند أهل الشام»([106]).

وقال الإمام ابن كثير ؒ: «عَبْدُ الرَّحْمَن بْنُ خَالد بْن الْوَليد الْقُرَشيُّ الْمَخْزُوميُّ، وَكَانَ منَ الشُّجْعَان الْمَعْرُوفينَ وَالْأَبْطَال الْمَشْهُورينَ كَأَبيه، وَكَانَ قَدْ عَظُمَ ببلَاد الشَّام... قال ابْنُ مَنْدَهْ وَأَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانيُّ: أَدْرَكَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم.

... وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: كَانَ عَظيمَ الْقَدْر في أَهْل الشَّام، شَهدَ صفّينَ مَعَ مُعَاويَةَ، وَقَالَ ابْنُ سُمَيْعٍ: كَانَ يَلي الصَّوَائفَ زَمَنَ مُعَاويَةَ، وَقَدْ حَفظَ عَنْ مُعَاويَةَ»([107]).

9- عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب:

 قال الإمام النووي ؒ: «أبو سعيد عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي أسلم يوم الفتح، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم، كان اسمه عبد الكعبة، وقيل: عبد كلال، فسماه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، سكن البصرة، وغزا خراسان في زمن عثمان، وفتح سجستان، وكابل، وفتح سجستان سنة ثلاث وثلاثين. ... قيل: توفي بمرو، وأنه أول من دفن بمرو من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والصحيح الأول، وكان متواضعًا، فإذا وقع المطر لبس برنسًا، وأخذ المسحاة، وكنس الطريق» ([108]).

وقال الحافظ ابن حجر ؒ: «قال البخاري: له صحبة، وكان إسلامه يوم الفتح، وشهد غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم شهد فتوح العراق، وهو الذي افتتح سجستان وغيرها في خلافة عثمان، ثم نزل البصرة، ...استعمله عبد الله بن عامر على سجستان، وغزا خراسان ففتح بها فتوحاً، ثم رجع إلى البصرة، فمات بها سنة خمسين، ... وقيل مات بمرو والأول أصح، وقال خليفة في سنة اثنتين وأربعين، وجه عبد اللَّه بن عامر يعني من البصرة لما استعمل معاوية عليها عبد الرحمن بن سمرة إلى سجستان، فخرج معه إليها في تلك الغزاة المهلب بن أبي صفرة والحسن بن أبي الحسن وقطري يعني الذي صار بعد ذلك رأس الخوارج... ثم عزله معاوية سنة ست وأربعين»([109]).

وقال الإمام ابن كثير ؒ: «كان أَحَدَ السَّفيرَيْن بَيْنَ مُعَاويَةَ وَالْحَسَن ب»([110]).

10-        عبد الله بن جعفر بن أبي طالب:

أبوه من أكابر بني هاشم، وكان أكبر من أخيه علي، وأسلم مبكراً، وهاجر إلى الحبشة، وكان خطيب المهاجرين فيها أمام النجاشي، وعاد إلى المدينة بعد فتح خيبر، ومعه أولاده، ومنهم عبد اللَّه.

قال ابن سعد ؒ: «عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ويكنى أبا جعفر، وأمه أسماء بنت عميس بن معد بن تيم ...فولد عبد اللَّه بن جعفر؛ جعفر الأكبر، وبه كان يكنى... ولما هاجر جعفر بن أبي طالب إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية حمل معه امرأته أسماء بنت عميس الخثعمية، فولدت له هناك عبد اللَّه، وعوناً، ومحمداً، ثم ولد للنجاشي بعد ما ولدت أسماء ابنها عبد اللَّه بأيام... فأرسل [النجاشي] إلى جعفر، ما سميت ابنك؟ قال: عبد الله»([111]).

قال ابن عبد البر ؒ: «عبد الله بن جعفر بن أبي طالب القرشي الهاشمي، يكنى أَبَا جَعْفَر، ولدته أمه أَسْمَاء بنْت عميس بأرض الحبشة، وَهُوَ أول مولود ولد في الإسلام بأرض الحبشة... وَكَانَ عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر كريماً، جواداً ظريفاً، خليقاً عفيفاً سخياً يسمى بحر الجود، ...روي أن عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر كَانَ إذا قدم على مُعَاويَة أنزله داره، وأظهر لَهُ من بره وإكرامه مَا يستحقه، ... ويقولون: إن أجواد العرب في الإسلام عشر، فأجواد أهل الحجاز عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر، وعبيد الله بْن عَبَّاس بْن عبد المطلب، وسعيد بْن الْعَاص»([112]).

وقال الإمام النووي ؒ: «أبو جعفر القريشي الهاشمي الصحابي ابن الصحابي، وابن الصحابية، والجواد ابن الجواد، وأمه أسماء بنت عميس الخثعمية»([113]).

وقال الإمام ابن كثير ؒ: «وَكَانَ ابْنُ جَعْفَرٍ صَديقًا لمُعَاويَةَ، وَكَانَ يَفدُ عَلَيْه كُلَّ سَنَةٍ فَيُعْطيه أَلْفَ أَلْف درْهَمٍ، وَيَقْضي لَهُ مائَةَ حَاجَةٍ.

وَلَمَّا حَضَرَتْ مُعَاويَةَ الْوَفَاةُ أَوْصَى ابنه يزيد، فَلَمَّا قَدمَ ابْنُ جَعْفَرٍ عَلَى يَزيدَ قَالَ لَهُ: كَمْ كَانَ أَميرُ الْمُؤْمنينَ يُعْطيكَ كُلَّ سَنَةٍ؟ قَالَ أَلْفَ أَلْفٍ.

فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَضَعَفْنَاهَا لَكَ، وَكَانَ يُعْطيه أَلْفَيْ أَلْفٍ كُلَّ سنة، فقال له عبد الملك بْنُ جَعْفَرٍ: بأَبي أَنْتَ وَأُمّي مَا قُلْتُهَا لأَحَدٍ قَبْلَكَ، وَلَا أَقُولُهَا لأَحَدٍ بَعْدَكَ، فَقَالَ يَزيدُ: وَلَا أَعْطَاكَهَا أَحَدٌ قَبْلي وَلَا يُعْطيكَهَا أَحَدٌ بَعْدي»([114]).

11-        عبد اللَّه بن عامر:

أما «عبد الله بن عامر» فإن أباه أتى به النبيصلى الله عليه وسلم فحنّكه، فتثاءب، فتفل في فمه، فازدرد ريقه. فقال النبيّصلى الله عليه وسلم: إني لأرجو أن يكون متّقياً، وكان يكنى: أبا عبد الرحمن، وهو افتتح عامّة «فارس»، و«خراسان ... وكان يقول: لو تركت لخرجت المرأة في حداجتها على دابّتها، ترد كل يوم على ماء وسوق، حتى توافي مكة، ومات بمكة، فدفن بعرفات»([115]).

وقال الحافظ ابن حجر ؒ: «ابن خال عثمان بن عفان... ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأتي به إليه وهو صغير، فقال: «هذا شبيهنا»، وجعل يتفل عليه، ويعوذه، فجعل يبتلع ريق النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّه لمستقي» ... وأثبت ابن حبّان له الرؤية، وهو كذلك... وكان عبد اللَّه جواداً شجاعاً ميموناً، ولاه عثمان البصرة بعد أبي موسى الأشعري سنة تسع وعشرين، ... وفي إمارته قتل يزدجرد آخر ملوك فارس، وأحرم ابن عامر من نيسابور شكراً للَّه تعالى »([116]).

وقال الحافظ ابن كثير ؒ: «وُلدَ في حَيَاة رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَتَفَلَ في فيه، ... وَكَانَ كَريمًا مُمَدَّحًا مَيْمُونَ النَّقيبَة، اسْتَنَابَهُ عُثْمَانُ عَلَى الْبَصْرَة بَعْدَ أَبي مُوسَى، ... وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ لَبسَ الْخَزَّ بالْبَصْرَة، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ» ([117]).

وقال ابن سعد ؒ: «وَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ اللَّه بْنُ عَامرٍ مَعَ مُعَاويَةَ بالشَّام، وَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ بذكْرٍ في صفّينَ، ... فَوَلَّاهُ الْبَصْرَةَ ثَلَاثَ سنينَ، وَمَاتَ ابْنُ عَامرٍ قَبْلَ مُعَاويَةَ بسَنَةٍ، فَقَالَ مُعَاويَةُ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْد الرَّحْمَن، بمَنْ نُفَاخرُ وَبمَنْ نُبَاهي»([118]).

12- عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب:

ولد في السنين الأولى للبعثة النبوية، وأسلم مع أبيه، وهاجر معه، قال الحافظ ابن حجر ؒ: «ولد سنة ثلاث من المبعث النبوي ...أسلم مع أبيه وهاجر ... استصغره [النبي صلى الله عليه وسلم] في بدر، ثم بأحد فكذلك، ثم بالخندق فأجازه... قال عبد اللَّه بن مسعود: إنّ أملك شباب قريش لنفسه في الدنيا عبد اللَّه بن عمر... عن جابر [بسند صحيح]: ما منّا من أحد أدرك الدنيا إلا مالت به، ومال بها غير عبد اللَّه بن عمر... عن السدي بسند حسن: رأيت نفرًا من الصحابة كانوا يرون أنه ليس أحد فيهم على الحالة التي فارق عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا ابن عمر... كان عمر في زمان له فيه نظراء، وكان ابن عمر في زمان ليس له فيه نظير، ومن وجه صحيح: كان ابن عمر حين مات خير من بقي... وكان ابن عمر من أئمة الدين...وعن مالك: كان إمام الناس عندنا بعد عمر زيد بن ثابت، وكان إمام الناس عندنا بعد زيد- ابن عمر ...وعن مالك أنّ ابن عمر بلغ سبعاً وثمانين ... مات سنة اثنتين أو ثلاث وسبعين»([119]).

وقال ابن سعد ؒ: «عَنْ أَبي حُصَيْنٍ أَنَّ مُعَاويَةَ قَالَ: وَمَنْ أَحَقُّ بهَذَا الْأَمْر منَّا؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ عُمَرَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: أَحَقُّ منْكَ مَنْ ضَرْبَكَ وَأَبَاكَ عَلَيْه، ثُمَّ ذَكَرْتُ مَا في الْجنَّان، فَخَشيتُ أَنْ يَكُونَ في ذَاكَ فَسَادٌ... وعَن الزُّهْريّ قَالَ: لَمَّا اجْتُمعَ عَلَى مُعَاويَةَ قَامَ، فَقَالَ: وَمَنْ كَانَ أَحَقَّ بهَذَا الْأَمْر منّي؟ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَتَهَيَّأَتْ أَنْ أَقُومَ فَأَقُولَ: أَحَقُّ به مَنْ ضَرْبَكَ وَأَبَاكَ عَلَى الْكُفْر، فَخَشيتُ أَنْ يَظُنَّ بي غَيْرَ الَّذي بي... وعَنْ مُحَمَّد بْن الْمُنْكَدر قَالَ: لَمَّا بُويعَ يَزيدُ بْنُ مُعَاويَةَ، فَبَلَغَ ذَاكَ ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: إنْ كَانَ خَيْرًا رَضينَا، وَإنْ كَانَ بَلَاءً صَبَرْنَا»([120]).

وقال أبو نعيم ؒ: «قيلَ لابْن عُمَرَ رضي الله عنه زَمَنَ ابْن الزُّبَيْر وَالْخَوَارج وَالْخَشَبيَّة: أَتُصَلّي مَعَ هَؤُلَاء وَمَعَ هَؤُلَاء، وَبَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا؟ قَالَ: مَنْ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاة أَجَبْتُهُ، وَمَنْ قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاح أَجَبْتُهُ، وَمَنْ قَالَ: حَيَّ عَلَى قَتْل أَخيكَ الْمُسْلم وَأَخْذ مَاله قُلْتُ: لَا»([121]).

وروى ابن سعد ؒ: «كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَا أُقَاتلُ في الْفتْنَة، وَأُصَلّي وَرَاءَ مَنْ غَلَب... وعَنْ نَافعٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلّي مَعَ الْحَجَّاج بمَكَّةَ، فَلَمَّا أَخَّرَ الصَّلَاةَ تَرَكَ أَنْ يَشْهَدَهَا مَعَهُ وَخَرَجَ منْهَا، وعن مَالكُ بْنُ أَنَسٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّه بْنَ عُمَرَ، قَالَ: لَو اجْتَمَعَتْ عَلَيَّ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ إلَّا رَجُلَيْن مَا قَاتَلْتُهُمَا...

وعن مَالكُ بْنُ أَنَسٍ، قَالَ: بَلَغَني أَنَّ عَبْدَ اللَّه بْنَ عُمَرَ، قَالَ لرَجُلٍ: إنَّا قَاتَلْنَا حَتَّى كَانَ الدّينُ للَّه، وَلَمْ تَكُنْ فتْنَةٌ، وَإنَّكُمْ قَاتَلْتُمْ حَتَّى كَانَ الدّينُ لغَيْر اللَّه، وَحَتَّى كَانَتْ فتْنَةٌ...

سَمعْتُ الْحَسَنَ، يُحَدّثُ قَالَ: لَمَّا قُتلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ قَالُوا لعَبْد اللَّه بْن عُمَرَ: إنَّكَ سَيّدُ النَّاس وَابْنُ سَيّدٍ، فَاخْرُجْ نُبَايعْ لَكَ النَّاسَ، قَالَ: إنّي وَاللَّه لَئن اسْتَطَعْتُ لَا يُهَرَاقُ في سَبَبي محْجَمَةٌ منْ دَمٍ، فَقَالُوا: لَتَخْرُجَنَّ أَوْ لَنَقْتُلَنَّكَ عَلَى فرَاشكَ، فَقَالَ لَهُمْ مثْلَ قَوْله الْأَوَّل، قَالَ الْحَسَنُ: فَأَطْمَعُوهُ وَخَوَّفُوهُ، فَمَا اسْتَقْبَلُوا منْهُ شَيْئًا حَتَّى لَحقَ باللَّه.. وكَتَبَ ابْنُ عُمَرَ إلَى عَبْد الْمَلك بْن مَرْوَانَ فَبَدَأَ باسْمه، فَكَتَبَ إلَيْه: أَمَّا بَعْدُ فَـ ﴿اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلَى يَوْم الْقيَامَة لَا رَيْبَ فيه﴾ [النساء: 87] إلَى آخر الْآيَة، وَقَدْ بَلَغَني أَنَّ الْمُسْلمينَ اجْتَمَعُوا عَلَى الْبَيْعَة لَكَ، وَقَدْ دَخَلْتُ فيمَا دَخَلَ فيه الْمُسْلمُونَ وَالسَّلَامُ»([122]).

وقال الحافظ ابن كثير ؒ: «وَبَعَثَ إلَيْه مُعَاويَةُ بمائَة أَلْفٍ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُبَايعَ ليَزيدَ، فَمَا حَالَ عَلَيْه الحول وعنده منها شيء، وَكَانَ يَقُولُ: إنّي لَا أَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا، وما رَزَقَني اللَّهُ فَلَا أَرُدُّهُ.

وَكَانَ في مُدَّة الْفتْنَة لَا يَأْتي أَميرٌ إلَّا صَلَّى خَلْفَهُ، وَأَدَّى إلَيْه زَكَاةَ مَاله»([123]).

وروى ابن سعد ؒ: «حَدَّثَنَا خَالدُ بْنُ سُمَيْرٍ قَالَ: خَطَبَ الْحَجَّاجُ الْفَاسقُ عَلَى الْمنْبَر، فَقَالَ: إنَّ ابْنَ الزُّبَيْر حَرَّفَ كتَابَ اللَّه، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: كَذَبْتَ، كَذَبْتَ، كَذَبْتَ، مَا يَسْتَطيعُ ذَلكَ، وَلَا أَنْتَ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: اسْكُتْ فَإنَّكَ شَيْخٌ قَدْ خَرفْتَ، وَذَهَبَ عَقْلُكَ، يُوشكُ شَيْخٌ أَنْ يُؤْخَذَ فَتُضْرَبَ عُنُقُهُ فَيُجَرَّ قَد انْتَفَخَتْ خُصْيَتَاهُ يَطُوفُ به صبْيَانُ أَهْل الْبَقيع...

عَنْ سَعيد بْن جُبَيْرٍ قَالَ: لَمَّا أَصَابَ ابْنَ عُمَرَ الْخَبْلُ الَّذي أَصَابَهُ بمَكَّةَ، فَرُميَ حَتَّى أَصَابَ الْأَرْضَ، فَخَافَ أَنْ يَمْنَعَهُ الْأَلَمُ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أُمّ الدَّهْمَاء اقْض بيَ الْمَنَاسكَ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ بَلَغَ الْحَجَّاجَ، فَأَتَاهُ يَعُودُهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ: لَوْ أَعْلَمُ مَنْ أَصَابَكَ لَفَعَلْتُ وَفَعَلْتُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ عَلَيْه، قَالَ: أَنْتَ أَصَبْتَني، حَمَلْتَ السّلَاحَ في يَوْمٍ لَا يُحْمَلُ فيه السّلَاحُ، فَلَمَّا خَرَجَ الْحَجَّاجُ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا آسَى منَ الدُّنْيَا إلَّا عَلَى ثَلَاثٍ: ظمَإ الْهَوَاجر، وَمُكَابَدَة اللَّيْل، وَأَلَّا أَكُونَ قَاتَلْتُ هَذه الْفئَةَ الْبَاغيَةَ الَّتي حَلَّتْ بنَا»([124]).

12-        فضالة بن عبيد الأنصاري:

قال ابن عبد البر ؒ: «الأوسي، يكنى أَبَا مُحَمَّد. أول مشاهده أحد، ثُمَّ شهد المشاهد كلها، ثُمَّ انتقل إلَى الشام، وسكن دمشق وبنى بها دارًا، وَكَانَ فيها قاضياً لمعاوية، ومات بها، وقبره بها مَعْرُوف إلَى اليوم.

وكان مُعَاويَة استقضاه في حين خروجه إلَى صفين، وذلك أن أَبَا الدرداء لما حضرته الوفاة قَالَ لَهُ مُعَاويَة: من ترى لهذا الأمر؟ فقال: فضالة ابن عُبَيْد، فلما مات أرسل إلَى فَضَالَة بْن عبيد فولّاه القضاء»([125]).

«أسلم قديماً، ولم يشهد بدراً، وشهد أحداً فما بعدها، وشهد فتح مصر والشام قبلها، ثم سكن الشام، وولي الغزو، وولاه معاوية قضاء دمشق بعد أبي الدرداء، قاله خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه، قال: وكان ذلك بمشورة من أبي الدرداء.

كان ممن بايع تحت الشجرة... وقال ابن حبّان: مات في خلافة معاوية، وكان معاوية ممن حمل سريره، وكان معاوية استخلفه على دمشق في سفرة سافرها.

وأرّخ المدائني وفاته سنة ثلاث وخمسين، وكذا قال ابن السكن، وقال: مات بدمشق، لأنّ معاوية كان جعله قاضياً عليها، وبنى له بها داراً»([126]).

وقال خليفة بن خياط ؒ: « عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص قَالَ ملك الأَرْض المقدسة مُعَاويَة وَابْنه، وَأقَام الْحَج سنة إحْدَى وَخمسين مُعَاويَة بْن أَبي سُفْيَان وفيهَا شَتَّى فضَالة بْن عبيد الْأنْصَاريّ بأَرْض الرّوم في الْبَحْر»([127]).

وروى آبو زرعة «أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاء كَانَ يَليَ الْقَضَاءَ بدمَشْقَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، قَالَ لَهُ مُعَاويَةُ: مَنْ تَرَى لهَذَا الْأَمْر؟ قَالَ: فُضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ. فَلَمَّا مَاتَ أَرْسَلَ مُعَاويَةُ إلَى فُضَالَةَ فَوَلَّاهُ الْقَضَاءَ، فَقَالَ لَهُ: أَمَّا إنّي لَمْ أُحبَّكَ بهَا، وَلَكنّي اسْتَتَرْتُ بكَ من النار، فاستتر...

حَدَّثَنَا سَعيدُ بْنُ عَبْد الْعَزيز: أَنَّ مُعَاويَةَ بْنَ أَبي سُفْيَانَ اسْتَخْلَفَ فُضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ - حينَ خَرَجَ إلَى صفّينَ - عَلَى دمَشْقَ.

حدثنا أبو زرعة قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعيدُ: أَنَّ فُضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ تُوُفّيَ في خلَافَة مُعَاويَةَ.

قَالَ: فَحَمَلَ مُعَاويَةُ سَريرَهُ، وَقَالَ لابْنه عَبْد اللَّه: أَعْقبْني أَيْ بُنَيَّ، فَإنَّكَ لَنْ تَحْملَ بَعْدَهُ مثله»([128]).

وأكد الإمام البخاري ؒ بقوله: «مَاتَ فضَالة بن عبيد الْأنْصَاريّ من بني عَمْرو بن عَوْف قَاضي مُعَاويَة في خلَافَة مُعَاويَة بدمَشْق»([129]).

13-        محمد بن الحنفية:

من التابعين، وأمه من بني حنيفة، تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد حروب الردة، هو محمد بن علي بن أبي طالب، يقال له محمد بن الحنفية، كنيته أبو القاسم، من أفاضل أهل البيت، وكانت الشيعة تسميه المهدي، كان مولده لثلاث سنين بقيت من خلافة عمر بن الخطاب، ومات برضوى سنة ثلاث وسبعين، ودفن بالبقيع([130]).

قال الإمام الذهبي: «وُلدَ في صَدْر خلافَة عُمَرَ، وَرَأَى عُمَرَ... وَوَفَدَ عَلَى مُعَاويَةَ، وَعَلَى عَبْد الْمَلك.

قَالَ أَبُو عَاصمٍ النَّبيلُ: صَرَعَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفيَّة مَرْوَانَ يَوْمَ الْجَمَل، وَجَلَسَ عَلَى صَدْره، فَلَمَّا وَفَدَ عَلَى ابْنه ذَكَّرَهُ بذَلكَ، فَقَالَ: عَفْوًا يَا أَميرَ الْمُؤْمنينَ، فَقَالَ: وَاللَّه مَا ذَكَرْتُ ذَلكَ وَأَنَا أُريدُ أَنْ أُكَافئَكَ به»([131]).

وقال الإمام ابن كثير ؒ: «ولما اجتمع الناس على بيعة عبد الملك قال ابن عمر لابن الحنفية: ما بقي شيء فبايع، فكتب بيعته إلى عبد الملك، ووفد عليه بعد ذلك([132]).

وقال الإمام النووي ؒ: «وهو من كبار التابعين، دخل على عمر بن الخطاب، وسمع عثمان، وأباه y.

... روينا عنه، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول اللَّه، إن ولد لي مولود بعدك أسميه باسمك، وأكنيه بكنيتك؟ قال: (نعم)...

وقال إبراهيم بن عبد اللَّه بن الجنيد الحافظ: لا نعلم أحدًا أسند عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ولا أصح مما أسند محمد ابن الحنفية. قال عمرو بن علي، وأبو نعيم في رواية عنه: مات محمد بن الحنفية سنة أربع عشرة ومائة، وقال البخاري: قال أبو نعيم: مات سنة ثمانين، وقال يحيى بن بكير: سنة إحدى وثمانين، وقال المدايني: سنة ثلاث وثمانين.

وفي طبقات الفقهاء للشيخ أبي إسحاق، عن الهيثم بن عدي: سنة ثلاث أو اثنتين وسبعين، وفى تاريخ البخاري، عن أبي حمزة، بالحاء، قال: قضينا نسكنا حين قتل ابن الزبير، ثم رجعنا إلى المدينة مع محمد ابن الحنفية، فمكث ثلاثة أيام، ثم توفي، وهذا يوافق قول الهيثم، فإن ابن الزبير قتل سنة ثلاث وسبعين، وقيل: سنة اثنتين»([133]).

وروى أبو نعيم ؒ «عَنْ سَعيد بْن الْحُسَيْن، قَالَ: قَالَ لي مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفيَّة ؒ: «مَنْ كَفَّ يَدَهُ، وَلسَانَهُ، وَجَلَسَ في بَيْته، فَإنَّ ذُنُوبَ بَني أُمَيَّةَ أَسْرَعُ عَلَيْهمْ منْ سُيوف الْمُسْلمينَ»([134]).

فهو يضع جدلاً أن الذنوب أسرع لزوال صاحبها، ومعلوم أن ابن الحنفية كان يزور معاوية، وبني أمية، ورفض أن يشترك في قتالهم، أو الخروج عليهم، ولكن - كما قلنا – إن بني أمية لم يتهمهم أحد بكفر، أو نفاق، أو حرب على الإسلام، وإنما الذين ثاروا عليهم اتهموهم أنهم لم يتبعوا الشورى، وانحرفوا في بعض أحكام الإسلام، لا أنهم حاربوا الإسلام، إلا ما أشاع عنهم الروافض، والخوارج، وهؤلاء هم الذين أتوا بدين جديد، ودلسوا على الناس دينهم.

14- محمد بن سيرين:

من التابعين المشهورين، وكان تلميذاً لأنس بن مالك رضي الله عنه، وكان بزازاً، ويكنى: أبا بكر، وحُبس بدين كان عليه، وكان أصم، وولد له ثلاثون ولداً من امرأة واحدة، كان تزوجها عربية، ولم يبق منهم غير عبد اللَّه بن محمد، وولد لسنتين بقيتا من خلافة «عثمان»، قال ذلك «أنس بن سيرين»، قال: وولدت أنا لسنة بقيت من خلافته، وتوفي سنة عشر ومائة بعد الحسن البصري بمائة يوم، وهو ابن سبع وسبعين سنة، وكان كاتباً لأنس بن مالك بفارس([135]).

قال ابن سعد ؒ: «مُحَمَّدُ بْنُ سيرينَ، وَيُكْنَى أَبَا بَكْرٍ، مَوْلَى أَنَس بْن مَالكٍ، وَكَانَ ثقَةً، مَأْمُونًا، عَاليًا رَفيعًا، فَقيهًا إمَامًا، كَثيرَ الْعلْم، وَرعًا، وَكَانَ به صَمَمٌ»([136]).

وقال الإمام النووي ؒ: «عن مورق العجلى، قال: ما رأيت رجلاً أفقه في ورعه، ولا أورع في فقهه من محمد بن سيرين.

وعن عبد الحميد بن عبد الله بن مسلم بن يسار، قال: لما حبس ابن سيرين في السجن قال له السجان: إذا كان الليل فاذهب إلى أهلك، وإذا أصبحت فتعال، فقال: لا والله، لا أعينك على خيانة السلطان»([137]).

وقال أبو نعيم ؒ: «سَمعْتُ يُونُسَ بْنَ عُبَيْدٍ يَصفُ الْحَسَنَ وَابْنَ سيرينَ فَقَالَ: «أَمَّا ابْنُ سيرينَ، فَإنَّهُ لَمْ يَعْرضْ لَهُ أَمْرَان في دينه إلَّا أَخَذَ بأَوْثَقهمَا»...

ثنا مَرْحُومُ بْنُ عَبْد الْعَزيز، قَالَ: سَمعْتُ أَبي يَقُولُ: لَمَّا كَانَتْ فتْنَةُ يَزيدَ بْن الْمُهَلَّب، انْطَلَقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ إلَى ابْن سيرينَ، فَقُلْنَا: مَا تَرَى؟ فَقَالَ: «انْظُرُوا إلَى أَسْعَد النَّاس حينَ قُتلَ عُثْمَانُ، فَاقْتَدُوا به» قُلْنَا: هَذَا ابْنُ عُمَرَ كَفَّ يَدَهُ...

ثنا سُهَيْلٌ أَخُو حَزْمٍ الْقُطَعيّ لَا أَعْلَمُ إلَّا أَنَّهُ هُوَ ذَكَرَهُ، قَالَ: سَمعَ ابْنُ سيرينَ رَجُلًا يَسُبُّ الْحَجَّاجَ فَأَقْبَلَ عَلَيْه فَقَالَ: «مَهْ أَيُّهَا الرَّجُلُ، فَإنَّكَ لَوْ قَدْ وَافَيْتَ الْآخرَةَ كَانَ أَصْغَرُ ذَنْبٍ عَملْتَهُ قَطُّ أَعْظَمَ عَلَيْكَ منْ أَعْظَم ذَنْبٍ عَمَلَهُ الْحَجَّاجُ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى حَكَمٌ عَدْلٌ، إنْ أَخَذَ منَ الْحَجَّاج لمَنْ ظَلَمَهُ، فَسَوْفَ يَأْخُذُ للْحَجَّاج ممَّنْ ظَلَمَهُ، فَلَا تَشْغلَنَّ نَفْسَكَ بسَبّ أَحَدٍ»([138]).

15- مسروق بن الأجدع:

من همدان، ويكنى: أبا عائشة، ومات سنة ثلاث وستين([139]).

قال ابن سعد ؒ: «مَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَع، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَن بْن مَالك بْن أُمَيَّةَ بْن عَبْد اللَّه بْن مُرّ بْن سُلَيْمَانَ بْن مَعْمَر بْن الْحَارث بْن سَعْد بْن عَبْد اللَّه بْن وَادعَةَ بْن عَمْرو بْن عَامر بْن نَاشحٍ منْ هَمْدَانَ، قَالَ: قَالَ هشَامُ بْنُ الْكَلْبيّ عَنْ أَبيه: وَقَدْ وَفَدَ الْأَجْدَعُ إلَى عُمَرَ بْن الْخَطَّاب، وَكَانَ شَاعرًا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: الْأَجْدَعُ فَقَالَ: إنَّمَا الْأَجْدَعُ شَيْطَانٌ، أَنْتَ عَبْدُ الرَّحْمَن...

عَن الشَّعْبيّ، قَالَ: كَانَ مَسْرُوقٌ إذَا قيلَ لَهُ أَبْطَأْتَ عَنْ عَليٍّ، وَعَنْ مَشَاهده، وَلَمْ يَكُنْ شَهدَ مَعَهُ شَيْئًا منْ مَشَاهده، فَأَرَادَ أَنْ يُنَاصحَهُمُ الْحَديثَ، قَالَ: أُذَكّرُكُمْ باللَّه، أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّهُ حينَ صُفَّ بَعْضُكُمْ لبَعْضٍ، وَأَخَذَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ السّلَاحَ، يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فُتحَ بَابٌ منَ السَّمَاء وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، ثُمَّ نَزَلَ منْهُ مَلَاكٌ، حَتَّى إذَا كَانَ بَيْنَ الصَّفَّيْن قَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبَاطل إلَّا أَنْ تَكُونَ تجَارَةٌ عَنْ تَرَاضٍ منْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ بكُمْ رَحيمًا﴾ [النساء: 29] أَكَانَ ذَلكَ حَاجزًا بَعْضَكُمْ عَنْ بَعْضٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَوَاللَّه لَقَدْ فَتْحَ اللَّهُ لَهَا بَابًا منَ السَّمَاء وَلَقَدْ نَزَلَ بها مَلَكٌ كَريمٌ عَلَى لسَانُ نَبيّكُمْ صلى الله عليه وسلم، وَإنَّهَا لَمُحْكَمَةٌ في الْمَصَاحف مَا نَسَخَهَا شَيْءٌ»([140]).

وقال الحافظ ابن عساكر ؒ: «مسروق بن الأجدع الهمداني ولي لمعاوية في إمرة ابن زياد»([141]).

16- مطرف بن عبد الله الشخير:

مطرف بن عبد اللَّه بن الشّخير من بني الحريش بن كعب بن ربيعة، يكنى: أبا عبد اللَّه»، وكانت لأبيه صحبة، ومات عمر رضي الله عنه ومطرف ابن عشرين سنة، فكأنه ولد في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وله عقب بـالبصرة»، ومات في خلافة عبد الملك بن مروان بعد سنة سبع وثمانين([142]).

وقال ابن سعد ؒ: «أَتَى مُطَرّفَ بْنَ عَبْد اللَّه زَمَانَ ابْن الْأَشْعَث نَاسٌ يَدَعُونَهُ إلَى قتَال الْحَجَّاج، فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْه قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ هَذَا الَّذي تَدْعُوني إلَيْه، هَلْ يَزيدُ عَلَى أَنْ يَكُونَ جهَادًا في سَبيل اللَّه؟» قَالُوا: لَا، قَالَ: «فَإنّي لَا أُخَاطرُ بَيْنَ هَلَكَةٍ أَقَعُ فيهَا، وَبَيْنَ فَضْلٍ أُصيبُهُ» ([143]).

وقال ابن عساكر: « مطرف بن عبد اللَّه بن الشخير بصري تابعي ثقة، وكان أبوه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينج بالبصرة من فتنة ابن الأشعث إلا رجلان: مطرف بن عبد اللَّه، ومحمد بن سيرين»([144]).

17- معاوية بن حديج:

قال الحافظ ابن حجر ؒ: «كان عامل معاوية على مصر... أمّره معاوية على الجيش الّذي جهزه إلى مصر، وبها محمد بن أبي بكر الصديق، فلما قتلوه بايعوا لمعاوية، ثم ولي إمرة مصر ليزيد، وذكره ابن سعد فيمن ولي مصر من الصحابة.... كان الوافد على عمر بفتح الإسكندرية...ومات سنة اثنتين وخمسين»([145]).

وقال الحافظ ابن كثير ؒ: «شَهدَ فَتَحَ مصْرَ، وَهُوَ الَّذي وَفَدَ إلَى عُمَرَ بفَتْح الْإسْكَنْدَريَّة، وَشَهدَ مَعَ عَبْد اللَّه بْن سَعْد بْن أَبي سَرْحٍ قتَالَ الْبَرْبَر، وَذَهَبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَئذٍ، وَوَليَ حُرُوبًا كَثيرَةً في بلَاد الْمَغْرب، وَكَانَ عُثْمَانيًّا في أَيَّام عَليٍّ ببلَاد مصْرَ، وَلَمْ يُبَايعْ عَليًّا بالْكُلّيَّة، فَلَمَّا أَخَذَ مُعَاويَةُ بْنُ أَبي سُفْيَانَ مصر أكرمه، ثم استنابه بها عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص، فَإنَّهُ نَابَ بهَا بَعْدَ أَبيه سَنَتَيْن ثُمَّ عَزَلَهُ معاوية، وولى معاوية بن خديج هَذَا، فَلَمْ يَزَلْ بمصْرَ حَتَّى مَاتَ بهَا»([146]).

18-         معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه:

ذكر سيدنا معاوية رضي الله عنه هنا باعتباره صحابياً عاصر أربعة من الخلفاء، وكيف كان موقفه منهم، وموقفهم منه، وهل نقض بيعة، أو سل سيفاً في وجه السلطان المسلم.

قال الإمام ابن قتيبة ؒ: «أسلم عام الفتح، وكتب للنّبيّ صلى الله عليه وسلم وولي «الشام» لـ«عمر» و «عثمان» عشرين سنة، وولى الخلافة سنة أربعين، وهو ابن اثنتين وستين سنة.

وبلغه أن أهل «الكوفة» قد بايعوا «الحسن بن علي» فسار يريد «الكوفة» .

وسار «الحسن» يريده، فالتقوا بـ«مسكن» من أرض «الكوفة» فصالح «الحسن» «معاوية»، وبايع له، ودخل معه «الكوفة»، ثم انصرف «معاوية» إلى «الشام»، واستعمل على «الكوفة» «المغيرة بن شعبة»، وعلى «البصرة» «عبد الله بن عامر»، ثم جمعهما لـ«زياد»، وهو أول من جمعا له.

وولي «معاوية» الخلافة، عشرين سنة إلا شهراً، وتوفي بـ«دمشق» سنة ستين، وهو ابن اثنتين وثمانين سنة.

وقال ابن إسحاق: مات وله ثمان وسبعون سنة» ([147]).

وقال ابن حبيب: «وكان بلغ معاوية بن أبي سفيان أن بالبصرة رجلاً يشبه برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكتب إلى عامله عليها، وهو عبد الله بن عامر بن كريز، أن يوفده إليه، فأوفد كابسا، فلما دخل إلى معاوية نزل عن سريره، ومشى إليه حتى قبل بين عينيه، وأقطعه المرغاب»([148]).

وقال الحافظ ابن حجر ؒ: «ولد قبل البعثة بخمس سنين، وقيل بسبع، وقيل بثلاث عشرة، والأول أشهر.

وحكى الواقديّ أنه أسلم بعد الحديبيّة، وكتم إسلامه حتى أظهره عام الفتح، وأنه كان في عمرة القضاء مسلماً، وهذا يعارضه ما ثبت في الصحيح، عن سعد بن أبي وقاص، أنه قال في العمرة في أشهر الحج: فعلناها، وهذا يومئذ كافر، ويحتمل إن ثبت الأول أن يكون سعد أطلق ذلك بحسب ما استصحب من حاله، ولم يطلع على أنه كان أسلم لإخفائه لإسلامه...

وصحب النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب له، وولّاه عمر الشام بعد أخيه يزيد بن أبي سفيان، وأقره عثمان، ثم استمر فلم يبايع عليا، ثم حاربه، واستقلّ بالشام، ثم أضاف إليها مصر، ثم تسمّى بالخلافة بعد الحكمين، ثم استقلّ لما صالح الحسن، واجتمع عليه الناس، فسمّي ذلك العام عام الجماعة. ...

قال عبد الملك بن مروان، قال: عاش ابن هند- يعني معاوية- عشرين سنة أميراً، وعشرين سنة خليفة، وجزم به محمد بن إسحاق، وفيه تجوّز، لأنه لم يكمل في الخلافة عشرين، إن كان أولها قتل علي، وإن كان أولها تسليم الحسن بن علي فهي تسع عشرة سنة إلا يسيراً.

وفي صحيح البخاري، عن عكرمة: قلت لابن عباس: إن معاوية أوتر بركعة، فقال: إنه فقيه»([149]).

وقال الإمام النووي ؒ: «أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان، صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي الأموي، وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، يجتمع أبوه وأمه فى عبد شمس، أسلم هو وأبوه أبو سفيان، وأخوه يزيد بن أبي سفيان، وأمه هند في فتح مكة، وكان معاوية يقول: إنه أسلم يوم الحديبية، وكتم إسلامه من أبيه وأمه، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينًا، فأعطاه من غنائم هوازن مائة بعير وأربعين أوقية، وكان هو وأبوه من المؤلفة قلوبهم، ثم حسن إسلامهما.

وكان أحد الكُتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما بعث أبو بكر رضي الله عنه الجيوش إلى الشام، سار معاوية مع أخيه يزيد، فلما مات يزيد استخلفه على عمله بالشام، وهو دمشق، فأقره عمر رضي الله عنه مكانه...

قال محمد بن سعيد: بقي معاوية أميرًا عشرين سنة، وخليفة عشرين سنة، وقال الوليد بن مسلم: كانت خلافته تسع عشرة سنة ونصفًا، وقيل: تسع عشرة سنة وثمانية أشهر وعشرين يومًا، وولي دمشق أربع سنين من خلافة عمر، واثنتي عشرة من خلافة عثمان، مع ما أضاف إليه من باقي الشام، وأربع سنين تقريبًا أيام خلافة علي، وستة أشهر خلافة الحسن، وسلم إليه الخلافة سنة إحدى وأربعين...

واتفقوا على أنه توفي بدمشق... وهو من الموصوفين بالدهاء والحلم، وذكروا أن عمر بن الخطاب لما دخل الشام فرأى معاوية قال: هذا كسرى العرب، ولما حضرته [أي معاوية] الوفاة، أوصى أن يكفن في قميص كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كساه إياه، وأن يجعل مما يلي جسده، وكان عنده قلامة أظفار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوصى أن تسحق، وتجعل فى عينيه وفمه، وقال: افعلوا ذلك بي، وخلوا بيني وبين أرحم الراحمين، ولما نزل به الموت قال: يا ليتني كنت رجلاً من قريش بذي طوى، وإني لم أل من هذا الأمر شيئًا، وكان ابنه يزيد غائبًا بحوران وقت وفاة معاوية، فأرسل إليه البريد، فلم يدركه.

وكان معاوية أبيض، جميلاً يخضب، وروي عنه قال: مازلت أطمع بالخلافة منذ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن وليت فأحسن)، قال ابن قتيبة في المعارف: لم يولد لمعاوية فى زمن خلافته ولد؛ لأنه ضرب على إليته، فانقطع عنه الولد، ولد له قبلها عبد الرحمن لأم ولد، ويزيد أمه ميسورة بنت مجدل الكلبية، وعبد اللَّه، وهند، ورملة، وصفية»([150]).

وقال أبو نعيم ؒ: «كَانَ منَ الْكَتَبَة الْحَسَبَة الْفَصَحَة، أَسْلَمَ قُبَيْلَ الْفَتْح، وَقيلَ: عَامَ الْقَضيَّة، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانيَ عَشْرَةَ، وَعَدَّهُ ابْنُ عَبَّاسٍ منَ الْفُقَهَاء، قَالَ: كَانَ فَقيهًا، تُوُفّيَ للنّصْف منْ رَجَبٍ سَنَةَ ستّينَ، وَلَهُ نَحْوٌ منْ ثَمَانينَ سَنَةً، وَقيلَ: ثَمَانٍ وَسَبْعينَ... أَصَابَتْهُ لقْوَةٌ في آخر عُمُره، وَكَانَ يَقُولُ: «رَحمَ اللهُ عَبْدًا دَعَا لي بالْعَافيَة، فَقَدْ رُميتُ في أَحْسَن مَا يَبْدُو منّي، وَلَوْلَا هَوًى مَنَّي في يَزيدَ لَأَبْصَرْتُ برُشْدي»، وَلَمَّا اعْتَلَّ قَالَ: «وَددْتُ أَنْ لَا أُعَمّرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ»، فَقيلَ: إلَى رَحْمَة الله تَعَالَى وَمَغْفرَته، فَقَالَ: «إلَى مَا شَاءَ وَقَضَى، قَدْ عَلمَ أَنّي لَمْ آلُ، وَمَا كَرهَ اللهُ غَيَّرَ»،  كَانَ حَليمًا وَقُورًا فَصيحًا، وَلي الْعمَالَةَ منْ قبَل الْخُلَفَاء عشْرينَ سَنَةً، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْإمَارَة بَعْدَ قَتْل عَليٍّ y عشْرينَ سَنَةً، فَكَانَت الْجَمَاعَةُ عَلَيْه عشْرينَ سَنَةً: منْ سَنَة أَرْبَعينَ، إلَى سَنَة ستّينَ، فَلَمَّا نَزَلَ به الْمَوْتُ قَالَ: «لَيْتَني كُنْتُ رَجُلًا منْ قُرَيْشٍ بذي طُوًى، وَأَنّي لَمْ أَل منْ هَذَا الْأَمْر شَيْئًا»، وَكَانَ يَقُولُ: «لَا حلْمَ إلَّا بالتَّجْربَة»، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَخْلَقَ للْمُلْك منْ مُعَاويَةَ، لَمْ يَكُنْ بالضَّيّق الْحَصر»، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَسْوَدَ منْ مُعَاويَةَ»([151]).

وقال الإمام ابن كثير ؒ: «وَقَدْ وَرَدَ منْ غَيْر وَجْهٍ أنَّ أَبَا مُسْلمٍ الْخَوْلَانيَّ وَجَمَاعَةً مَعَهُ دَخَلُوا عَلَى مُعَاويَةَ، فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ تُنَازعُ عَليًّا أَمْ أَنْتَ مثْلُهُ؟ فَقَالَ: وَاللَّه إنّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ خَيْرٌ منّي، وَأَفْضَلُ، وَأَحَقُّ بالْأَمْر منّي، وَلَكنْ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عُثْمَانَ قُتلَ مَظْلُومًا، وَأَنَا ابْنُ عَمّه، وَأَنَا أَطْلُبُ بدَمه، وَأَمْرُهُ إليَّ؟ فَقُولُوا لَهُ: فَلْيُسَلّمْ إليَّ قَتَلَةَ عُثْمَانَ، وَأَنَا أُسَلّمُ لَهُ أَمْرَهُ.

فَأَتَوْا عَليًّا فَكَلَّمُوهُ في ذَلكَ، فَلَمْ يَدْفَعْ إلَيْهمْ أَحَدًا، فَعنْدَ ذَلكَ صَمَّمَ أَهْلُ الشَّام عَلَى الْقتَال مَعَ مُعَاويَةَ...

لَمَّا جَاءَ خَبَرُ قَتْل عَليٍّ إلَى مُعَاويَةَ جَعَلَ يَبْكي، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَتَبْكيه وَقَدْ قَاتَلْتَهُ؟ فَقَالَ: وَيْحَك إنَّك لَا تَدْرينَ مَا فَقَدَ النَّاسُ منَ الْفَضْل، وَالْفقْه، وَالْعلْم، وفي رواية أنها قالت له: بالأمس تقاتلنّه، واليوم تبكينّه؟...

وَقَالَ الزُّهْريُّ: حَدَّثَني الْقَاسمُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَّ مُعَاويَةَ حينَ قَدمَ الْمَدينَةَ يُريدُ الْحَجَّ، دَخَلَ عَلَى عَائشَةَ، فَكَلَّمَهَا خَاليَيْن لَمْ يَشْهَدْ كَلَامَهُمَا أحد إلا ذكوان أبو عمر، ومولى عائشة، فقالت: أمنت أن أخبأ لَكَ رَجُلًا يَقْتُلُكَ بقَتْلكَ أَخي مُحَمَّدًا؟ فَقَالَ: صدقت، فلما قضى معاوية كَلَامَهُ مَعَهَا، تَشَهَّدَتْ عَائشَةُ ثُمَّ ذَكَرَتْ مَا بَعَثَ اللَّهُ به نَبيَّهُ صلى الله عليه وسلم منَ الْهُدَى وَدين الْحَقّ، وَالَّذي سَنَّ الخلفاء بعده، وحضّت معاوية على العدل، واتباع أثرهم، فقالت في ذلك، فَلَمْ يترك له عذراً، فَلَمَّا قَضَتْ مَقَالَتَهَا قَالَ لَهَا مُعَاويَةُ: أَنْت والله العالمة العاملة بأَمْر رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، النَّاصحَةُ الْمُشْفقَةُ الْبَليغَةُ الْمَوْعظَة، حَضَضْت عَلَى الْخَيْر، وَأَمَرْت به، وَلَمْ تَأْمُرينَا إلَّا بالَّذي هُوَ لنا مصلحة، وَأَنْت أَهْلٌ أَنْ تُطَاعي.

وَتَكَلَّمَتْ هيَ وَمُعَاويَةُ كَلَامًا كَثيرًا...

قَدمَ مُعَاويَةُ بْنُ أَبي سُفْيَانَ المدينة، فأرسل إلى عائشة: أن أرسلي بأَنْبجَانيَّة رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَشَعْره، فَأَرْسَلَتْ به مَعي أَحْملُهُ، حَتَّى دَخَلْتُ به عَلَيْه، فَأَخَذَ الْأَنْبجَانيَّةَ فَلَبسَهَا، وَأَخَذَ شَعْرَهُ فَدَعَا بمَاءٍ فَغَسَلَهُ وَشَربَهُ، وَأَفَاضَ عَلَى جلْده.

وَقَالَ الْأَصْمَعيُّ عَن الْهُذَليّ، عَن الشَّعْبيّ قَالَ: لَمَّا قَدمَ مُعَاويَةُ الْمَدينَةَ عَامَ الْجَمَاعَة، تَلَقَّتْهُ رجَالٌ منْ وُجُوه قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: الْحَمْدُ لله الذي أعز نصرك، وأعلا أَمْرَكَ.

فَمَا رَدَّ عَلَيْهمْ جَوَابًا حَتَّى دَخَلَ الْمَدينَةَ، فَقَصَدَ الْمَسْجدَ، وَعَلَا الْمنْبَرَ، فَحَمدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْه، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ! فَإنّي وَاللَّه مَا وَليتُ أَمْرَكُمْ حينَ وَليتُهُ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تُسَرُّونَ بولَايَتي، وَلَا تُحبُّونَهَا، وإني لعالم بما في نفوسكم من ذلك، وَلَكنّي خَالَسْتُكُمْ بسَيْفي هَذَا مُخَالَسَةً، وَلَقَدْ رُمْتُ نَفْسي عَلَى عَمَل ابْن أَبي قُحَافَةَ، فَلَمْ أجدها تقوم بذلك، ولا تقدر عليه، وَأَرَدْتُهَا عَلَى عَمَل ابْن الْخَطَّاب، فَكَانَتْ أَشَدَّ نفوراً، وأعظم هرباً من ذلك، وَحَاوَلْتُهَا عَلَى مثْل سُنَيَّات عُثْمَانَ، فَأَبَتْ عَلَيَّ، وأين مثل هؤلاء؟ ومن يقدر على أعمالهم؟ هَيْهَاتَ أَنْ يُدْركَ فَضْلَهُمْ أَحَدٌ ممَّنْ بَعْدَهُمْ؟ رَحْمَةُ اللَّه وَرضْوَانُهُ عَلَيْهمْ، غَيْرَ أَنّي سَلَكْتُ بهَا طَريقًا لي فيه مَنْفَعَةٌ، وَلَكُمْ فيه مثل ذلك.

ولكل فيه مواكلة حَسَنَةٌ، وَمُشَارَبَةٌ جَميلَةٌ، مَا اسْتَقَامَت السّيرَةُ وَحَسُنَت الطَّاعَةُ، فَإنْ لَمْ تَجدُوني خَيْرَكُمْ، فَأَنَا خَيْرٌ لَكُمْ، وَاللَّه لَا أَحْملُ السَّيْفَ عَلَى مَنْ لَا سَيْفَ مَعَهُ، وَمَهْمَا تَقَدَّمَ ممَّا قَدْ عَلمْتُمُوهُ فَقَدْ جَعَلْتُهُ دَبْرَ أُذُني، وَإنْ لَمْ تَجدُوني أَقُومُ بحَقّكُمْ كُلّه، فَارْضَوْا منّي ببَعْضه، فإنها بقاببة قوبها، وإن السيل إذا جاء يبرى، وَإنْ قَلَّ أَغْنَى، وَإيَّاكُمْ وَالْفتْنَةَ، فَلَا تَهُمُّوا بهَا، فَإنَّهَا تُفْسدُ الْمَعيشَةَ، وَتُكَدّرُ النّعْمَةَ، وَتُورثُ الاستيصال، أستغفر الله لي ولكم، أستغفر الله...

وعن علوان بن صَالح بْن كَيْسَانَ أَنَّ مُعَاويَةَ قَدمَ الْمَدينَةَ أَوَّلَ حَجَّةٍ حَجَّهَا بَعْدَ اجْتمَاع النَّاس عَلَيْه، فَلَقيَهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، وَرجَالٌ منْ قُرَيْشٍ، فَتَوَجَّهَ إلَى دَار عُثْمَانَ بْن عَفَّانَ، فَلَمَّا دَنَا إلَى بَاب الدَّار، صَاحَتْ عَائشَةُ بنْتُ عُثْمَانَ، وَنَدَبَتْ أَبَاهَا، فَقَالَ مُعَاويَةُ لمَنْ مَعَهُ: انْصَرفُوا إلَى مَنَازلكُمْ فَإنَّ لي حَاجَةً في هَذه الدار، فانصرفوا، ودخل فسكن عائشة بنت عثمان، وَأَمَرَهَا بالْكَفّ، وَقَالَ لَهَا: يَا بنْتَ أَخي، إن الناس أعطونا سلطاننا، فَأَظْهَرْنَا لَهُمْ حلْمًا تَحْتَهُ غَضَبٌ، وَأَظْهَرُوا لَنَا طاعة تحتها حقد، فبعناهم هذا بهذا، وباعونا هذا بهذا، فإن أعطيناهم غير ما اشتروا منا، شحوا علينا بحقنا، وغمطناهم بحقهم، ومع كل إنسان منهم شيعته، وهو يرى مكان شيعته، فَإنْ نَكَثْنَاهُمْ نَكَثُوا بنَا، ثُمَّ لَا نَدْري أَتَكُونُ لَنَا الدَّائرَةُ أَمْ عَلَيْنَا؟ وَأَنْ تَكُوني ابنة عثمان أمير المؤمنين أحب إليّ أَنْ تَكُوني أَمَةً منْ إمَاء الْمُسْلمينَ، وَنعْمَ الْخَلَفُ أَنَا لَك بَعْدَ أَبيك.

عَن الْأَوْزَاعيّ قَالَ: أَدْرَكَتْ خلَافَةَ مُعَاويَةَ عدَّةٌ منَ الصَّحَابَة، منْهُمْ أُسَامَةُ، وَسَعْدٌ، وَجَابرٌ، وَابْنُ عُمَرَ، وَزَيْدُ بن ثابت، وسلمة بْنُ مُخَلَّدٍ، وَأَبُو سَعيدٍ، وَرَافعُ بْنُ خَديجٍ، وَأَبُو أُمَامَةَ، وَأَنَسُ بْنُ مَالكٍ، وَرجَالٌ أَكْثَرُ، وأطيب ممَّنْ سَمَّيْنَا بأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، كَانُوا مَصَابيحَ الْهُدَى، وأوعية العلم، حضروا من الكتاب تنزيله، ومن الدين جديده، وعرفوا من الإسلام ما لم يعرفه غيرهم، وَأَخَذُوا عَنْ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم تأويل القرآن.

ومن التابعين لهم بإحسان ما شَاءَ اللَّهُ، منْهُمُ الْمسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَن بْنَ الْأَسْوَد بْن عَبْد يَغُوثَ، وَسَعيدُ بن المسيب، وَعَبْدُ اللَّه بْنُ مُحَيْريزٍ، وَفي أَشْبَاهٍ لَهُمْ لم ينزعوا يداً من جماعة في أمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم...

لَمَّا قُتلَ عُثْمَانُ لَمْ يَكُنْ للنَّاس غَازيَةٌ تَغْزُو، حَتَّى كَانَ عَامُ الْجَمَاعَة فَأَغْزَا مُعَاويَةُ أَرْضَ الرُّوم ستَّ عَشْرَةَ غَزْوَةً، تَذْهَبُ سَريَّةٌ في الصيف، ويُشَتُّوا بأَرْض الرُّوم، ثُمَّ تَقْفلُ وَتَعْقُبُهَا أُخْرَى، وَكَانَ في جملة من أغزى ابْنُهُ يَزيدُ، وَمَعَهُ خَلْقٌ منَ الصَّحَابَة، فَجَازَ بهمُ الْخَليجَ، وَقَاتَلُوا أَهْلَ الْقُسْطَنْطينيَّة عَلَى بَابهَا، ثم قفل بهم راجعاً إلى الشام، وَكَانَ آخرَ مَا أَوْصَى به مُعَاويَةُ أَنْ قال: شد خنَاقَ الرُّوم.

عَنْ يُونُسَ بْن مَيْسَرَةَ بْن حَلْبَسٍ، قَالَ: رَأَيْتُ مُعَاويَةَ في سُوق دمَشْقَ وهو مردف وراءه وصفياً عَلَيْه قَميصٌ مَرْقُوعُ الْجَيْب، وَهُوَ يَسيرُ في أَسْوَاق دمَشْقَ، وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهدٍ، أَنَّهُ قَالَ: لَوْ رَأَيْتُمْ مُعَاويَةَ لَقُلْتُمْ هَذَا الْمَهْديُّ.

وَقَالَ هُشَيْمٌ عَن الْعَوَّام عَنْ جَبَلَةَ بْن سحيم، عن ابن عمرو.

قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْوَدَ منْ مُعَاويَةَ، قَالَ قُلْتُ: وَلَا عُمَرَ؟ قَالَ: كَانَ عُمَرُ خَيْرًا منْهُ، وَكَانَ مُعَاويَةُ أَسْوَدَ منْهُ...

كَأَنْ على قضاء معاوية أبو الدرداء بولاية عمر بن الخطاب، فلمَّا حضره الموت أشار على معاوية بتولية فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، ثُمَّ مَاتَ فَضَالَةُ فَوَلَّى أَبَا إدْريسَ الْخَوْلَانيَّ»([152]).

19-        المغيرة بن شعبة رضي الله عنه:

قال الحافظ ابن كثير ؒ: «كَانَ الْمُغيرَةُ منْ دُهَاة الْعَرَب، وَذَوي آرَائهَا، أَسْلَمَ عَامَ الْخَنْدَق بَعْدَ ما قتل ثلاثة عشر منْ ثَقيفٍ، مَرْجعَهُمْ منْ عنْد الْمُقَوْقس وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، فَغَرمَ ديَاتهمْ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَشَهدَ الْحُدَيْبيَةَ، وَكَانَ وَاقفًا يَوْمَ الصُّلْح عَلَى رَأْس رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالسَّيْف صَلْتًا، وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بَعْدَ إسْلَام أَهْل الطَّائف هُوَ وَأَبُو سفيان بن حرب فهدما اللات، وقدمنا كيفية هدمهما إياها، وَبَعَثَهُ الصّدّيقُ إلَى الْبَحْرَيْن، وَشَهدَ الْيَمَامَةَ، وَالْيَرْمُوكَ، فَأُصيبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَئذٍ، وَقيلَ بَلْ نَظَرَ إلَى الشَّمْس وَهيَ كَاسفَةٌ، فَذَهَبَ ضَوْءُ عَيْنه، وَشَهدَ القادسية، وولاه عمر فتوحاً كثيرة، منها همدان وَمَيْسَانُ، وَهُوَ الَّذي كَانَ رَسُولَ سَعْدٍ إلَى رُسْتُمَ، فَكَلَّمَهُ بذَلكَ الْكَلَام الْبَليغ، فَاسْتَنَابَهُ عُمَرُ عَلَى الْبَصْرَة، فَلَمَّا شُهدَ عَلَيْه بالزّنَا، وَلَمْ يثبت عَزَلهُ عَنْهَا، وَوَلَّاهُ الْكُوفَةَ، وَاسْتَمَرَّ به عُثْمَانُ حيناً ثم عزله، فبقي معتزلاً حَتَّى كَانَ أَمْرُ الْحَكَمَيْن، فَلَحقَ بمُعَاويَةَ، فَلَمَّا قتل علي وصالح معاوية الحسن، ودخل الكوفة، ولاه عَلَيْهَا، فَلَمْ يَزَلْ أَميرَهَا حَتَّى مَاتَ في هَذه السَّنَة عَلَى الْمَشْهُور»([153]).

وقال الإمام ابن قتيبة ؒ: «وولّاه «عمر» رضي الله عنه «البصرة»، فافتتح «ميسان»، وافتتح «دستميسان»، و«أبزقباذ»، و«سوق الأهواز»، و«همذان»، وشهد فتح «نهاوند»، وكان على ميسرة «النعمان بن مقرّن»، وهو أول من وضع ديوان «البصرة» ...

ومات بالكوفة، وهو أميرها، بالطاعون سنة خمسين، وقال حين حضرته الوفاة: اللَّهمّ هذه يميني: بايعت بها نبيّك، وجاهدت بها في سبيلك... ذهبت عينه «يوم اليرموك»([154]).

وقال ابن حبيب :: «من فقئت عينه من الأشراف في الحرب: أبو سفيان صخر بن حرب، ذهبت عينه يوم الطائف مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. ... المغيرة بن شعبة، يوم القادسية»([155]).

وقال الحافظ ابن عساكر ؒ: «وكان يقال له مغيرة الرأي، وكان داهية لا يشتجر في صدره أمران إلا وجد في أحدهما مخرجاً، وشهد المغيرة المشاهد مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقدم وفد ثقيف، فأنزلهم عليه فأكرمهم، وبعثه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع أبي سفيان بن حرب إلى الطائف، فهدموا الربة...

وكان المغيرة أول من وضع ديوان البصرة، وجمع الناس ليعطوا عليه، وولي الكوفة لعمر بن الخطاب، فقتل عمر وهو عليها، ثم وليها بعد ذلك لمعاوية بن أبي سفيان، فمات بها وهو والٍ عليها.

عن الزهري قال: كان من دهاة الناس في الفتنة خمسة نفر: عمرو بن العاص، ومعاوية، ومن الأنصار: قيس بن سعد، ومن ثقيف: المغيرة بن شعبة، ومن المهاجرين: عبد اللَّه بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وكان مع علي رجلان: قيس، وعبد اللَّه، واعتزل المغيرة بن شعبة»([156]).

وقال الحافظ ابن حجر ؒ: «وقال الشّعبيّ: كان من دهاة العرب، وكذا ذكره الزهري.

وقال قبيصة بن جابر: صحبت المغيرة، فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بالمكر، لخرج المغيرة من أبوابها كلها، وولاه عمر البصرة...

قال البغويّ: كان أول من وضع ديوان البصرة، وقال ابن حبان: كان أول من سلم عليه بالإمرة، ثم ولاه عمر الكوفة، وأقره عثمان ثم عزله، فلما قتل عثمان اعتزل القتال إلى أن حضر مع الحكمين، ثم بايع معاوية بعد أن اجتمع الناس عليه، ثم ولاه بعد ذلك الكوفة، فاستمرّ على إمرتها حتى مات سنة خمسين عند الأكثر...

وقال الطّبريّ: كان لا يقع في أمر إلا وجد له مخرجاً، ولا يلتبس عليه أمران إلا ظهر الرأي في أحدهما.

... وذكر البغويّ، من طريق زيد بن أسلم- أن المغيرة استأذن على عمر، فقال: أبو عيسى، قال: من أبو عيسى؟ قال: المغيرة بن شعبة، قال: فهل لعيسى من أب؟ فشهد له بعض الصّحابة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يكنيه بها... عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: استعمل عمر المغيرة على البحرين، فكرهوه، وشكوا منه، فعزله، فخافوا أن يعيده عليهم، فجمعوا مائة ألف، فأحضرها الدّهقان إلى عمر، فقال: إن المغيرة اختان هذه، فأودعها عندي، فدعاه فسأله، فقال: كذب، إنما كانت مائتي ألف، فقال: وما حملك على ذلك؟ قال: كثرة العيال، فسقط في يد الدهقان، فحلف وأكّد الأيمان أنه لم يودع عنده قليلاً ولا كثيراً، فقال عمر للمغيرة: ما حملك على هذا؟ قال: إنه افترى عليّ، فأردت أن أخزيه...

والمغيرة هذا كان قاضياً بالمدينة في خلافة عثمان، ثم كان مع عليّ في حروبه، وهو الّذي طرح على ابن ملجم القطيفة لما ضرب عليّا، فأمسكه، وضرب به الأرض، ونزع منه سيفه، وسجنه حتى مات على منزلته»([157]).

20-        أبو هريرة رضي الله عنه:

اختُلف كثيراً في اسمه، قال ابن حبان: «أبو هريرة الدوسي، ودوس قبيلة من اليمن، اختلفوا في اسمه، فمنهم من قال عبد شمس، ومنهم من قال عبد عمرو، ومنهم من قال: سكين بن عمرو، ومنهم من قال: عمير بن عامر بن عبد ود، وقد قيل: إن اسمه عبد عمرو بن عبد غنم، ومنهم من قال: كان اسمه عبد نهم، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، وهذا أشبه، مات سنة سبع، أو ثمان وخمسين، وكان قد دعا: اللهم لا يدركني سنة ستين، وأكثر ما كان ينزل دار الخليفة»([158]).

قال الحافظ ابن حجر ؒ: «أجمع أهل الحديث على أنه أكثر الصحابة حديثاً...

وقال أبو نعيم: كان أحفظ الصحابة لأخبار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ودعا له بأن يحبّبه إلى المؤمنين، وكان إسلامه بين الحديبيّة وخيبر، قدم المدينة مهاجراً، وسكن الصّفة...

عن رجل من الطفاوة، قال: نزلت على أبي هريرة قال: ولم أدرك من الصحابة رجلاً أشدّ تشميراً، ولا أقوم على ضيف منه.

وقال ابن عمر: أبو هريرة خير مني، وأعلم بما يحدث.

عن ابن عمر- أنه قال لأبي هريرة: أنت كنت ألزمنا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأعلمنا بحديثه.

وأخرج ابن سعد بسند جيد، عن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، قال: قالت عائشة لأبي هريرة: إنك لتحدث بشيء ما سمعته، قال: يا أمه، طلبتها وشغلك عنها المكحلة والمرآة، وما كان يشغله عنها شيء، والأخبار في ذلك كثيرة...

عن عاصم بن محمد بن يزيد بن عبد اللَّه بن عمر، عن أبيه، قال: ابن عمر إذا سمع أبا هريرة يتكلم قال: إنا نعرف ما نقول، ولكنا نجبن ويجترئ.

عن عبد الرحمن بن مهران، عن أبي هريرة- أنه قال حين حضره الموت: لا تضربوا عليّ فسطاطاً، ..فلا تنوحوا عليّ، ولا تتبعوني بمجمرة، وأسرعوا بي.

والمعتمد في وفاة أبي هريرة قول هشام بن عروة، وقد تردد البخاري فيه، فقال: مات سنة سبع وخمسين»([159]).

قال الحافظ ابن كثير ؒ: «كَانَ مُعَاويَةُ يَبْعَثُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْمَدينَة، فَإذَا غَضبَ عَلَيْه عَزَلَهُ، وَوَلَّى مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَم، فَإذَا جَاءَ أَبُو هُرَيْرَةَ إلَى مَرْوَانَ حَجَبَهُ عَنْهُ، فَعَزَلَ مَرْوَانَ، وَرَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَقَالَ لمَوْلَاهُ: مَنْ جَاءَكَ فَلَا تَرُدَّهُ, وَاحَجُبْ مَرْوَانَ، فَلَمَّا جَاءَ مَرْوَانُ دَفَعَ الْغُلَامُ في صَدْره، فلما دخل إلا بعد جهد جهيد، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: إنَّ الْغُلَامَ حَجَبَنَا عَنْكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: إنَّكَ أَحَقُّ النَّاس أَنْ لَا تَغْضَبَ منْ ذَلكَ.

وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ مَرْوَانَ هُوَ الَّذي كَانَ يَسْتَنيبُ أَبَا هُرَيْرَةَ في إمْرَة الْمَدينَة، وَلَكنْ كَانَ يَكُونُ عَنْ إذْن مُعَاويَةَ في ذَلكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ» ([160]).

وقال الحافظ ابن حجر ؒ: «عن أبي هريرة رفعه...: يهلك الناس هذا الحي من قريش، وإن المراد بعض قريش وهم الأحداث منهم لا كلهم والمراد أنهم يهلكون الناس بسبب طلبهم الملك والقتال لأجله، فتفسد أحوال الناس، ويكثر الخبط بتوالي الفتن وقد وقع الأمر كما أخبر صلى الله عليه وسلم  ... فقال مروان لعنة اللَّه عليهم غلمة، في رواية عبد الصمد: لعنة اللَّه عليهم من أغيلمة، ...التقدير غلمة عليهم لعنة اللَّه، أو ملعونون، أو نحو ذلك، ولم يرد التعجب ولا الاستثبات، ... فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت... في رواية : من بني فلان وبني فلان لقلت، وكأن أبا هريرة كان يعرف أسماءهم، وكان ذلك من الجواب الذي لم يحدث به، وتقدمت الإشارة إليه في كتاب العلم، وتقدم هناك قوله: لو حدثت به لقطعتم هذا البلعوم، ... وأما تردده في أيهم المراد بحديث أبي هريرة، فمن جهة كون أبي هريرة لم يفصح بأسمائهم، والذي يظهر أن المذكورين من جملتهم ...

قال ابن بطال: وفي هذا الحديث أيضاً حجة لما تقدم من ترك القيام على السلطان ولو جار لأنه صلى الله عليه وسلم أعلم أبا هريرة بأسماء هؤلاء وأسماء آبائهم ولم يأمرهم بالخروج عليهم مع إخباره أن هلاك الأمة على أيديهم لكون الخروج أشد في الهلاك، وأقرب إلى الاستئصال من طاعتهم فاختار أخف المفسدتين وأيسر الأمرين»([161]).

نتائج:

كانت هذه الفئة حجة طائفة من العلماء على مدى الأيام، وإلى يومنا هذا، فلا بد للناس من أئمة يصلّون لهم، ومن قضاة يحكمون في خصوماتهم، ومن أمراء، وحكام، وعلماء يفتونهم في كثير من أمور دينهم ‏ودنياهم، وإلا فسدت الأمة، وخرجت عن الطريق السوي؛ ولذلك نجد في كل عصر ومصر طائفة توظفت عند الحكام، ونفذت لها الأحكام.

إلا أن هناك أمراً يستحق التأمل والتفكير، ‏لأن العلماء الذين يحتذون حذوهم، ويهتدون بهديهم، منهم من صار بأيدي الحكام ألعوبة يتصرفون بهم كما يشاؤون، يفتون لهم بما يريدون، ويبررون لهم ما يقومون به من أعمال، وينشرون بين ‏الناس صورة للسلطان يرضى عنها عامة المسلمين، فهل هذه الطريقة كانت ظاهره عند هذه الطائفة في القرن الأول؟!

إن ما ذكرنا من نصوص لا يؤيد هذه المقولة، بل على العكس ينفيها، فهؤلاء العلماء الذين شاركوا الحكام في الأعمال، ‏لم يكونوا لهم أبواقاً، ولم يزينوا لهم أفعالهم، صحيح انه لم ينقلبوا عليهم، ولم يعادوهم، ولم يرفعوا عليهم سيفاً، أو يتقولوا فيهم قالات السوء، لكنهم مشوا معهم ليستطيعوا تنفيذ واتباع ‏ما يستطيعون من أحكام الإسلام، فالسلاطين أصلاً لم يأتوا بأحكام جديدة، أو دين جديد، بل هم مسلمون، قد يصيبهم نوع من التقصير أو الانحراف، فكان هؤلاء العلماء يسددون هؤلاء السلاطين، ويقومون بفصل الخصومات بين المسلمين، فكانت سيرتهم مع السلاطين لصالح عامة المسلمين، يعلمونهم الأحكام، ويهدونهم إلى الطريق الصحيح في اتباعها، وبذلك يبقى الدين قائماً، وأحكامه معلنة، ‏وعلماؤهم هداة الأمة، وبذلك يخففون من جور الأئمة، وزيغ الحكام، فيبقى بين الحكام والعوام نقاط التقاء وانسجام، وتبتعد عنهم الفتن الماحقة، والحروب اللافحة، ويبقى المجتمع إن لم يكن إسلاميا بكماله، فهو إسلامي بعمومه، وهذا ما حققه هؤلاء العلماء على مدى الفترات الماضية، فهل استطاع العلماء الذين يقولون إنهم على خطا ‏أولئك، هل استطاعوا أن يبقوا للأمة كيانها الإسلامي، أم أنهم توصلوا إلى أن يضفوا على كثير من السلاطين الصبغة الإسلامية، دون الاهتمام بشأن الأمة وكيانها، وأصبحت مهمتهم تبرير كثير من أعمال الحكام، وإسكات الأمة إن أحست ‏بحاجة للتغيير، فيأتي هؤلاء العلماء ليثبتوا للعيون ما لا تراه العيون، ويصروا أنهم يرونها، وليسمعوا آذانهم ما لم تسمع من أقوال يختلقونها للسلاطين، ليزيّنوا للناس حياتهم المنحرفة الضالة.

ومعظم علماء السلاطين اليوم، يأخذون من أسلافهم علماء السلاطين مهمة الدفاع عن السلاطين، ونقطة الاتفاق بين السلف والخلف، هو مفردة (السلاطين)،وفرق هذه المفردة بين الأمس واليوم هو أن السلاطين القدامى هم حكام مسلمون، همهم الدفاع عن الإسلام والدعوة إليه، ومعظم خلفاء بني أمية، إن لم نقل كلهم، كانوا فاتحين مجاهدين، كما سبق وذكرنا، وهؤلاء يدافعون عن سلاطين، على الأحسن الأحوال، لا يقيمون للإسلام وزناً، ولا يقبلون الدفاع عن الإسلام، إن لم نقل إنهم يحاربونه، ويقتلون دعاته، أو يضيّقون عليهم الدنيا مع سعتها.

ثالثاً: فئات لم تصمت:

هذه فئة عاشت في القرن الأول، ورأت أموراً لا تعجبها، وظنت – باجتهادها – أنها تخالف بعض أمور الشرع الحنيف، فلم تصمت، بل تكلمت، وأمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر.

1- إبراهيم بن ميمون الصائغ:

أيّد ابن ميمون الصائغ الثورة العباسية في بدايتها، ولكنه شعر أن بها خللاً، فبدأ يتملص منها، فقتله أبو مسلم الخراساني، قال ابن سعد ؒ: «إبْرَاهيمُ بْنُ مَيْمُونٍ الصَّائغُ كَانَ هُوَ وَمُحَمَّدُ بْنُ ثَابتٍ الْعَبْديُّ صَديقَيْن لأَبي مُسْلمٍ الدَّاعيَة بخُرَاسَانَ، يَجْلسَان إلَيْه، وَيَسْمَعَان كَلَامَهُ، فَلَمَّا أَظْهَرَ الدَّعْوَةَ بخُرَاسَانَ، وَقَامَ بهَذَا الْأَمْر دَسَّ إلَيْهمَا مَنْ يَسْأَلُهُمَا عَنْ نَفْسه، وَعَن الْفَتْك به، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ ثَابتٍ: لَا أَرَى أَنْ يُفْتَكَ به؛ لأَنَّ الْأَيْمَانَ قَيْدُ الْفَتْك، وَقَالَ إبْرَاهيمُ الصَّائغُ: أَرَى أَنْ يُفْتَكَ به، وَيُقْتَلَ، فَوَلَّى أَبُو مُسْلمٍ مُحَمَّدَ بْنَ ثَابتٍ الْعَبْديَّ قَضَاءُ مَرْوَ، وَبَعَثَ إلَى إبْرَاهيمَ الصَّائغ فَقُتلَ، وَقَدْ رُويَ أَنَّ إبْرَاهيمَ الصَّائغَ كَانَ أَتَى أَبَا مُسْلمٍ فَوَعَظَهُ، فَقَالَ لَهُ: انْصَرفْ إلَى مَنْزلكَ، فَقَدْ عَرَفْنَا رَأْيَكَ فَرَجَعَ، ثُمَّ تَحَنَّطَ بَعْدَ ذَلكَ وَتَكَفَّنَ، وَأَتَاهُ وَهُوَ في مَجْمَعٍ منَ النَّاس فَوَعَظَهُ وَكَلَّمَهُ بكَلَامٍ شَديدٍ فَأَمَرَ به فَقُتلَ، وَطُرحَ في بئْرٍ» ([162]).

ولذلك ذكر ابن كثير إيضاحاً أكبر حول هذا الموضوع فقال: «كَانَ إبْرَاهيمُ بْنُ مَيْمُونٍ الصَّائغُ منْ أَصْحَابه وَجُلَسَائه في زَمَن الدَّعْوَة، وَكَانَ يَعدُهُ إذا ظهر أن يقيم الحدود، فلما تمكن أبو مسلم ألح عليه إبراهيم بن ميمون في الْقيَام بمَا وَعَدَهُ به حَتَّى أَحْرَجَهُ، فأمر بضرب عنقه، وقال له: لم لا كُنْتَ تُنْكرُ عَلَى نَصْر بْن سَيَّارٍ وَهُوَ يَعْمَلُ أَوَانيَ الْخَمْر منَ الذَّهَب، فَيَبْعَثُهَا إلَى بَني أُمَيَّةَ؟ فَقَالَ لَهُ: إنَّ أُولَئكَ لَمْ يقربوني من أنفسهم، ويعدوني منها ما وعدتني أنت»([163]).

2- أنس بن مالك رضي الله عنه:

قال ابن كثير ؒ: «أنس بن مالك بن النَّضْر ... الْأَنْصَاريُّ النَّجَّاريُّ، خَادمُ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَصَاحبُهُ، وَأُمُّهُ أُمُّ حَرَامٍ: مُلَيْكَةُ بنْتُ ملْحَانَ بْن خَالد بْن زَيْد بْن حَرَامٍ، زَوْجَةُ أَبي طَلْحَةَ زَيْد بْن سَهْلٍ الْأَنْصَاريّ»([164]).

 وقال الحافظ ابن حجر ؒ: «ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وكان له بستان يحمل الفاكهة في السنة مرّتين، وكان فيه ريحان، ويجيء منه ريح المسك، وكانت إقامته بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ثم شهد الفتوح، ثم قطن البصرة ومات بها...

قال عليّ بن المدينيّ: كان آخر الصحابة موتاً بالبصرة، وقال البخاريّ: حدثنا موسى، حدثنا إسحاق بن عثمان، سألت موسى بن أنس: كم غزا أنس مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: ثماني غزوات...

وقال معتمر، عن أبيه: سمعت أنس بن مالك يقول: لم يبق أحد صلّى القبلتين غيري، قال جرير بن حازم: قلت لشعيب بن الحبحاب: متى مات أنس؟ قال: سنة تسعين.

... الأنصاري الخزرجي خادم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأحد المكثرين من الرواية عنه، صحّ عنه أنه قال: قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن عشر سنين، وأن أمه أم سليم أتت به النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم، فقالت له: هذا أنس غلام يخدمك، فقَبلَه.

مات وله مائة سنة وسنة، قال: وقيل مائة وسبع سنين، ورواه البغويّ، عن عمر بن شبّة، عن محمد بن عبد اللَّه الأنصاريّ كذلك.

قال الطّبرانيّ:  «... عن أنس، قال: قالت أم سليم: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه لأنس فقال: «اللَّهمّ أكثر ماله وولده، وبارك له فيه» .

وقال جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس: جاءت بي أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنا غلام، فقالت: يا رسول اللَّه، أنس ادع اللَّه له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهمّ أكثر ماله وولده وأدخله الجنّة»([165])»([166]).

وقال الإمام ابن كثير ؒ: «دَخَلَ أَنَسُ بْنُ مَالكٍ عَلَى الْحَجَّاج بْن يُوسُفَ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يديه قال لَهُ: إيهٍ إيهٍ يَا أُنَيْسُ، يَوْمٌ لَكَ مَعَ عَليٍّ، وَيَوْمٌ لَكَ مَعَ ابْن الزُّبَيْر، وَيَوْمٌ لَكَ مَعَ ابْن الْأَشْعَث، وَاللَّه لَأَسْتَأْصلَنَّكَ كما تستأصل الشاة، وَلَأَدْمَغَنَّكَ كَمَا تُدْمَغُ الصَّمْغَةُ.

فَقَالَ أَنَسٌ: إيَّايَ يعني الأمير أصلحه الله؟ قال: إياك أعني صك اللَّهُ سَمْعَكَ.

قَالَ أَنَسٌ: إنَّا للَّه وَإنَّا إلَيْه رَاجعُونَ، وَاللَّه لَوْلَا الصّبْيَةُ الصّغَارُ مَا بَالَيْتُ أَيَّ قتْلَةٍ قُتلْتُ، وَلَا أَيَّ ميتَةٍ متُّ، ثُمَّ خَرَجَ منْ عنْد الْحَجَّاج فَكَتَبَ إلَى عَبْد الْمَلك بْن مَرْوَانَ يُخْبرُهُ بمَا قَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ، فَلَمَّا قَرَأَ عَبْدُ الْمَلك كتاب أنس استشاط غضباً، وشفق عَجَبًا، وَتَعَاظَمَ ذَلكَ منَ الْحَجَّاج، وَكَانَ كتَابُ أنس إلى عبد الملك: بسْم اللَّه الرَّحْمَن الرَّحيم إلَى عَبْد الْمَلك بْن مَرْوَانَ أَمير الْمُؤْمنينَ منْ أَنَس بْن مَالكٍ، أَمَّا بَعْدُ: فَإنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لي هُجراً، وَأَسْمَعَني نُكْرًا، وَلَمْ أَكُنْ لذَلكَ أَهْلًا، فَخُذْ لي عَلَى يَدَيْه، فَإنّي أَمُتُّ بخدْمَتي رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَصُحْبَتي إيَّاهُ، والسَّلام عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّه وَبَرَكَاتُهُ.

فَبَعَثَ عبد الملك إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر - وَكَانَ مُصَادقًا للْحَجَّاج، فَقَالَ لَهُ: دُونَكَ كتَابَيَّ هذين فخذهما، وَارْكَب الْبَريدَ إلَى الْعرَاق، وَابْدَأْ بأَنَس بْن مَالكٍ صَاحبَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم فارفع كتَابي إلَيْه وَأَبْلغْهُ منّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، قَدْ كَتَبْتُ إلَى الْحَجَّاج الْمَلْعُون كتَابًا، إذَا قَرَأَهُ كَانَ أَطْوَعَ لَكَ منْ أَمَتكَ، وَكَانَ كتَابُ عَبْد الْمَلك إلَى أَنَس بْن مَالكٍ: بسْم اللَّه الرَّحْمَن الرَّحيم! منْ عَبْد الْمَلك بْن مَرْوَانَ إلَى أَنَسُ بْنُ مَالكٍ خَادمُ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أَمَا بَعْدُ، فَقَدْ قَرَأْتُ كتَابَكَ، وَفَهمْتُ مَا ذَكَرْتَ منْ شكَايَتكَ الْحَجَّاجَ، وَمَا سَلَّطْتُهُ عَلَيْكَ، وَلَا أَمَرْتُهُ بالْإسَاءَة إلَيْكَ، فَإنْ عَادَ لمثْلهَا اكْتُبْ إلَيَّ بذَلكَ أُنْزلْ به عُقُوبَتي، وَتَحْسُنْ لَكَ مَعُونَتي، وَالسَّلَامُ.

فَلَمَّا قَرَأَ أنس كتاب أمير المؤمنين، وَأُخْبرَ برسَالَته، قَالَ: جَزَى اللَّهُ أَميرَ الْمُؤْمنينَ عَنّي خَيْرًا، وَعَافَاهُ وَكَفَاهُ، وَكَافَأَهُ بالْجَنَّة، فَهَذَا كَانَ ظَنّي به، وَالرَّجَاءَ منْهُ...

وإن سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعديُّ صَحَابيٌّ مَدَنيٌّ جَليلٌ، تُوُفّيَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَلَهُ منَ الْعُمْر خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وكان ممن ختمه الحجاج في عنقه هُوَ وَأَنَسُ بْنُ مَالكٍ وَجَابرُ بْنُ عَبْد اللَّه في يَده، ليُذلَّهُمْ كَيْلَا يَسْمَعَ النَّاسُ منْ رَأْيهمْ...

وَقَد اسْتَعْمَلَهُ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ عَلَى عمَالَة الْبَحْرَيْن وَشَكَرَاهُ في ذَلكَ، وَقَدْ انْتَقَلَ بَعْدَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فَسَكَنَ الْبَصْرَةَ، وَكَانَ لَهُ بهَا أَرْبَعُ دُورٍ، وَقَدْ نَالَهُ أَذًى منْ جهَة الْحَجَّاج، وَذَلكَ في فتْنَة ابْن الْأَشْعَث، تَوَهَّمَ الْحَجَّاجُ منْهُ أنه له مداخلة في الْأَمْر، وَأَنَّهُ أَفْتَى فيه، فَخَتَمَهُ الْحَجَّاجُ في عنقه، هذا عنق الْحَجَّاج، وَقَدْ شَكَاهُ أَنَسٌ كَمَا قَدَّمْنَا إلَى عَبْد الْمَلك، فَكَتَبَ إلَى الْحَجَّاج يُعَنّفُهُ، فَفَزعَ الْحَجَّاجُ منْ ذَلكَ وَصَالَحَ أَنَسًا.

وَقَدْ وَفَدَ أَنَسٌ عَلَى الْوَليد بْن عَبْد الْمَلك في أَيَّام ولَايَته، قيلَ في سَنَة ثنْتَيْن وَتسْعينَ، وَهُوَ يَبْني جَامعَ دمَشْقَ، قَالَ مَكْحُولٌ: رَأَيْتُ أَنَسًا يَمْشي في مَسْجد دمَشْقَ فَقُمْتُ إلَيْه فَسَأَلْتُهُ عَن الْوُضُوء منَ الْجنَازَة فَقَالَ: لَا وضوء.

وقال الأوزاعي: حدثني إسْمَاعيلُ بْنُ عَبْد اللَّه بْن أَبي الْمُهَاجر قَالَ: قَدمَ أَنَسٌ عَلَى الْوَليد فَقَالَ لَهُ الْوَليدُ: مَاذَا سَمعْتُ منْ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ به السَّاعَةَ؟ فَقَالَ: سَمعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (أَنْتُمْ وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْن).

... وَقَالَ الزُّهْريُّ: دَخَلْتُ عَلَى أَنَس بْن مَالكٍ بدمَشْقَ وَهُوَ يَبْكي فَقُلْتُ: مَا يُبْكيكَ؟ قَالَ: لا أعرف ممَّا كَانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ إلَّا هَذه الصَّلَاةَ، وَقَدْ صَنَعْتُمْ فيهَا مَا صَنَعْتُمْ.

وَفي روَايَةٍ: وَهَذه الصَّلَاةُ قَدْ ضُيّعَتْ - يَعْني مَا كَانَ يَفْعَلُهُ خُلَفَاءُ بَني أُمَيَّةَ منْ تَأْخير الصَّلَاة إلَى آخر وَقْتهَا الْمُوَسَّع - ...

قَالَ [أنس رضي الله عنه]: جَاءَتْ بي أُمّي إلَى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَأَنَا غُلَامٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله خويدمك أُنَيْسٌ فَادْعُ اللَّهَ لَهُ.

فَقَالَ، (اللَّهُمَّ أَكْثرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَأَدْخلْهُ الْجَنَّةَ).

قَالَ: فَقَدْ رَأَيْتُ اثْنَتَيْن، وَأَنَا أَرْجُو الثَّالثَةَ، وَفي روَايَةٍ قَالَ أَنَسٌ: فَوَاللَّه إنَّ مَالي لَكَثيرٌ حَتَّى نَخْلي وَكَرْمي لَيُثْمرُ في السَّنَة مَرَّتَيْن، وَإنَّ وَلَدي وَوَلَدَ وَلَدي لَيَتَعَادُّونَ عَلَى نَحْوٍ الْمائَة، وَفي روَايَةٍ: وإنَّ وَلَدي لصُلْبي مائَةٌ وَستَّةٌ.

وَلهَذَا الْحَديث طُرُقٌ كَثيرَةٌ، وَأَلْفَاظٌ مُنْتَشرَةٌ جدًّا، وَفي رواية قال أنس: وأخبرتني بنتي آمنة أَنَّهُ دُفنَ لصُلْبي إلَى حين مَقْدَم الْحَجَّاج عشْرُونَ وَمائَةٌ.

... وَقَالَ ثَابتٌ لأَنَسٍ: هَلْ مَسَّتْ يَدُكَ كَفّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: فَأَعْطنيهَا أُقَبّلْهَا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مُسْلم بْن إبْرَاهيمَ عَن المثنى بن سعيد الذراع، قَالَ: سَمعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالكٍ يَقُولُ: مَا منْ لَيْلَةٍ إلَّا وَأَنَا أَرَى فيهَا حَبيبي رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يبكي.

... بَعَثَ أَميرٌ منَ الْأُمَرَاء إلى أنْسَ شيئاً من الفيء، فقال: أخمس؟ قال: لا، فلم يقبله»([167]).

3- الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو:

إمام الديار الشامية في الفقه والزهد.

 قال أبو نعيم ؒ: «الْعَلَمُ الْمَنْشُورُ، وَالْحَكَمُ الْمَشْهُورُ الْإمَامُ الْمُبَجَّلُ، وَالْمقْدَامُ الْمُفَضَّلُ عَبْدُ الرَّحْمَن بْنُ عَمْرٍو أَبُو عَمْرٍو الْأَوْزَاعيُّ رَضيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، كَانَ وَاحدَ زَمَانه، وَإمَامَ عَصْره وَأَوَانه، كَانَ ممَّنْ لَا يَخَافُ في الله لَوْمَةَ لَائمٍ، مقْوَالًا بالْحَقّ لَا يَخَافُ سَطْوَةَ الْعَظَائم»([168]).

وقال الإمام ابن كثير ؒ: «علامة الوقت أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الرَّحْمَن بْنُ عَمْرٍو الْأَوْزَاعيُّ فقيه أهل الشام، وإمامهم.

وقد بقي أهل دمشق وَمَا حَوْلَهَا منَ الْبلَاد عَلَى مَذْهَبه نَحْوًا من مائتين وعشرين سنة.

وَقَد اسْتَدْعَى بالْأَوْزَاعيّ فَأُوقفُ بَيْنَ يَدَيْه، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَمْرٍو، مَا تَقُولُ في هذا الذي صنعناه؟ قال: فقلت لَهُ: لَا أَدْري، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ حَدَّثَني يَحْيَى بْنُ سَعيدٍ الْأَنْصَاريُّ، عَنْ مُحَمَّد بْن إبراهيم، عن علقمة، عَنْ عُمَرَ بْن الْخَطَّاب قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:  (إنَّمَا الْأَعْمَالُ بالنّيَّات) فَذَكَرَ الْحَديثَ.

قَالَ الأوزاعي: وانتظرت رأسي أن يَسْقُطُ بَيْنَ رجْلَيَّ، ثُمَّ أُخْرجْتُ، وَبَعَثَ إلَيَّ بمائة دينار.

[وروى القصة مرة أخرى بأوسع، فقال]:

ولما دخل عبد اللَّه بن علي - عم السفاح الذي أجلى بني أمية عن الشام، وأزال اللَّه سبحانه دولتهم على يده - دمشق فطلب الأوزاعي، فتغيب عنه ثلاثة أيَّام، ثمَّ حضر بين يديه.

قال الأوزاعي: دَخَلْتُ عَلَيْه، وَهُوَ عَلَى سَريرٍ، وَفي يَده خيزرانة، والمسودة عن يمينه وشماله، ومعهم السيوف مصلتة - والعمد الحديد - فسلمت عليه فَلَمْ يَرُدَّ، وَنَكَتَ بتلْكَ الْخَيْزُرَانَة الَّتي في يَده ثمَّ قَالَ: يَا أَوْزَاعيُّ، مَا تَرَى فيمَا صَنَعْنَا منْ إزَالَة أَيْدي أُولَئكَ الظَّلَمَة عن العباد والبلاد؟ أجهاداً ورباطاً هُوَ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: أَيُّهَا الْأَميرُ، سَمعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعيدٍ الْأَنْصَاريَّ يَقُولُ: سَمعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إبْرَاهيمَ التَّيْمىَّ يَقُولُ: سَمعْتُ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ يَقُولُ: سَمعْتُ عُمَرَ بْنَ الخطَّاب يَقُولُ: سَمعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إنَّمَا الْأَعْمَالُ بالنّيَّات وَإنَّمَا لكُلّ امْرئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هجْرَتُهُ إلَى اللَّه وَرَسُوله فَهجْرَتُهُ إلَى اللَّه وَرَسُوله، وَمَنْ كَانَتْ هجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصيبُهَا أَو امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْه).

قَالَ: فَنَكَتَ بالْخَيْزُرَانَة أَشَدَّ مما كانت ينكت، وجعل من حوله يقبضون أيديهم على قبضات سيوفهم، ثُمَّ قَالَ: يَا أَوزَاعيُّ مَا تَقُولُ في دمَاء بَني أُمَيَّةَ؟ فَقُلْتُ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: (لَا يَحلُّ دَمُ امْرئٍ مُسْلمٍ إلَّا بإحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بالنَّفْس، وَالثَّيّبُ الزَّاني، وَالتَّاركُ لدينه الْمُفَارقُ للْجَمَاعَة).

فَنَكَتَ بها أَشَدَّ منْ ذَلكَـ ثُمَّ قَالَ: مَا تَقُولُ في أَمْوَالهمْ؟ فَقُلْتُ: إنْ كَانَتْ في أَيْديهمْ حَرَامًا، فَهيَ حَرَامٌ عَلَيْكَ أَيْضًا، وَإنْ كَانَتْ لَهُمْ حَلَالًا، فَلَا تَحلُّ لَكَ إلَّا بطَريقٍ شَرْعيٍّ.

فَنَكَتَ أَشَدَّ ممَّا كَانَ يَنْكُتُ قَبْلَ ذَلكَ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا نُوَلّيكَ الْقَضَاءَ؟ فَقُلْتُ: إنَّ أَسْلَافَكَ لَمْ يَكُونُوا يَشُقُّونَ عَلَيَّ في ذلك، وإني أحب أن يتم ما ابتدؤوني به منَ الْإحْسَان.

فَقَالَ: كَأَنَّكَ تُحبُّ الانْصرَافَ؟ فَقُلْتُ: إنَّ وَرَائي حُرَمًا وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى القيام عليهن، وسترهن، وقلوبهن مشغولة بسببي.

قَالَ: وَانْتَظَرْتُ رَأْسي أَنْ يَسْقُطَ بَيْنَ يَدَيَّ، فأمرني بالانصراف.

فلما خرجت، إذا برسوله منْ وَرَائي، وَإذَا مَعَهُ مائَتَا دينَارٍ، فَقَال: يقول لك الأمير: استنفق هذه.

قال: فتصدقت بها، وإنما أخذتها خوفاً»([169]).

4- أبو بكر بن عياش:

قال ابن الجزري ؒ: «إمام مجوّد صالح، ولد سنة نيف وثلاثين وستمائة، وقدم دمشق وقرأ بها على الشيخ عبد السلام الزواوي، وجلس إلى جانب محراب الصحابة من الجامع الأموي، فختم عليه خلق كثير، توفي سنة ست عشرة وسبعمائة وشيعه خلق كثير»([170]).

وقال الإمام المزي ؒ: «أَبُو بكر بْن عياش هذا كوفي مشهور، وهو يروي عَنْ أجلة الناس، وحديثه فيه كثرة، وقد روى عنه من الكبار جماعة، وحديثه مسندة، ومقطوعه يكثر، وهو من مشهوري مشايخ الكوفة، ومن المختصين بالرواية عن جملة مشايخهم، وهو من قراء أهل الكوفة، وعن عاصم أخذ القراءة وعليه قرأ، وهو في رواياته عن كل من روى عنه لا بأس به، وذلك إني لم أجد لَهُ حديثاً منكراً إذا روى عنه ثقة»([171]).

 وقال الحافظ ابن حجر ؒ: «أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي الحناط المقرئ مولى واصل الأحدب ... وقال ابن المبارك: ما رأيت أحداً أسرع إلى السنة من أبي بكر بن عياش»([172]).

وقال الحافظ أبو نعيم ؒ: «الْقَارئُ الْهَشَّاشُ، الْعَابدُ الْبَشَّاشُ أَبُو بَكْر بْنُ عَيَّاشٍ، كَانَ في الْعُدَاد وَاحدًا، وَفي الْعبَادَة شَاهدًا، وَقيلَ: إنَّ التَّصَوُّفَ ارْتقَاءٌ لاقْترَابٍ وَانْتصَابٌ في ارْتقَابٍ»([173]).

وقال الحافظ ابن كثير ؒ: «وَقَدْ سَأَلَ الرَّشيدُ أَبَا بَكْر بْنَ عَيَّاشٍ: مَنْ خَيْرُ الْخُلَفَاء؟ نَحْنُ أو بَنُو أُمَيَّةَ؟ فَقَالَ: هُمْ كَانُوا أَنْفَعَ للنَّاس، وأنتم أقوم للصلاة، فَأَعْطَاهُ ستَّةَ آلَافٍ... »([174])

5- جابر بن عبد الله رضي الله عنه:

قال الحافظ الذهبي ؒ: «جابر بن عبد اللَّه بن عمرو بن حرام السلمي الأنصاري، وهو آخر من مات من أهل العقبة، وعاش أربعاً وتسعين سنة، وكان كثير العلم، من أهل بيعة الرضوان»([175]).

وقال الحافظ ابن حبان ؒ: «شهد العقبتين مع أبيه، ثم شهد بدراً، ومن المشاهد تسع عشرة غزاة، وقد استغفر له المصطفى صلى الله عليه وسلم ليلة البعير عمه خمساً وعشرين مرة، كنيته أبو عبد اللَّه، وأبوه من شهداء أحد، مات جابر بالمدينة بعد أن عمي سنة ثمان وسبعين، وكان يخضب بالحمرة، وكان له يوم مات أربع وتسعون سنة»([176]).

وقال الحافظ ابن حجر ؒ: «وقال علي بن المدينيّ: مات جابر بعد أن عمّر، فأوصى ألا يصلّي عليه الحجاج»([177]).

6- جارية بن قدامة:

قال الصفدي ؒ: «كَانَ صَاحب عَليّ بن أبي طَالب في حروبه، روى عَن الْأَحْنَف بن قيس ... وَتُوفّي في حُدُود الْخمسين للْهجْرَة وَله صُحْبَة»([178]).

وقال الحافظ المزي ؒ: «شريف لحق النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه، ثم صحب أمير المؤمنين علياً ... وكان جارية شجاعاً مقداماً فاتكاً، ... كان مع علي بن أبي طالب بعثه إلى البصرة، ... فقال له معاوية: من أنت؟ قال جارية بن قدامة، قال: وكان قليلاً، قال: وما عسيت أن تكون، هل أنت إلا نحلة؟ قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فقد شبهتني بها حامية اللسعة، حلوة البساق، واللَّه ما معاوية إلا كلبة تعاوي الكلاب، وما أمية إلا تصغير أمة، قال معاوية: لا تفعل، قال: إنك فعلت»([179]).

قال الحافظ ابن حجر ؒ: «ولجارية هذا قصة مع معاوية يقول فيها: فقال له: سل حاجتك يا أبا قندس، قال: تقرّ الناس في بيوتهم، فلا توفدهم إليك، فإنما يوفدون إليك الأغنياء، ويذرون الفقراء»([180]).

7- الحارث بن مالك بن قيس ابن البرصاء:

من أهل الحجاز، أقام بمكة، وقيل: بل نزل الكوفة،  له صحبة ورواية عن النبى صلى الله عليه وسلم، ذكره مسلم فى الطبقة الأولى من الصحابة المكيين في كتاب الرواة له، وقال ابن الأثير: وهو من أهل الحجاز، أقام بمكة، وقيل: بل نزل الكوفة([181]).

قال الحافظ ابن حجر ؒ: «كان ابن البرصاء الليثيّ من جلساء مروان بن الحكم، وكان يسمر معه، فذكروا الفيء عند مروان، فقالوا: الفيء مال اللَّه، وقد وضعه عمر في موضعه، فقال مروان:

إن الفيء مال أمير المؤمنين معاوية، يقسمه فيمن شاء، فخرج ابن البرصاء فلقي سعد بن أبي وقاص فأخبره.

قال سعيد: فلقيني سعد، وأنا أريد المسجد، فقال: الحقني، فتبعته حتى دخلنا على مروان، فأغلظ له.... فذكر القصّة.

قال: فقال مروان: من ترون؟ قال: هذا لهذا الشّيخ؟ قالوا: ابن البرصاء، فأتى به فأمر بتجريده ليضرب، فدخل البواب يستأذنه لحكيم بن حزام، فقال: ردّوا عليه ثيابه، وأخرجوه لا يهج علينا هذا الشّيخ الآخر»([182]).

8- الحكم بن عمرو بن مجدع الغفاري:

قال الحافظ ابن كثير ؒ: «صَحَابيٌّ جَليلٌ ... اسْتَنَابَهُ زيَادُ بْنُ أَبيه عَلَى غَزْو جَبَل الأشل، فغنم شيئاً كثيراً، فجاء كتاب زياد إليه على لسان معاوية أن يصطفي من الغنيمة لمعاوية ما فيها من الذهب والفضة لبيت ماله، فرد عليه: إن كتاب اللَّه قبل كتاب أمير المؤمنين، أو لم يسمع لقوله u: (لا طاعة لمخلوق في معصية اللَّه)؟ وقسم في الناس غنائمهم، فَيُقَالُ: إنَّهُ حُبسَ إلَى أَنَّ مَاتَ بمَرْوَ في هَذه السَّنَة، وَقيلَ في سَنَة إحْدَى وَخَمْسينَ رَحمَهُ اللَّهُ»([183]).

وقال الحافظ ابن حبان ؒ: «انتقل إلى البصرة ثم خرج إلى خراسان غازياً، له قصة طويلة ليس هذا موضعها، إلا أن فلاناً أمر به، فقيد حتى مات سنة خمسين، وقد قيل سنة خمس وأربعين، وقبره بجنب قبر بريدة الأسلمى بالحصين، ودفن بقبره بمرو»([184]).

وقال ابن سعد ؒ: «فَكَتَبَ إلَيْه زيَادٌ: أَمَّا بَعْدُ، فَإنَّ أَميرَ الْمُؤْمنينَ كَتَبَ إلَيَّ أَنْ أَصْطَفيَ لَهُ الصَّفْرَاءَ وَالْبَيْضَاءَ، فَلَا تَقْسمْ بَيْنَ النَّاس ذَهَبًا وَلَا فضَّةً، فَكَتَبَ إلَيْه: سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإنَّكَ كَتَبْتَ إلَيَّ تَذْكُرُ كتَابَ أَمير الْمُؤْمنينَ، وَإنّي وَجَدْتُ كتَابَ اللَّه قَبْلَ كتَاب أَمير الْمُؤْمنينَ، وَإنَّهُ وَاللَّه، لَوْ كَانَت السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ رَتْقًا عَلَى عَبْدٍ، فَاتَّقَى اللَّهَ لَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ منْهُمَا مَخْرَجًا، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ للنَّاس: «اعْدُوا عَلَى فَيْئكُمْ، فَاقْسمُوهُ»([185]).

وقال الحافظ ابن حجر ؒ: «وروي عن أوس بن عبد اللَّه بن بريدة، عن أبيه- أنّ معاوية عتب عليه في شيء، فأرسل عاملاً غيره فقيده، فمات في القيد سنة خمس وأربعين.

وقال المدائنيّ: مات سنة خمسين، وقال العسكريّ: سنة إحدى وخمسين.

قلت: والصّحيح أنه لما ورد عليه كتاب زياد بالعتاب دعا على نفسه فمات»([186]).

9- أم الدرداء:

صحابية جليلة، زوجة الصحابي الجليل أبي الدرداء ب.

«خيرة بنت أبي حَدْرَد، أم الدَّرداء الْكُبْرَى الصحابية...توفيت أمّ الدَّرْدَاء الْكُبْرَى في حُدُود الْمائَة»([187]).

قال ابن حبيب ؒ: «خطبها معاوية، فقالت: «ما كنت لأختار على أبي الدرداء، وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إذا اجتمعت المرأة وزوجاها في الجنة، كانت لآخرهما»([188]).

قال الحافظ ابن كثير ؒ: «كَانَ عَبْدُ الْمَلك يَجْلسُ في حَلْقَة أُمّ الدَّرْدَاء في مُؤَخَّر الْمَسْجد بدمَشْقَ، فَقَالَتْ لَهُ: بَلَغَني أَنَّكَ شربت الطلا بعد العبادة والنسك، فقال: أي واللَّه، والدما أَيْضًا قَدْ شَربْتُهَا.

ثُمَّ جَاءَهُ غُلَامٌ كَانَ قَدْ بَعَثَهُ في حَاجَةٍ، فَقَالَ: مَا حَبَسَكَ لَعَنَكَ اللَّهُ؟ فَقَالَتْ أُمُّ الدَّرْدَاء: لَا تَفْعَلْ يَا أَميرَ الْمُؤْمنينَ، فَإنّي سَمعْتُ أَبَا الدرداء يَقُولُ: سَمعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَعَّانٌ)»([189]).

10- أبو ذر الغفاري:

قال الإمام أبو نعيم ؒ: أَبُو ذَرٍّ الْغفَاريُّ: « وَمنْهُمُ الْعَابدُ الزَّهيدُ، الْقَانتُ الْوَحيدُ، رَابعُ الْإسْلَام، وَرَافضُ الْأَزْلَام، قَبْلَ نُزُول الشَّرْع وَالْأَحْكَام، تَعَبَّدَ قَبْلَ الدَّعْوَة بالشُّهُور وَالْأَعْوَام، وَأَوَّلُ مَنْ حَيَّا الرَّسُولَ بتَحيَّة الْإسْلَام، لَمْ يَكُنْ تَأْخُذُهُ في الْحَقّ لَائمَةُ اللُّوَّام، وَلَا تُفْزعُهُ سَطْوَةُ الْوُلَاة وَالْحُكَّام، أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ في علْم الْبَقَاء وَالْفَنَاء، وَثَبَتَ عَلَى الْمَشَقَّة وَالْعَنَاء، وَحَفظَ الْعُهُوَدَ وَالْوَصَايَا، وَصَبَرَ عَلَى الْمحَن وَالرَّزَايَا، وَاعْتَزَلَ مُخَالَطَةَ الْبَرَايَا، إلَى أَنْ حَلَّ بسَاحَة الْمَنَايَا»([190]).

 قال الإمام الصفدي ؒ: «جُنْدُب بن جُنَادَة، وَيُقَال جُنْدُب بن السَّكن بن كَعْب بن سُفْيَان بن عبيد بن حرَام أَبُو ذَر الْغفَاريّ... وَهُوَ من أَعْلَام الصَّحَابَة، وزهّادهم الْمُهَاجرين، وَهُوَ أول من حيَّا النَّبي صلى الله عليه وسلم بتحيّة الْإسْلَام، وَأسلم قَديمًا، يُقَال كَانَ خَامسًا في الْإسْلَام، ثمَّ انْصَرف إلَى قومه... قدم الْمَدينَة بعد الخَنْدَق، ثمَّ سكن الرَّبذة إلَى أَن مَاتَ بهَا سنة اثْنَتَيْن وَثَلَاثينَ في خلَافَة عُثْمَان... »([191]).

وقال الحافظ ابن حجر ؒ: «الزاهد المشهور الصادق اللهجة ... وكان من السابقين إلى الإسلام ...إن إسلامه كان بعد أربعة... وكان يوازي ابن مسعود في العلم...

قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم...: «يرحم اللَّه أبا ذرّ، يعيش وحده، ويموت وحده، ويحشر وحده» ... وكانت وفاته بالربذة سنة إحدى وثلاثين، وقيل في التي بعدها»([192]).

وقال الإمام ابن سعد ؒ: «عَنْ أَبي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا ذَرٍّ، كَيْفَ أَنْتَ إذَا كَانَتْ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يَسْتَأْثرُونَ بالْفَيء؟» قَالَ: قُلْتُ: إذًا، وَالَّذي بَعَثَكَ بالْحَقّ أَضْربُ بسَيْفي حَتَّى أَلْحَقَ به، فَقَالَ: «أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ منْ ذَلكَ، اصْبرْ حَتَّى تَلْقَاني»...

عَنْ زَيْد بْن وَهْبٍ قَالَ: مَرَرْتُ بالرَّبَذَة، فَإذَا أَنَا بأَبي ذَرٍّ قَالَ: فَقُلْتُ: مَا أَنْزَلَكَ مَنْزلَكَ هَذَا؟، قَالَ: كُنْتُ بالشَّام، فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاويَةُ في هَذه الْآيَة: ﴿وَالَّذينَ يَكْنزُونَ الذَّهَبَ وَالْفضَّةَ وَلَا يُنْفقُونَهَا في سَبيل اللَّه﴾ [التوبة: 34]، وَقَالَ مُعَاويَةُ: نَزَلَتْ في أَهْل الْكتَاب، قَالَ: فَقُلْتُ: نَزَلَتْ فينَا وَفيهمْ، قَالَ: فَكَانَ بَيْني وَبَيْنَهُ في ذَلكَ كَلَامٌ، فَكَتَبَ يَشْكُوني إلَى عُثْمَانَ، قَالَ: فَكَتَبَ إلَيَّ عُثْمَانُ أَنْ أَقْدم الْمَدينَةَ، فَقَدمْتُ الْمَدينَةَ، وَكَثُرَ النَّاسُ عَلَيَّ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْني قَبْلَ ذَلكَ قَالَ: فَذُكرَ ذَلكَ لعُثْمَانَ، فَقَالَ لي: إنْ شئْتَ تَنَحَّيْتَ، فَكُنْتَ قَريبًا، فَذَاكَ أَنْزَلَني هَذَا الْمَنْزلَ، وَلَوْ أُمّرَ عَلَيَّ حَبَشيٌّ لَسَمعْتُ وَلَأَطَعْتُ...

عَنْ مُحَمَّد بْن سيرينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ لأَبي ذَرٍّ: «إذَا بَلَغَ النَّبَأُ سلَعًا فَاخْرُجْ منْهَا»، وَنَحَا بيَده نَحْوَ الشَّام «وَلَا أَرَى أُمَرَاءَكَ يَدَعُونَكَ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه أَفَلَا أُقَاتلُ مَنْ يَحُولُ بَيْني وَبَيْنَ أَمْركَ؟، قَالَ: «لَا»، قَالَ: فَمَا تَأْمُرُني؟، قَالَ: «اسْمَعْ وَأَطعْ، وَلَوْ لعَبْدٍ حَبَشيٍّ»...

عَنْ شَيْخَيْن منْ بَني ثَعْلَبَةَ رَجُلٌ وَامْرَأَتُهُ قَالَا: نَزَلْنَا الرَّبَذَةَ، فَمَرَّ بنَا شَيْخٌ أَشْعَثُ أَبْيَضُ الرَّأْس وَاللّحْيَة، فَقَالُوا: هَذَا منْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَّاهُ أَنْ نَغْسلَ رَأْسَهُ، فَأَذنَ لَنَا، وَاسْتَأْنَسَ بنَا، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلكَ، إذْ أَتَاهُ نَفَرٌ منْ أَهْل الْعرَاق، حَسبْتُهُ قَالَ: منْ أَهْل الْكُوفَة، فَقَالُوا: يَا أَبَا ذَرٍّ، فَعَلَ بكَ هَذَا الرَّجُلُ وَفَعَلَ، فَهَلْ أَنْتَ نَاصبٌ لَنَا رَايَةً، فَلْنُكْملْ برجَالٍ مَا شئْتَ؟ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْإسْلَام، لَا تَعْرضُوا عَلَيَّ ذَاكُمْ، وَلَا تُذلُّوا السُّلْطَانَ، فَإنَّهُ مَنْ أَذَلَّ السُّلْطَانَ فَلَا تَوْبَةَ لَهُ، وَاللَّه لَوْ أَنَّ عُثْمَانَ صَلَبَني عَلَى أَطْوَل خَشَبَةٍ، أَوْ أَطْوَل جَبَلٍ لَسَمعْتُ وَأَطَعْتُ، وَصَبَرْتُ وَاحْتَسَبْتُ، وَرَأَيْتُ أَنَّ ذَاكَ خَيْرٌ لي، وَلَوْ سَيَّرَني مَا بَيْنَ الْأُفُق إلَى الْأُفُق، أَوْ قَالَ: مَا بَيْنَ الْمَشْرق وَالْمَغْرب، لَسَمعْتُ وَأَطَعْتُ، وَصَبَرْتُ وَاحْتَسَبْتُ، وَرُئيتُ أَنَّ ذَاكَ خَيْرٌ لي، وَلَوْ رَدَّني إلَى مَنْزلي لَسَمعْتُ وَأَطَعْتُ، وَصَبَرْتُ وَاحْتَسَبْتُ وَرُئيتُ أَنَّ ذَاكَ خَيْرٌ لي...

عَنْ عَبْد اللَّه بْن سيدَانَ السُّلَميّ قَالَ: تَنَاجَى أَبُو ذَرٍّ وَعُثْمَانُ حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، ثُمَّ انْصَرَفَ أَبُو ذَرٍّ مُتَبَسّمًا، فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: مَا لَكَ وَلأَمير الْمُؤْمنينَ؟، قَالَ: سَامعٌ مُطيعٌ، وَلَوْ أَمَرَني أَنْ آتيَ صَنْعَاءَ أَوْ عَدْنَ، ثُمَّ اسْتَطَعْتُ أَنْ أَفْعَلَ لَفَعَلْتُ، وَأَمَرَهُ عُثْمَانُ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الرَّبَذَة...

عَنْ أَبي ذَرٍّ قَالَ: أَوْصَاني خَليلي بسَبْعٍ: أَمَرَني بحُبّ الْمَسَاكين، وَالدُّنُوّ منْهُمْ، وَأَمَرَني أَنْ أَنْظُرَ إلَى مَنْ هُوَ دُوني، وَلَا أَنْظُرَ إلَى مَنْ هُوَ فَوْقي، وَأَمَرَني أَنْ لَا أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا، وَأَمَرَني أَنْ أَصلَ الرَّحمَ وَإنْ أَدْبَرَتْ، وَأَمَرَني أَنْ أَقُولَ الْحَقَّ، وَإنْ كَانَ مُرَّا، وَأَمَرَني أَنْ لَا أَخَافَ في اللَّه لَوْمَةَ لَائمٍ، وَأَمَرَني أَنْ أُكْثرَ مَنْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا باللَّه، فَإنَّهُنَّ منْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْش»([193]).

11- الربيع بن زياد الحارثي:

قال الحافظ ابن كثير ؒ: «الرَّبيعُ بْنُ زيَادٍ الْحَارثيُّ، اخْتُلفَ في صُحْبَته، ...وَكَانَ قَدْ ذُكر حجر بن عدي فأسف عَلَيْه، وَقَالَ: وَاللَّه لَوْ ثَارَت الْعَرَبُ لَهُ لَمَا قُتلَ صَبْرًا، وَلَكنْ أَقَرَّت الْعَرَبُ فَذَلَّتْ»([194]).

وقال الحافظ ابن حجر ؒ: «وذكر ابن حبيب أنّ زياداً كتب إلى الربيع بن زياد أنّ أمير المؤمنين كتب إليّ أن آمرك أن تحرز البيضاء والصّفراء، وتقسم ما سوى ذلك، فكتب إليه: إني وجدت كتاب اللَّه قبل كتاب أمير المؤمنين، وبادر فقسّم الغنائم بين أهلها، وعزل الخمس، ثم دعا اللَّه أن يميته، فما جمع حتى مات»([195]).

12- زياد بن جارية:

رَوَى الْحَافظُ ابْنُ عَسَاكرَ أَنَّهُ دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَة إلَى مَسْجد دمَشْقَ، وَقَدْ أُخّرَت الصَّلَاةُ [الحمعة إلى العصر]، فَقَالَ: وَاللَّه مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبيًّا بَعْدَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَمَرَكُمْ بهَذه الصَّلَاة هَذَا الْوَقْتَ [المتأخر]، قَالَ: فَأُخذَ فَأُدْخلَ الْخَضْرَاءَ فَقُطعَ رَأْسُهُ، وَذَلكَ في زَمَن الْوَليد بْن عَبْد الْمَلك، وَكَانَ قتله في حُدُود التسعين للْهجْرَة ([196]).

13- زيد بن صوحان:

قال الإمام ابن قتيبة ؒ: «...كان من خيار الناس... شهد يوم جلولاء، فقطعت يده، وشهد مع عليّ يوم الجمل»([197]).

قال الإمام ابن سعد ؒ: «قَامَ زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ إلَى عُثْمَانَ بْن عَفَّانَ فَقَالَ: يَا أَميرَ الْمُؤْمنينَ ملْتَ فَمَالَتْ أُمَّتُكَ، اعْتَدلْ تَعْتَدلْ أُمَّتُكَ ثَلَاثَ مرَارٍ، قَالَ: أَسَامعٌ مُطيعٌ أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: الْحَقْ بالشَّام، قَالَ: فَخَرَجَ منْ فَوْره ذَلكَ فَطَلَّقَ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ لَحقَ بحَيْثُ أَمَرَهُ. وَكَانُوا يَرَوْنَ الطَّاعَةَ عَلَيْهمْ حَقًّا...

ارْتَثَّ زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ يَوْمَ الْجَمَل، قَالَ: فَدَخَلَ عَلَيْه نَاسٌ منْ أَصْحَابه، فَقَالُوا: أَبْشرْ أَبَا سَلْمَانَ بالْجَنَّة، فَقَالَ: «تَقُولُونَ قَادرينَ أَو النَّارُ، فَلَا تَدْرُونَ إنَّا غَزَوْنَا الْقَوْمَ في بلَادهمْ، وَقَتَلْنَا أَميرَهُمْ، فَلَيْتَنَا إذْ ظُلمْنَا صَبَرْنَا...

قَالَ: تَقُولُونَ قَادرينَ أَتَيْنَاهُمْ في ديَارهمْ، وَقَتَلْنَا أَميرَهُمْ، وَعُثْمَانُ عَلَى الطَّريق، فَيَا لَيْتَنَا إذ ابْتُلينَا صَبَرْنَا، ثُمَّ قَالَ: شُدُّوا عَلَيَّ إزَاري، فَإنّي مُخَاصمٌ، وَأَفْضُوا بخَدّي إلَى الْأَرْض، وَأَسْرعُوا الانْكفَاتَ عَنّي»([198]).

14- سعنة بن عريض:

قال الحافظ ابن حجر ؒ: «قدم معاوية حاجّاً، فدخل المسجد، فرأى شيخاً له ضفيرتان، كان أحسن الشيوخ سمتاً، وأنظفهم ثوباً، فسأل فقيل له: إنه ابن عريض، فأرسل إليه، فجاء فقال: ما فعلت أرضك تيماء؟ قال: باقية، قال: بعنيها، قال: نعم، ولولا الحاجة ما بعتها... ودار بينهما كلام فيه ذكر عليّ، فغضّ ابن عريض من معاوية، فقال معاوية: ما أراه إلا قد خرف، فأقيموه، فقال: ما خرفت، ولكن أنشدك اللَّه يا معاوية، أما تذكر يا معاوية لما كنّا جلوساً عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجاء عليّ، فاستقبله النّبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «قاتل اللَّه من يقاتلك، وعادى من يعاديك»، فقطع عليه معاوية حديثه، وأخذ معه في حديث آخر»([199]).

15- أبو سعيد الخدري رضي الله عنه:

قال الإمام ابن قتيبة ؒ: «سعد بن مالك، منسوب إلى «الخدرة»، وهم من اليمن، وأخوه لأمه: قتادة بن النعمان... ومات «أبو سعيد» سنة أربع وسبعين»([200]).

وقال الإمام الحافظ ابن كثير ؒ: «وَقَالَ أَبُو سَعيدٍ الخدري: غلبني الحسين على الخروج، وقلت لَهُ: اتَّق اللَّهَ في نَفْسكَ وَالْزَمْ بَيْتَكَ، وَلَا تَخْرُجْ عَلَى إمَامكَ»([201]).

وقال الإمام الحافظ الذهبي ؒ لما حاول الحسين القيام على يزيد: «فَأَقَامَ حُسَيْنٌ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْه مُتَرَدّدُ العَزْم، فَجَاءهُ أَبُو سَعيْدٍ الخُدْريُّ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْد الله، إنّيْ لَكَ نَاصحٌ وَمُشْفقٌ، وَقَدْ بَلَغَني أَنَّهُ كَاتَبَكَ قَوْمٌ منْ شيْعتكَ، فَلاَ تَخْرُجْ إلَيْهم، فَإنّي سَمعْتُ أَبَاكَ يَقُوْلُ بالكُوْفَة: وَالله لَقَدْ مَللْتُهُم وَمَلُّوني، وَأَبْغَضْتُهُم وَأَبْغَضُوني، وَمَا بَلَوْتُ منْهُم وَفَاءً، وَلاَ لَهُم ثَبَاتٌ وَلاَ عَزْمٌ وَلاَ صَبرٌ عَلَى السَّيْف»([202]).

وقال الإمام خليفة بن خياط ؒ: «دخل أَبُو سعيد الْخُدْريّ يَوْم الْحرَّة غاراً، فَدخل عَلَيْه رجل ثمَّ خرج، فَقَالَ لرجل من أهل الشَّام: أدلك عَلَى رجل تقتله؟ فَلَمَّا انْتهى الشَّامي إلَى بَاب الْغَار، وَقَالَ لأبي سعيد، وَفي عَنق أَبي سعيد السَّيْف: اخْرُج إلَيّ، قَالَ: لَا، وَإن تدخل عَليّ أَقْتلك، فَدخل الشَّامي، فَوضع أَبُو سعيد السَّيْف، وَقَالَ: بوء بإثمي وإثمك، وَكن من أَصْحَاب النَّار، وَذَلكَ جَزَاء الظَّالمين، فَقَالَ أَبُو سعيد الْخُدْريّ: أَنْت؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فَاسْتَغْفر لي، قَالَ: غفر الله لَك»([203]).

وقال الإمام الصفدي ؒ: «هُوَ [أبو سعيد الخدري] الَّذي شهد لأبي مُوسَى الْأَشْعَريّ عنْد عمر في حَديث الاستيذان، وَهُوَ الَّذي أنكر عَلَى مَرْوَان بن الحكم في تَقْديمه خطْبَة الْعيد عَلَى الصَّلَاة»([204]).

وقال الإمام الحافظ ابن حجر ؒ: «عن أبي سعيد- رفعه: «لا يمنعن أحدكم مخافة النّاس أنّ يتكلّم بالحقّ إذا رآه، أو علمه»، قال أبو سعيد: فحملني ذلك على أن ركبت إلى معاوية، فملأت أذنيه ثم رجعت»([205]).

وقال الإمام الحافظ ابن كثير ؒ: «رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاق: عَن الثَّوريّ، عَنْ قَيْس بْن مُسْلمٍ، عَنْ طَارق بْن شهَابٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدَّمَ الْخُطْبَةَ عَلَى الصَّلَاة يَوْمَ الْعيد مَرْوَانُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: خَالَفْتَ السُّنَّةَ، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: إنَّهُ قَدْ تُركَ مَا هُنَالكَ، فَقَالَ أَبُو سَعيدٍ: أمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْه، سَمعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ رَأَى منْكُمْ مُنْكَرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطيع فبلسانه، فإن لم يستطيع فَبقَلْبه، وَذَلكَ أَضْعَفُ الْإيمَان)»([206]).

16- سعيد بن المسيب ؒ:

قال الإمام ابن حبان ؒ: سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي القرشي، أبو محمد، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر، من سادات التابعين فقهاً وديناً وورعاً وعلماً وعبادة وفضلاً، وأفقه أهل الحجاز، ولم يبايع للوليد وسليمان في عهد عبد الملك، فكتب هشام بن إسماعيل إلى عبد الملك، فضربه ثلاثين سوطاً، مات سنة خمس ومائة([207]).

وقال الإمام ابن كثير ؒ: «لَمَّا انْتَهَت الْبَيْعَةُ إلَى الْمَدينَة، امْتَنَعَ سَعيدُ بْنُ الْمُسَيّب أَنْ يُبَايعَ في حَيَاة عَبْد الْمَلك لأَحَدٍ، فَأَمَرَ به هشَامَ بن إسماعيل نائب المدينة، فضربه ستّينَ سَوْطًا... ثُمَّ كَتَبَ هشَامُ بْنُ إسْمَاعيلَ الْمَخْزُوميُّ إلَى عَبْد الْمَلك يُعْلمُهُ بمُخَالَفَة سَعيدٍ في ذَلكَ، فَكَتَبَ إلَيْه يُعَنّفُهُ في ذَلكَ، وَيَأْمُرُهُ بإخْرَاجه، وَيَقُولُ لَهُ: إنَّ سَعيدًا كَانَ أَحَقَّ منْكَ بصلَة الرَّحم، ممَّا فَعَلْتَ به، وَإنَّا لنَعْلَمُ أَنَّ سَعيدًا لَيْسَ عنْدَهُ شقَاقٌ وَلَا خلَافٌ...

وَيُحْكَى أَنَّ سَعيدَ بْنَ الْمُسَيّب أَنْكَرَ إدْخَالَ حُجْرَة عَائشَةَ في الْمَسْجد - كَأَنَّهُ خَشيَ أَنْ يُتَّخَذَ الْقَبْرُ مَسْجدًا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ...

وَحَجَّ بالنَّاس في هَذه السَّنَة أَميرُ الْمُؤْمنينَ الْوَليدُ بْنُ عَبْد الْمَلك، فلمَّا قَرُبَ منَ الْمَدينَة أَمَرَ عُمَرُ بْنُ عبد العزيز أَشْرَافَ الْمَدينَة فَتَلَقَّوْهُ، فَرَحَّبَ بهمْ، وَأَحْسَنَ إلَيْهمْ، وَدَخَلَ الْمَدينَةَ النَّبَويَّةَ، فَأُخْليَ لَهُ الْمَسْجدُ النَّبَويُّ، فَلَمْ يَبْقَ به أَحَدٌ سوَى سَعيدُ بْنُ الْمُسَيّب، لَمْ يَتَجَاسَرْ أَحَدٌ أَنْ يُخْرجَهُ، وَإنَّمَا عَلَيْه ثيَابٌ لَا تُسَاوي خَمْسَةَ دَرَاهمَ، فَقَالُوا لَهُ: تَنَحَّ عَن الْمَسْجد أَيُّهَا الشَّيْخُ، فَإنَّ أَميرَ الْمُؤْمنينَ قَادمٌ، فَقَالَ: وَاللَّه لَا أَخْرُجُ منْهُ، فَدَخَلَ الْوَليدُ الْمَسْجدَ، فَجَعَلَ يَدُورُ فيه يصلي ههنا وههنا، وَيَدْعُو اللَّهَ U، قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْد الْعَزيز: وَجَعَلْتُ أَعْدلُ به عَنْ مَوْضع سَعيدٍ، خَشْيَةَ أَنْ يَرَاهُ، فَحَانَتْ منْهُ الْتفَاتَةٌ فقال: من هذا هو سَعيدُ بْنُ الْمُسَيّب؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا أَميرَ المؤمنين، ولو علم بأنك قادم لقام إليك وسلم عليك.

فقال: قد علمت بغضه لنا، فقلت: يا أمير إنه وإنه، وشرعت أثني عليه، وشرع الْوَليدُ يُثْني عَلَيْه بالْعلْم وَالدّين، فَقُلْتُ: يَا أَميرَ الْمُؤْمنينَ، إنَّهُ ضَعيفُ الْبَصَر - وَإنَّمَا قُلْتُ ذَلكَ لأَعْتَذرَ لَهُ - فَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بالسَّعْي إلَيْه، فَجَاءَ فَوَقَفَ عَلَيْه، فَسَلَّمَ عَلَيْه، فَلَمْ يَقُمْ لَهُ سَعيدٌ، ثمَّ قَالَ الْوَليدُ: كَيْفَ الشَّيْخُ؟ فَقَالَ: بخَيْرٍ وَالْحَمْدُ للَّه، كَيْفَ أَميرُ الْمُؤْمنينَ؟ فَقَالَ الْوَليدُ: بخَيْرٍ وَالْحَمْدُ للَّه وَحْدَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ يَقُولُ لعُمَرَ بْن عَبْد العزيز: هذا فقيه النَّاس.

فَقَالَ: أَجَلْ يَا أَميرَ الْمُؤْمنينَ...

وقال سعيد: لا تملؤا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بالإنكار من قلوبكم، لكيلا تحبط أعمالكم الصالحة...

لما جاءت بيعة الوليد إلى المدينة في أيَّام عبد الملك، ضربه نائبه على المدينة هشام بن إسماعيل، وأطافه المدينة، وعرضوه على السيف، فمضى ولم يبايع، فلما رجفوا به، رأته امرأة فقالت: ما هذا الخزي يا سعيد؟ فقال: من الخزي فررنا إلى ما ترين، أي لو أحببناهم وقعنا في خزي الدنيا والآخرة.

وكان يجعل على ظهره إهاب الشاة، وكان له مال يتجر فيه ويقول: اللَّهم إنَّك تعلم أني لم أمسكه بخلاً، ولا حرصاً عليه، ولا محبة للدنيا، ونيل شهواتها، وإنما أريد أن أصون به وجهي عن بني مروان حتى ألقى الله، فيحكم فيَّ وفيهم، وأصل منه رحمي، وأؤدي منه الحقوق التي فيه، وأعود منه على الأرملة والفقير والمسكين واليتيم والجار»([208]).

وقال الإمام أبو نعيم ؒ: «وَسَمعْتُ شَيْخَنَا يَزيدُ في حَديث سَعيدٍ بإسْنَادٍ لَا أَحْفَظُهُ أَنَّ سَعيدًا لَمَّا جُرّدَ ليُضْرَبَ، قَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ لَمَّا جُرّدَ ليُضْرَبَ: إنَّ هَذَا لَمَقَامُ الْخزْي، فَقَالَ لَهَا سَعيدٌ: «منْ مَقَام الْخزْي فَرَرْنَا».

ولما َحَجَّ بالنَّاس أَميرُ الْمُؤْمنينَ الْوَليدُ بْنُ عَبْد الْمَلك، فلمَّا قَرُبَ منَ الْمَدينَة أَمَرَ عُمَرُ بْنُ عبد العزيز أَشْرَافَ الْمَدينَة فَتَلَقَّوْهُ، فَرَحَّبَ بهمْ، وَأَحْسَنَ إلَيْهمْ، وَدَخَلَ الْمَدينَةَ النَّبَويَّةَ، فَأُخْليَ لَهُ الْمَسْجدُ النَّبَويُّ، فَلَمْ يَبْقَ به أَحَدٌ سوَى سَعيدُ بْنُ الْمُسَيّب لَمْ يَتَجَاسَرْ أَحَدٌ أَنْ يُخْرجَهُ، وَإنَّمَا عَلَيْه ثيَابٌ لَا تُسَاوي خَمْسَةَ دَرَاهمَ، فَقَالُوا لَهُ: تَنَحَّ عَن الْمَسْجد أَيُّهَا الشَّيْخُ، فَإنَّ أَميرَ الْمُؤْمنينَ قَادمٌ، فَقَالَ: وَاللَّه لَا أَخْرُجُ منْهُ، فَدَخَلَ الْوَليدُ الْمَسْجدَ فَجَعَلَ يَدُورُ فيه يصلي ههنا وههنا، وَيَدْعُو اللَّهَ U، قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْد الْعَزيز: وَجَعَلْتُ أَعْدلُ به عَنْ مَوْضع سَعيدٍ خَشْيَةَ أَنْ يَرَاهُ، فَحَانَتْ منْهُ الْتفَاتَةٌ، فقال: من هذا هو سَعيدُ بْنُ الْمُسَيّب؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا أَميرَ المؤمنين، ولو علم بأنك قادم لقام إليك، وسلم عليك.

فقال: قد علمت بغضه لنا، فقلت: يا أمير، إنه وإنه، وشرعت أثني عليه، وشرع الْوَليدُ يُثْني عَلَيْه بالْعلْم وَالدّين، فَقُلْتُ: يَا أَميرَ الْمُؤْمنينَ إنَّهُ ضَعيفُ الْبَصَر - وَإنَّمَا قُلْتُ ذَلكَ لأَعْتَذرَ لَهُ - فَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بالسَّعْي إلَيْه، فَجَاءَ فَوَقَفَ عَلَيْه، فَسَلَّمَ عَلَيْه، فَلَمْ يَقُمْ لَهُ سَعيدٌ، ثمَّ قَالَ الْوَليدُ: كَيْفَ الشَّيْخُ؟ فَقَالَ: بخَيْرٍ وَالْحَمْدُ للَّه، كَيْفَ أَميرُ الْمُؤْمنينَ؟ فَقَالَ الْوَليدُ: بخَيْرٍ وَالْحَمْدُ للَّه وَحْدَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ يَقُولُ لعُمَرَ بْن عَبْد العزيز: هذا فقيه النَّاس.

فَقَالَ: أَجَلْ يَا أَميرَ الْمُؤْمنينَ.

ودُعيَ سَعيدُ بْنُ الْمُسَيّب للْبَيْعَة للْوَليد، وَسُلَيْمَانَ بَعْدَ عَبْد الْمَلك بْن مَرْوَانَ قَالَ: فَقَالَ: «لَا أُبَايعُ اثْنَيْن مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ» قَالَ: فَقيلَ: ادْخُلْ منَ الْبَاب، وَاخْرُجْ منَ الْبَاب الْآخَر، قَالَ: «وَاللَّه لَا يَقْتَدي بي أَحَدٌ منَ النَّاس» قَالَ: فَجَلَدَهُ مائَةً، وَأَلْبَسَهُ الْمُسُوحَ...

قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَن بْنُ عَبْدٍ الْقَارئُ لسَعيد بْن الْمُسَيّب حينَ قُدّمَت الْبَيْعَةُ للْوَليد، وَسُلَيْمَانَ بالْمَدينَة منْ بَعْد مَوْت أَبيهمَا: إنّي مُشيرٌ عَلَيْكَ بخصَالٍ ثَلَاثٍ، قَالَ: «وَمَا هيَ؟» قَالَ: تَعْتَزلُ مَقَامَكَ، فَإنَّكَ هُوَ وَحَيْثُ يَرَاكَ هشَامُ بْنُ إسْمَاعيلَ، قَالَ: «مَا كُنْتُ لأُغَيّرَ مَقَامًا قُمْتُهُ مُنْذُ أَرْبَعينَ سَنَةً»، قَالَ: تَخْرُجُ مُعْتَمرًا، قَالَ: «مَا كُنْتُ لأُنْفقَ مَالي وَأُجْهدَ بَدَني في شَيْءٍ لَيْسَ لي فيه نيَّةٌ»، وَقَالَ: فَمَا الثَّالثَةُ؟ قَالَ: تَبَايعُ قَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ اللهُ أَعْمَى قَلْبَكَ، كَمَا أَعْمَى بَصَرَكَ، قَالَ: فَمَا عَلَيَّ؟ قَالَ: وَكَانَ أَعْمَ، قَالَ رَجَاءٌ: فَدَعَاهُ هشَامٌ إلَى الْبَيْعَة فَأَبَى، فَكَتَبَ فيه إلَى عَبْد الْمَلك فَكَتَبَ إلَيْه عَبْدُ الْمَلك: مَا لَكَ وَلسَعيدٍ مَا كَانَ عَلَيْنَا منْهُ شَيْءٌ نَكْرَهُهُ، فَأَمَّا إذْ فَعَلْتَ فَاضْربْهُ ثَلَاثينَ سَوْطًا»([209]).

17- سلمة بن خطل:

قال الحافظ ابن حجر ؒ: «سلمة بن الخطل الكناني ثم العرجي، قال ابن عساكر: يقال له صحبة... خطب معاوية فقال: إنّ اللَّه ولّى عمر، فولّاني، فو اللَّه ما خنت ولا كذبت... فقام سلمة بن الخطل... فقال: واللَّه يا معاوية لقد أنصفت، وما كنت منصفاً. فقال:

اجلس، لا جلست.

ثم قال له معاوية: لقد رأيتك حيث أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فسلمت فردّ عليك، وأهديت إليه فقبل منك وأسلمت، فكنت من صالحي قومك»([210]).

18- طاووس بن كيسان:

قال الإمام الذهبي ؒ: «طاوس بن كَيسان اليماني الجندي، أحَدُ الأعلام علماً وعملاً، أخذ عن عائشة وطائفة، توفي بمكة»([211]).

قال الإمام ابن كثير ؒ: «طَاوُسُ بْنُ كَيْسَانَ الْيَمَانيُّ منْ أَكْبَر أَصْحَاب ابن عبَّاس ... فأما طاوس، فهو أبو عبد الرحمن طاوس بن كيسان اليماني، فهو أول طبقة أهل اليمن من التابعين، وهو من أبناء الفرس الذين أرسلهم كسرى إلى اليمن...

ولما حج سليمان بن عبد الملك قال: انظروا إليّ فقيهاً أسأله عن بعض المناسك، قال: فخرج الحاجب يلتمس له، فمر طاوس فقالوا: هذا طاوس اليماني، فأخذه الحاجب فقال: أجب أمير المؤمنين، فقال: اعفني، فأبى، فأدخله عليه، قال طاوس: فلما وقفت بين يديه قلت: إن هذا المقام يسألني اللَّه عنه، فقال: يا أمير المؤمنين إن صخرة كانت على شفير جهنم، هوت فيها سبعين خريفاً حتى استقرت في قرارها، أتدري لمن أعدها اللَّه؟ قال: لا! ! ويلك لمن أعدها اللَّه؟ قال: لمن أشركه اللَّه في حكمه فجار.

وفي رواية ذكرها الزهري أن سليمان رأى رجلاً يطوف بالبيت، له جمال وكمال، فقال: من هذا يا زهري؟ فقلت: هذا طاوس، وقد أدرك عدة من الصحابة، فأرسل إليه سليمان فأتاه، فقال: لو ما حدثتنا؟ فقال: حدَّثني أبو مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: (إن أهون الخلق على الله U من ولى من أمور المسلمين شيئاً فلم يعدل فيهم)...

فتغير وجه سليمان، فأطرق طويلاً ثم رفع رأسه إليه فقال: لو ما حدثتنا؟ فقال: حدثني رَجُلٍ منْ أَصْحَاب النَّبيّ صلى الله عليه وسلم - قَالَ ابن شهاب: ظننت أنه أراد علياً - قَالَ: دَعَاني رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلَى طعام في مجلس من مجالس قريش، ثم قال: (إن لكم على قريش حقاً، ولهم على الناس حق، ما إذا استرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا ائتمنوا أدوا، فمن لم يفعل فَعَلَيْه لَعْنَةُ اللَّه وَالْمَلَائكَة والنَّاس أَجْمَعينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّه منه صرفاً ولا عدلاً)...

قال: فتغير وجه سليمان وأطرق طويلاً ثم رفع رأسه إليه وقال: لو ما حدثتنا؟ فقال: حدثني ابن عباس أن آخر آية نزلت من كتاب اللَّه: ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فيه إلَى اللَّه ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يظلمون﴾ [البقرة: 281] »([212]).

19- عائذ بن عمرو:

قال الإمام ابن حبان ؒ: «عائذ بن عمرو المزني الذي يقال له الأشج العبدي، من أصحاب الشجرة، مات بالبصرة في إمارة يزيد بن معاوية، وصلى عليه أبوبرزة»([213]).

قال الإمام الصفدي ؒ: «كَانَ ممَّن بَايع بيعَة الرضْوَان تَحت الشَّجَرَة، وَكَانَ من صالحي الصَّحَابَة، سكن الْبَصْرَة، وَبنى بهَا دَاراً... وَتُوفّي في حُدُود السّبْعين للْهجْرَة»([214]).

وقال الحافظ ابن حجر ؒ: «كان ممّن بايع تحت الشجرة ثبت ذلك في البخاري... وسكن البصرة، ومات في إمارة ابن زياد، فروى مسلم من طريق الحسن أنّ عائذ بن عمرو- وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- دخل على عبد اللَّه بن زياد، فقال: أي شيء سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: (إنّ شرّ الرّعاء الحطمة ... ) الحديث.

... كان عائذ بن عمرو لا يخرج من داره ماء إلى الطريق لا ناسماً، ولا غيره، فسئل، فقال: لأن أصب طستي في حجرتي أحبّ إليّ من أن أصبه في طريق المسلمين»([215]).

وقال الإمام ابن سعد ؒ: «عَنْ ثَابتٍ: أَنَّ عَائذَ بْنَ عَمْرٍو أَوْصَى أَنْ يُصَلّيَ عَلَيْه أَبُو بَرْزَةَ، فَرَكبَ عُبَيْدُ اللَّه بْنُ زيَادٍ؛ ليُصَلّيَ عَلَيْه، فَلَمَّا بَلَغَ دَارَ مُسْلمٍ قيلَ لَهُ: إنَّهُ أَوْصَى أَنْ يُصَلّيَ عَلَيْه أَبُو بَرْزَةَ. فَنَكَّبَ دَابَّتَهُ رَاجعًا»([216]).

20- عبادة بن الصامت رضي الله عنه:

قال الإمام ابن قتيبة ؒ: «عبادة بن الصامت بن قيس من الخزرج، ويكنى: أبا الوليد... أحد النّقباء الاثني عشر، وشهد بدراً، والمشاهد كلها، وشهد «العقبة» مع السبعين... وكان عبادة طويلاً جميلاً، جسيماً، وتوفى بالرّملة، من الشام سنة أربع وثلاثين، وهو يومئذ ابن اثنتين وسبعين سن» ([217]).

وقال الإمام ابن سعد ؒ: «وَشَهدَ عُبَادَةُ الْعَقَبَةَ مَعَ السَّبْعينَ منَ الْأَنْصَار في روَايَتهمْ جَميعًا، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاء الاثْنَيْ عَشَرَ، وآخَى رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بَيْنَ عُبَادَةَ بْن الصَّامت وَأَبي مَرْثَدٍ الْغَنَويّ، وَشَهدَ عُبَادَةُ بَدْرًا، وَأُحُدًا، وَالْخَنْدَقَ، وَالْمَشَاهدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ عُبَادَةُ عَقَبيًّا نَقيبًا بَدْريًّا أَنْصَاريًّا»([218]).

وقال الحافظ ابن حجر ؒ: «ذكر معاوية الفرار من الطّاعون، فذكر قصة له مع عبادة، فقام معاوية عند المنبر بعد صلاة العصر، فقال: الحديث كما حدّثني عبادة، فاقتبسوا منه، فهو أفقه مني.

ولعبادة قصص متعددة مع معاوية، وإنكاره عليه أشياء، وفي بعضها رجوع معاوية له، وفي بعضها شكواه إلى عثمان منه، تدلّ على قوته في دين اللَّه، وقيامه في الأمر بالمعروف» ([219]).

21- عبد الله بن أرطاة:

قال الإمام الحافظ ابن حجر ؒ: «وذكر ابن الكلبيّ أنه كان مع ابن عمه سلمان وقومه لما اعتزلوا القتال بالرقة مع عليّ ومعاوية، قال: وكانوا ثمانين رجلاً، وذكر له قصة مع بشر بن مروان لما كان أمير الكوفة، وأنه خطب يوماً، فتكلّم بشيء، فقام إليه، فقال له: اتّق اللَّه، فإنك ميت ومحاسب، فأمر بضربه، فضرب بالسياط فمات»([220]).

22- عبد الله بن عمر بن الخطاب:

قال الإمام الحافظ ابن حبان ؒ: «كان مولده قبل الوحي بسنة، لم يشهد بدراً، وعرض على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد، وهو بن أربع عشرة سنة، فلم يجزه، ولم يره بلغ، ثم عرض عليه يوم الخندق، وهو ابن خمس عشرة، فأجازه وكان من صالحي الصحابة وقرائهم، وزهادهم، ولم يشتغل في هذه الدنيا بالصفراء، ولا بالتمتع بالبيضاء، ولا ضم درهماً إلى درهم، وكان من أكثرهم تتبعاً لآثار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأكثرهم استعمالاً لها، اعتزل الفتن، وقعد في البيت عن الناس، إلا أن يخرج حاجاً أو معتمراً، أو غازياً، إلا أن أدركته المنية على حالته تلك بمكة، وهو حاج سنة ثلاث وسبعين، وبها دفن رضي الله عنه»([221]).

وقال الإمام الحافظ الذهبي ؒ: «السيد الفقيه القدوة، استصغر يوم أحد، وقد عين للخلافة يوم الحكمين مع وجود علي والكبار y، وقال سعيد بن المسيب يوم مات ابن عمر: ما بقي في الأرض أحد أحب إلي أن ألقى اللَّه بمثل عمله منه، وهذا كنحو ما قال علي في عمر يوم مات»([222]).

وقال الحافظ الصفدي ؒ: «وَكَانَ شَديد التَّحَرّي وَالاحْتيَاط في فتواه، وكل مَا يَأْخُذ به نَفسه، وَكَانَ لَا يتَخَلَّف عَن السَّرَايَا في حَيَاة رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثمَّ كَانَ بعد مَوته مُولَعا بالْحَجّ قبل الْفتْنَة، وَفي الْفتْنَة، وَيُقَال إنَّه كَانَ أعلم الصَّحَابَة بمناسك الْحَج، وَقَالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم لزوجته حَفْصَة بنت عمر: إن أَخَاك عبد اللَّه رجلٌ صَالح لَو كَانَ يقوم من اللَّيْل، فَمَا ترك بعْدهَا ابْن عمر قيام اللَّيْل، وَكَانَ رضي الله عنه لورعه قد أشكلت عَلَيْه حروب عَليّ بن أبي طَالب، فَقعدَ عَنهُ، وَنَدم على ذَلك حين حَضرته الْوَفَاة، وَسُئلَ عَن تلْكَ الْمشَاهد فَقَالَ: كَفَفْت يَدي فَلم أقدم، والمقاتل على الْحق أفضل، وَقَالَ جَابر بْن عبد اللَّه: مَا منا أحدٌ إلَّا مَالَتْ به الدُّنْيَا، وَمَال بهَا خلا عمر وَابْنه عبد اللَّه، وَأفْتى في الْإسْلَام ستّينَ سنة، وَنشر نَافع عَنهُ علماً جماً»([223]).

وقال الإمام ابن سعد ؒ: «كَتَبَ عَبْدُ الْعَزيز بْنُ هَارُونَ إلَى ابْن عُمَرَ: أَن ارْفَعْ إلَيَّ حَاجَتَكَ، قَالَ: فَكَتَبَ إلَيْه عَبْدُ اللَّه: سَمعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «ابْدَأْ بمَنْ تَعُولُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ منَ الْيَد السُّفْلَى»، وَإنّي لَا أَحْسَبُ الْيَدَ الْعُلْيَا إلَّا الْمُعْطيَةَ، وَالسُّفْلَى إلَّا السَّائلَةَ، وَإنّي غَيْرُ سَائلكَ، وَلَا رَادٌّ رزْقًا سَاقَهُ اللَّهُ إلَيَّ منْكَ»...

حَدَّثَنَا مَالكُ بْنُ أَنَسٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّه بْنَ عُمَرَ، قَالَ: لَو اجْتَمَعَتْ عَلَيَّ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ إلَّا رَجُلَيْن مَا قَاتَلْتُهُمَا»([224])...

سَمعْتُ الْحَسَنَ، يُحَدّثُ قَالَ: لَمَّا قُتلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ قَالُوا لعَبْد اللَّه بْن عُمَرَ: إنَّكَ سَيّدُ النَّاس وَابْنُ سَيّدٍ، فَاخْرُجْ نُبَايعْ لَكَ النَّاسَ، قَالَ: إنّي وَاللَّه لَئن اسْتَطَعْتُ لَا يُهَرَاقُ في سَبَبي محْجَمَةٌ منْ دَمٍ، فَقَالُوا: لَتَخْرُجَنَّ أَوْ لَنَقْتُلَنَّكَ عَلَى فرَاشكَ، فَقَالَ لَهُمْ مثْلَ قَوْله الْأَوَّل، قَالَ الْحَسَنُ: فَأَطْمَعُوهُ وَخَوَّفُوهُ، فَمَا اسْتَقْبَلُوا منْهُ شَيْئًا حَتَّى لَحقَ باللَّه»...

حَدَّثَنَا خَالدُ بْنُ سُمَيْرٍ، قَالَ: قيلَ لابْن عُمَرَ: لَوْ أَقَمْتَ للنَّاس أَمْرَهُمْ فَإنَّ النَّاسَ قَدْ رَضُوْا بكَ كُلُّهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ إنْ خَالَفَ رَجُلٌ بالْمَشْرق؟ قَالُوا: إنْ خَالَفَ رَجُلٌ قُتلَ، وَمَا قَتْلُ رَجُلٍ في صَلَاح الْأُمَّة، فَقَالَ: وَاللَّه مَا أُحبُّ لَوْ أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَخَذَتْ بقَائمَة رُمْحٍ وَأَخَذْتُ بزُجّهٍ، فَقُتلَ رَجُلٌ منَ الْمُسْلمينَ وَليَ الدُّنْيَا وَمَا فيهَا»([225]).

وقال الإمام ابن عبد البر ؒ: «وذلك أن الْحَجَّاج خطب يوماً، وأخر الصلاة، فَقَالَ ابْن عُمَر: إن الشمس لا تنتظرك، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاج: لقد هممت أن أضرب الَّذي فيه عيناك، قَالَ: إن تفعل فإنك سفيه مسلط»([226]).

وقال الإمام ابن كثير ؒ: «أَنَّ الْحَجَّاجَ أَطَالَ الْخُطْبَةَ، فَجَعَلَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ مرَارًا، ثمَّ قال فَأَقَامَ الصَّلَاةَ فَقَامَ النَّاسُ، فَصَلَّى الْحَجَّاجُ بالنَّاس، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لابْن عُمَرَ: مَا حَمَلَكَ على ذلك؟ فقال: إنما نجيء للصلاة، فصلّ الصلاة لوقتها، ثم تفتق ما شئت بعد من تفتقه»([227]).

وفي رواية لابن سعد ؒ: «أَنَّ الْحَجَّاجَ كَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ، وَابْنُ عُمَرَ في الْمَسْجد، فَخَطَبَ النَّاسَ حَتَّى أَمْسَى، فَنَادَاهُ ابْنُ عُمَرَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ الصَّلَاةَ فَاقْعُدْ، ثُمَّ نَادَاهُ الثَّانيَةَ: فَاقْعُدْ، ثُمَّ نَادَاهُ الثَّالثَةَ: فَاقْعُدْ، فَقَالَ لَهُمْ في الرَّابعَة: أَرَأَيْتُمْ إنْ نَهَضْتُ أَتَنْهَضُونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَنَهَضَ، فَقَالَ: الصَّلَاةَ، فَإنّي لَا أَرَى لَكَ فيهَا حَاجَةً، فَنَزَلَ الْحَجَّاجُ، فَصَلَّى، ثُمَّ دَعَا به، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: إنَّمَا نَجيءُ للصَّلَاة، فَإذَا حَضَرَت الصَّلَاةُ فَصَلّ بالصَّلَاة لوَقْتهَا، ثُمَّ بَقْبقْ بَعْدَ ذَلكَ مَا شئْتَ منْ بَقْبَقَةٍ»([228]).

وأخرج البخاري عَن ابْن عُمَرَ، قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ وَنَوسَاتُهَا تَنْطُفُ، قُلْتُ: قَدْ كَانَ منْ أَمْر النَّاس مَا تَرَيْنَ، فَلَمْ يُجْعَلْ لي منَ الأَمْر شَيْءٌ، فَقَالَتْ: الحَقْ فَإنَّهُمْ يَنْتَظرُونَكَ، وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ في احْتبَاسكَ عَنْهُمْ فُرْقَةٌ، فَلَمْ تَدَعْهُ حَتَّى ذَهَبَ، فَلَمَّا تَفَرَّقَ النَّاسُ خَطَبَ مُعَاويَةُ قَالَ: مَنْ كَانَ يُريدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ في هَذَا الأَمْر فَلْيُطْلعْ لَنَا قَرْنَهُ، فَلَنَحْنُ أَحَقُّ به منْهُ وَمنْ أَبيه، قَالَ حَبيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ: فَهَلَّا أَجَبْتَهُ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّه: فَحَلَلْتُ حُبْوَتي، وَهَمَمْتُ أَنْ أَقُولَ: أَحَقُّ بهَذَا الأَمْر منْكَ مَنْ قَاتَلَكَ وَأَبَاكَ عَلَى الإسْلاَم، فَخَشيتُ أَنْ أَقُولَ كَلمَةً تُفَرّقُ بَيْنَ الجَمْع، وَتَسْفكُ الدَّمَ، وَيُحْمَلُ عَنّي غَيْرُ ذَلكَ، فَذَكَرْتُ مَا أَعَدَّ اللَّهُ في الجنَان، قَالَ حَبيبٌ: حُفظْتَ وَعُصمْتَ»([229]).

وفي رواية عن زَيْد بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَرَ عَنْ أَبيه قَالَ أُنَاسٌ لابْن عُمَرَ: إنَّا نَدْخُلُ عَلَى سُلْطَاننَا فَنَقُولُ لَهُمْ خلَافَ مَا نَتَكَلَّمُ إذَا خَرَجْنَا منْ عنْدهمْ، قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ هَذَا نفَاقًا»([230]).

وقال الحافظ ابن حجر ؒ: «وَوَقع في روَايَة حبيب بن أبي ثَابت أَيْضاً قَالَ ابن عُمَرَ مَا حَدَّثْتُ نَفْسي بالدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمَئذٍ أَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ لَهُ: يَطْمَعُ فيه مَنْ ضَرَبَكَ وَأَبَاكَ عَلَى الْإسْلَام حَتَّى أَدْخَلَكُمَا فيه، فَذَكَرْتُ الْجَنَّةَ فَأَعْرَضْتُ عَنْهُ»([231]).

وفي رواية: «فَخَشيتُ أَنْ يَكُونَ في قَوْلي هرَاقَةُ الدّمَاء وَأَنْ يُحْمَلَ قَوْلي عَلَى غَيْر الَّذي أَرَدْتُ قَوْلُهُ»([232]).

23- عبد الله بن عمر بن العاص ب:

أخرج الإمام أحمد ؒ عَنْ عَبْد الله بْن أَبي الْهُذَيْل، حَدَّثَني شَيْخٌ قَالَ: دَخَلْتُ مَسْجدًا بالشَّام، فَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْن، ثُمَّ جَلَسْتُ، فَجَاءَ شَيْخٌ يُصَلّي إلَى السَّاريَة، فَلَمَّا انْصَرَفَ، ثَابَ النَّاسُ إلَيْه، فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: عَبْدُ اللَّه بْنُ عَمْرٍو، فَأَتَى رَسُولُ يَزيدَ بْن مُعَاويَةَ، فَقَالَ: إنَّ هَذَا يُريدُ أَنْ يَمْنَعَني أَنْ أُحَدّثَكُمْ، وَإنَّ نَبيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اللهُمَّ إنّي أَعُوذُ بكَ منْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمنْ علْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ، اللهُمَّ إنّي أَعُوذُ بكَ منْ هَؤُلَاء الْأَرْبَع»([233]).

24- عبد الله بن قرط الثمالي:

قال الحافظ ابن حجر: حديث عبد اللَّه بن قرط الثّمالي أمير حمص لعمر، أخرج أبو الشيخ في كتاب النكاح من طريق مسكين بن ميمون المؤذن، عن عروة بن رويم- أن عبد اللَّه بن قرط الثّمالي كان يعس بحمص ذات ليلة، وكان عاملاً لعمر، فمرت به عروس وهم يوقدون النيران بين يديها، فضربهم بدرّته حتى تفرقوا عن عروسهم، فلما أصبح قعد على منبره فحمد اللَّه وأثنى عليه فقال: إن أبا جندلة نكح أمامة، فصنع لها حثيات من طعام، فرحم اللَّه أبا جندلة، وصلى على أمامة، ولعن اللَّه عروسكم البارحة، أوقدوا النيران، وتشبّهوا بالكفرة، واللَّه مطفئ نورهم؛ قال: وعبد اللَّه بن قرط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم([234]).

25- عبد الله بن محيريز الجمحي:

قال الإمام ابن حبان ؒ: «عبد اللَّه بن محيريز القرشي، كان يتيماً في حجر أبي محذورة، وكان يشبه لعبد اللَّه بن عمر في العبادة والفضل، مات في ولاية عبد الملك»([235]).

وقال الصفدي ؒ: «قَالَ رَجَاء بن حَيْوَة: إن يفخر علينا أهل الْمَدينَة بعابدهم عبد اللَّه بن عمر، فَإنَّا نفخر عَلَيْهم بعابدنا عبد اللَّه بن محيريز، توفّي سنة تسعٍ وَتسْعين»([236]).

وقال الإمام الحافظ ابن كثير ؒ: «تَابعيٌّ جليل...وَأَثْنَى عَلَيْه جَمَاعَةٌ منَ الْأَئمَّة...قَالُوا: وَكَانَ صَمُوتًا مُعْتَزلًا للْفتَن، وَكَانَ لَا يَتْرُكُ الْأَمْرَ بالْمَعْرُوف، والنَّهي عَن الْمُنْكَر، وَلَا يَذْكُرُ شَيْئًا منْ خصَاله الْمَحْمُودَة، وَرَأَى عَلَى بَعْض الْأُمَرَاء حُلَّةً منْ حَريرٍ فَأَنْكَرَ عَلَيْه، فَقَالَ: إنَّمَا أَلْبَسُهَا منْ أَجْل هَؤُلَاء - وَأَشَارَ إلَى عَبْد الْمَلك بْن مَرْوَانَ أَمير الْمُؤْمنينَ - فَقَالَ لَهُ ابْنُ مُحَيْريزٍ: لَا تَعْدلْ بخَوْفكَ منَ اللَّه خَوْفَ أحد من المخلوقين»([237]).

وقال ابن سعد ؒ: «لَقيَ ابْنُ مُحَيْريزٍ قَبيصَةَ بْنَ ذُؤَيْبٍ، فَقَالَ: «يَا أَبَا إسْحَاقَ، عَطَّلْتُم الثُّغُورَ، وَأَغْزَيْتُمُ الْجُيُوشَ إلَى الْحَرَم، وَإلَى مُصْعَب بْن الزُّبَيْر»، فَقَالَ لَهُ قَبيصَةُ: «احْذَرْ منْ لسَانكَ، فَوَاللَّه مَا فُعلَ»، فَأَرْسَلَ إلَيْه عَبْدُ الْمَلك، فَأُتيَ به مُتَقَنّعًا، فَأُوقفَ بَيْنَ يَدَيْه، فَقَالَ: «مَا كَلمَةٌ قُلْتَهَا نُغضَ لَهَا مَا بَيْنَ الْفُرَات إلَى الْعَريش يَعْني عَريشَ مصْرَ»، ثُمَّ لَانَ لَهُ، فَقَالَ: «الْزَم الصَّمْتَ، فَإنَّ مَنْ رَأَى الْبَقيَّةَ في قُرَيْشٍ وَالْحلْمَ عَنْهَا»، قَالَ: «فَرَأَى ابْنُ مُحَيْريزٍ أَنَّهُ قَدْ غَنمَ نَفْسَهُ يَوْمَئذٍ»([238]).

26- عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:

قال ابن حبان ؒ: «عبد اللَّه بن مسعود بن الحارث... بن هذيل حليف بنى زهرة، وقيل إنه عبد اللَّه بن مسعود بن غافل ... كنيته أبو عبد الرحمن، سكن الكوفة، ومات بالمدينة سنة ثنتين وثلاثين، وأوصى أن يدفن بجنب قبر عثمان بن مظعون، فدفن بالبقيع، وكان له يوم مات نيف وستون سنة»([239]).

وقال الحافظ ابن حجر ؒ: «أسلم قديماً، وهاجر الهجرتين، وشهد بدراً والمشاهد بعدها، ولازم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان صاحب نعليه...

لما بعث عثمان إلى ابن مسعود يأمره بالقدوم إلى المدينة اجتمع الناس، فقالوا: أقم، ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه، فقال: إن له عليّ حقّ الطاعة، ولا أحبّ أن أكون أول من فتح باب الفتن»([240]).

27- عبد الله بن المغفل:

قال ابن حبان ؒ: «من جلة الصحابة، كنيته أبو زياد، وقد قيل: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو سعيد، مات سنة تسع وخمسين، وصلى عليه أبوبرزة الأسلمي»([241]).

قال الشيرازي ؒ: «قال الحسن [البصري]: هو أحد النفر العشرة الذين بعث إلينا عمر ليفقهوا أهل البصرة»([242]).

قال الحافظ ابن حجر ؒ: «قال البخاريّ: له صحبة، سكن البصرة، وهو أحد البكّاءين في غزوة تبوك، وشهد بيعة الشجرة، ثبت ذلك في الصحيح، وهو أحد العشرة الذين بعثهم عمر ليفقّهوا الناس بالبصرة، وهو أول من دخل من باب مدينة تستر.

ومات بالبصرة سنة تسع وخمسين، قاله مسدّد، وقيل: سنة ستين، فأوصى أن يصلّي عليه أبو برزة الأسلمي، فصلّى عليه. ومات سنة إحدى وستين»([243]).

وقال ابن سعد ؒ: «عَنْ زيَاد بْن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن مُغَفَّل الْمُزَنيّ قَالَ: لَمَّا كَانَ الْمَرَضُ الَّذي مَاتَ فيه عَبْدُ اللَّه بْنُ الْمُغَفَّل أَوْصَى أَهْلَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: لَا يَليني إلَّا أَصْحَابي، وَلَا يُصَلّي عَلَيَّ ابْنُ زيَادٍ، فَلَمَّا مَاتَ أَرْسَلُوا إلَى أَبي بَرْزَةَ الْأَسْلَميّ، وَإلَى عَائذ بْن عَمْرٍو، وَإلَى نَفَرٍ منْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالْبَصْرَة، فَوُلُّوا غُسْلَهُ وَتَكْفينَه، قَالَ: فَمَا زَادُوا عَلَى أَنْ طَوَوْا أَيْديَ قُمُصهمْ، وَدَسُّوا قُمُصَهُمْ في حُجَزهمْ، ثُمَّ غَسَّلُوهُ وَكَفَّنُوهُ، ثُمَّ لَمْ يَزد الْقَوْمُ عَلَى أَنْ تَوَضَّأُوا، فَلَمَّا أَخْرَجُوهُ منْ دَاره إذَا ابْنُ زيَادٍ في مَوْكبه بالْبَاب، فَقيلَ لَهُ: إنَّهُ قَدْ أَوْصَى أَنْ لَا يُصَلّيَ عَلَيْه، قَالَ: فَسَارَ مَعَهُ حَتَّى بَلَغَ حذَاءَ الْبَيْضَاء، فَمَالَ إلَى الْبَيْضَاء وَتَرَكَهُ»([244]).

28- عمران بن حصين:

عَن الْحَسَن [البصري]، أَنَّ زيَادًا اسْتَعْمَلَ الْحَكَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغفَاريَّ عَلَى جَيْشٍ فَلَقيَهُ عمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ في دَار الْإمَارَة فيمَا بَيْنَ النَّاس، فَقَالَ لَهُ: أَتَدْري فيمَ جئْتُكَ؟ أَمَا تَذْكُرُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَلَغَهُ الَّذي قَالَ لَهُ أَميرُهُ: قُمْ فَقَعْ في النَّار، فَقَامَ الرَّجُلُ لَيَقَعَ فيهَا فَأَدْرَكَهُ فَأَمْسَكَهُ، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ وَقَعَ فيهَا لَدَخَلَ النَّارَ، لَا طَاعَةَ في مَعْصيَة اللَّه» قَالَ الْحَكَمُ: بَلَى، قَالَ عمْرَانُ: إنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أُذَكّرَكَ هَذَا الْحَديثَ»([245]).

29- عمرو بن أراكة:

قال الحافظ ابن حجر ؒ: «ذكره البخاريّ في الصحابة، وقال: سكن البصرة، ... عن الحسن- أنّ عمرو بن أراكة صاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع زياد بن أبي سفيان على سريره، فأتي بشاهد فتتعتع في شهادته، فقال له زياد: واللَّه لأقطعنّ لسانك، فقال عمرو بن أراكة: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم ينهى عن المثلة»([246]).

30- عمير بن حكيم:

قال الحافظ ابن كثير ؒ: «عمير بن حكيم الْعَنْسيُّ الشَّاميُّ، لَهُ روَايَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ في الشَّام يَسْتَطيعُ أَنْ يَعيبَ الْحَجَّاجَ عَلَانيَةً إلا هو، وابن محيريز أبو الأبيض» ([247]).

31- عياض بن غنم الأشعري

أخرج الحاكم ؒ »أَنَّ عيَاضَ بْنَ غَنْمٍ الْأَشَريَ وَقَعَ عَلَى صَاحبٍ دَارَا حينَ فُتحَتْ، فَأَتَاهُ هشَامُ بْنُ حَكيمٍ، فَأَغْلَظَ لَهُ الْقَوْلَ، وَمَكَثَ هشَامٌ لَيَاليَ، فَأَتَاهُ هشَامٌ مُعْتَذرًا، فَقَالَ لعيَاضٍ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إنَّ أَشَدَّ النَّاس عَذَابًا يَوْمَ الْقيَامَة أَشَدُّ النَّاس عَذَابًا للنَّاس في الدُّنْيَا» فَقَالَ لَهُ عيَاضٌ: يَا هشَامُ إنَّا قَدْ سَمعْنَا الَّذي قَدْ سَمعْتُ، وَرَأَيْنَا الَّذي قَدْ رَأَيْتَ، وَصَحبْنَا مَنْ صَحبْتَ، أَلَمْ تَسْمَعْ يَا هشَامُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ كَانَتْ عنْدَهُ نَصيحَةٌ لذي سُلْطَانٍ فَلَا يُكَلّمُهُ بهَا عَلَانيَةً، وَلْيَأْخُذْ بيَده، وَلْيُخْل به، فَإنْ قَبلَهَا قَبلَهَا، وَإلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذي عَلَيْه وَالَّذي لَهُ»، وَإنَّكَ يَا هشَامُ، لَأَنْتَ الْمُجْتَرئُ، أَنْ تَجْتَرئَ عَلَى سُلْطَان اللَّه فَهَلَّا خَشيتَ أَنْ يَقْتُلَكَ سُلْطَانُ اللَّه، فَتَكُونَ قَتيلَ سُلْطَان اللَّه »([248]).

«جَلَدَ عيَاضُ بْنُ غَنْمٍ صَاحبَ دَارَا  حينَ فُتحَتْ، فَأَغْلَظَ لَهُ هشَامُ بْنُ حَكيمٍ الْقَوْلَ حَتَّى غَضبَ عيَاضٌ، ثُمَّ مَكَثَ لَيَاليَ، فَأَتَاهُ هشَامُ بْنُ حَكيمٍ فَاعْتَذَرَ إلَيْه، ثُمَّ قَالَ هشَامٌ لعيَاضٍ: أَلَمْ تَسْمَع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إنَّ منْ أَشَدّ النَّاس عَذَابًا، أَشَدَّهُمْ عَذَابًا في الدُّنْيَا للنَّاس)؟ فَقَالَ عيَاضُ بْنُ غَنْمٍ: يَا هشَامُ بْنَ حَكيمٍ، قَدْ سَمعْنَا مَا سَمعْتَ، وَرَأَيْنَا مَا رَأَيْتَ، أَوَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لسُلْطَانٍ بأَمْرٍ، فَلَا يُبْد لَهُ عَلَانيَةً، وَلَكنْ ليَأْخُذْ بيَده، فَيَخْلُوَ به، فَإنْ قَبلَ منْهُ فَذَاكَ، وَإلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذي عَلَيْه لَهُ "، وَإنَّكَ يَا هشَامُ لَأَنْتَ الْجَريءُ، إذْ تَجْتَرئُ عَلَى سُلْطَان الله، فَهَلَّا خَشيتَ أَنْ يَقْتُلَكَ السُّلْطَانُ، فَتَكُونَ قَتيلَ سُلْطَان الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى)»([249]).

وقال الحافظ ابن حجر ؒ: «عن عياض بن غنم أنه رأى نبطا يشمّسون في الجزية، فقال لعاملهم: إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: (إنّ اللَّه يعذّب الّذين يعذّبون النّاس في الدّنيا) .

وقد قيل في هذا: عن عروة، عن هشام بن حكيم.

أورده ابن منده في ترجمة عياض بن غنم الفهري أو الأشعري، وعروة لم يدرك الفهري، لكن قد أخرج ابن منده من طريق ابن عائذ، عن جبير بن نفير- أنّ عياض بن غنم وقع على صاحب داريا حين فتحت، فأغلظ له هشام بن حكيم ... فذكر قصة.

وفيها: فقال عياض لهشام: ألم تسمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يقل له علانية»([250]).

32- قيس بن سعد بن عبادة:

قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي أبو القاسم، سيد مطاع، كريم، ممدح، شجاع، خدم النبي صلى الله عليه وسلم، سكن تفليس، صحابي ابن صحابي، جواد ابن جواد، كان من فضلاء الصحابة، وأحد دهاة العرب، وذوي الرأي الصائب والمكيدة في الحرب والنجدة، وكان شريف قومه غير مدافع، ومن بيت سيادتهم، كان يحمل راية الأنصار مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي جوده أخبار كثيرة مشهورة، ورووا أنه كان فى سرية فيها أبو بكر، وعمر ب، فكان يستدين ويطعم الناس، صحب عليًا في خلافته، وكان معه في حروبه، واستعمله على مصر. توفي سنة ستين([251]).

قال الإمام ابن كثير ؒ: «كَانَ قَيْسٌ سَيّدًا مُطَاعًا كَريمًا مُمَدَّحًا شُجَاعًا، وَلَّاهُ عَليٌّ نيَابَةَ مصْرَ، وَكَانَ يُقَاومُ بدَهَائه وَخَديعَته وَسيَاسَته لمُعَاويَةَ وَعَمْرو بْن الْعَاص، وَلَمْ يَزَلْ مُعَاويَةُ يَعْمَلُ عَلَيْه حَتَّى عَزَلَهُ عَليٌّ عَنْ مصْرَ وَوَلَّى عَلَيْهَا مُحَمَّدَ بْنَ أَبي بكر الصديق...

كَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ منَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بمَنْزلَة صَاحب الشُّرْطَة منَ الْأَمير.

وَحَمَلَ لوَاءُ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بَعْض الْغَزَوَات، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الصَّدَقَة، وَلَمَّا بُعثَ رَسُولُ اللَّه ... وَكَانَ يُقَاومُ بدَهَائه وَخَديعَته وَسيَاسَته لمُعَاويَةَ وَعَمْرو بْن الْعَاص، وَلَمْ يَزَلْ مُعَاويَةُ يَعْمَلُ عَلَيْه حَتَّى عَزَلَهُ عَليٌّ عَنْ مصْرَ وَوَلَّى عَلَيْهَا مُحَمَّدَ بْنَ أَبي بكر الصديق...

وَأَقَامَ قَيْسٌ عنْدَ عَليٍّ، فَشَهدَ مَعَهُ صفّينَ وَالنَّهْرَوَانَ، وَلَزمَهُ حَتَّى قُتلَ، ثمَّ صَارَ إلَى الْمَدينَة، فَلَمَّا اجْتَمَعَت الْكَلمَةُ عَلَى مُعَاويَةَ جَاءَهُ ليُبَايعَهُ كَمَا بَايَعَهُ أَصْحَابُهُ...

قَسَّمَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مَالَهُ بَيْنَ أَوْلَاده وَخَرَجَ إلَى الشَّام فَمَاتَ بهَا، فَوُلدَ لَهُ وَلَدٌ بَعْدَ وَفَاته، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ إلَى قَيْس بْن سَعْدٍ فَقَالَا: إنَّ أَبَاكَ قَسَّمَ مَالَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بحَال هَذَا الْوَلَد إذْ كَانَ حَمْلًا، فَاقْسمُوا لَهُ مَعَكُمْ، فَقَالَ قَيْسٌ: إنّي لَا أُغَيّرُ مَا فَعَلَهُ سَعْدٌ، وَلَكنَّ نَصيبي لَهُ.

عَنْ قَيْس بْن سَعْدٍ قَالَ: لَوْلَا إنّي سَمعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " الْمَكْرُ وَالْخَديعَةُ في النَّار: لَكُنْتُ منْ أَمْكَر هَذه الْأُمَّة.

وَقَالَ الزُّهْريُّ: دُهَاةُ الْعَرَب حينَ ثَارَت الْفتْنَةُ خَمْسَةٌ: مُعَاويَةُ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاص، وَالْمُغيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ اللَّه بْنُ بُدَيْلٍ، وَكَانَا مَعَ عَليٍّ، وَكَانَ الْمُغيرَةُ مُعْتَزلًا بالطَّائف حتى حكم الخصمان فصارا إلَى مُعَاويَةَ.

سار قَيْسٌ إلَى الْمَدينَة، ثُمَّ سَارَ إلَى عَليٍّ بن أبي طالب إلى العراق، فَكَانَ مَعَهُ في حُرُوبه حَتَّى قُتلَ عَليٌّ، ثم كان مع الحسن بن علي حين سار إلى معاوية ليقاتله، فكان قيس على مقدمة الجيش، فَلَمَّا بَايَعَ الْحَسَنُ مُعَاويَةَ سَاءَ قَيْسًا ذَلكَ، وما أحبه، وامتنع من طاعته مُعَاويَةَ، ثُمَّ ارْتَحَلَ إلَى الْمَدينَة، ثُمَّ قَدمَ عَلَى مُعَاويَةَ في وَفْدٍ منَ الْأَنْصَار، فَبَايَعَ معاوية بعد معاتبة شديدة وقعت بينهما، وَكَلَام فيه غلْظَةٌ، ثُمَّ أَكْرَمَهُ مُعَاويَةُ وَقَدَّمَهُ، وحظي عنده، فبينما هو مع الوفد عنْدَ مُعَاويَةَ إذْ قَدمَ كتَابُ مَلك الرُّوم عَلَى مُعَاويَةَ، وَفيه: أَن ابْعَثْ إليَّ بسَرَاويل أطول رجل في العرب، فقال معاوية: ما أرنا إلا قد احتجنا إلا سَرَاويلكَ؟ - وَكَانَ قَيْسٌ مَديدُ الْقَامَة جدًّا لَا يَصلُ أَطْوَلُ الرّجَال إلَى صَدْره، ثُمَّ خَلَعَ سَرَاويلَهُ، فَأَلْقَاهَا إلَى مُعَاويَةُ، فَقَالَ له معاوية: لو ذَهَبْتَ إلَى مَنْزلكَ ثُمَّ أَرْسَلْتَ بهَا إلَيْنَا»([252]).

33- كعب بن عجرة:

قال الإمام الذهبي ؒ: «كعب بن عجرة الأنصاري من أهل بيعة الرضوان»([253]).

وأخرج مسلم ؒ: «عَنْ أَبي عُبَيْدَةَ، عَنْ كَعْب بْن عُجْرَةَ، قَالَ: دَخَلَ الْمَسْجدَ وَعَبْدُ الرَّحْمَن ابْنُ أُمّ الْحَكَم يَخْطُبُ قَاعدًا، فَقَالَ: انْظُرُوا إلَى هَذَا الْخَبيث يَخْطُبُ قَاعدًا، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَإذَا رَأَوْا تجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائمًا﴾ [الجمعة: 11]» ([254]).

34- أبو مسلم الخولاني:

قال أبو نعيم ؒ: «عَنْ أَبي عَبْد الله الْحَرَسَيّ، وَكَانَ منْ حَرَس عُمَرَ بْن عَبْد الْعَزيز قَالَ: دَخَلَ أَبُو مُسْلمٍ الْخَوْلَانيُّ عَلَى مُعَاويَةَ بْن أَبي سُفْيَانَ وَقَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَجيرُ» فَقَالَ النَّاسُ الْأَميرُ يَا أَبَا مُسْلمٍ ثُمَّ قَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَجيرُ» فَقَالَ النَّاسُ: الْأَميرُ فَقَالَ مُعَاويَةُ: دَعُوا أَبَا مُسْلمٍ هُوَ أَعْلَمُ بمَا يَقُولُ قَالَ أَبُو مُسْلمٍ: «إنَّمَا مَثَلُكَ مَثَلُ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجيرًا فَوَلَّاهُ مَاشيَتَهُ وَجَعَلَ لَهُ الْأَجْرَ عَلَى أَنْ يُحْسنَ الرَّعيَّةَ وَيُوَفّرَ جَزَازَهَا وَأَلْبَانَهَا فَإنْ هُوَ أَحْسَنَ رَعيَّتَهَا، وَوَفَّرَ جَزَازَهَا حَتَّى تَلْحَقَ الصَّغيرَةُ، وَتَسْمَنَ الْعَجْفَاءُ أَعْطَاهُ أَجْرَهُ، وَزَادَهُ منْ قبَله زيَادَةً، وَإنْ هُوَ لَمْ يُحْسنْ رَعيَّتَهَا، وَأَضَاعَهَا حَتَّى تَهْلَكَ الْعَجْفَاءُ، وَتَعْجَفَ السَّمينَةُ، وَلَمْ يُوَفّرْ جَزَازَهَا، وَأَلْبَانَهَا غَضبَ عَلَيْه صَاحبُ الْأَجْر، فَعَاقَبَهُ وَلَمْ يُعْطه الْأَجْرَ» فَقَالَ مُعَاويَةُ: مَا شَاءَ اللهُ كَانَ...

كَانَ أَبُو مُسْلمٍ الْخَوْلَانيُّ يَطُوفُ يَنْعي الْإسْلَام فَأَتَى مُعَاويَةَ، فَقيلَ لَهُ فَأَرْسَلَ إلَيْه فَدَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ: «مَا اسْمُكَ؟» قَالَ مُعَاويَةُ: قَالَ: «بَلْ أَنْتَ حَدُّوثَةُ قَبْرٍ عَنْ قَليلٍ، إنْ عَملْتَ خَيْرًا أُجْزَيْتَ به، وَإنْ عَملْتَ شَرًّا أُجْزَيْتَ يَا مُعَاويَةُ إنْ عَدَلْتَ عَلَى أَهْل الْأَرْض جَميعًا، ثُمَ جُرْتَ عَلَى رَجُلٍ وَاحدٍ مَالَ جَوْرُكَ بعَدْلكَ...

عَنْ أَبي مُسْلمٍ الْخَوْلَانيّ: أَنَّهُ نَادَى مُعَاويَةَ بْنَ أَبي سُفْيَانَ وَهُوَ جَالسٌ عَلَى منْبَر دمَشْقَ، فَقَالَ: «يَا مُعَاويَةُ إنَّمَا أَنْتَ قَبْرٌ منَ الْقُبُور، إنْ جئْتَ بشَيْءٍ كَانَ لَكَ شَيْءٌ، وَإنْ لَمْ تَجئْ بشَيْءٍ فَلَا شَيْءَ لَكَ، يَا مُعَاويَةُ لَا تَحْسَبَنَّ الْخلَافَةَ جَمْعَ الْمَال، وَتَفَرُّقَهُ، وَلَكنَّ الْخلَافَةَ الْعَمَلُ بالْحَقّ، وَالْقَوْلُ بالْمَعْدَلَة، وَأَخْذُ النَّاس في ذَات الله U، يَا مُعَاويَةُ، إنَّا لَا نُبَالي بكَدَر الْأَنْهَار مَا صَفَتْ لَنَا رَأْسُ عَيْننَا، وَإنَّكَ رَأْسُ عَيْننَا، يَا مُعَاويَةُ إيَّاكَ أَنْ تَحيفَ عَلَى قَبيلَةٍ منْ قَبَائل الْعَرَب، فَيَذْهَبَ حَيْفُكَ بعَدْلكَ»، فَلَمَّا قَضَى أَبُو مُسْلمٍ مَقَالَتَهُ أَقْبَلَ عَلَيْه مُعَاويَةُ، فَقَالَ: يَرْحَمُكَ اللهُ...

عَنْ أَبي مُسْلمٍ الْخَوْلَانيّ، عَنْ مُعَاويَةَ بْن أَبي سُفْيَانَ: أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ، وَقَدْ حُبسَ الْعَطَاءُ شَهْرَيْن أَوْ ثَلَاثَةً، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُسْلمٍ: يَا مُعَاويَةُ، إنَّ هَذَا الْمَالَ لَيْسَ بمَالكَ وَلَا مَالَ أَبيكَ، وَلَا مَال أُمّك، فَأَشَارَ مُعَاويَةُ إلَى النَّاس أَن امْكُثُوا، وَنَزَلَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ أَبَا مُسْلمٍ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا الْمَالَ لَيْسَ بمَالي، وَلَا بمَال أَبي وَلَا أُمّي، وَصَدَقَ أَبُو مُسْلمٍ، إنّي سَمعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الْغَضَبُ منَ الشَّيْطَان، وَالشَّيْطَانُ منَ النَّار، وَالْمَاءُ يُطْفئُ النَّارَ، فَإذَا غَضبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَغْتَسلْ» اغْدُوا عَلَى عَطَايَاكُمْ عَلَى بَرَكَة الله U»([255]).

روى اللالكائي عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُرْوَةَ، عَنْ أَبي مُسْلمٍ الْخَوْلَانيّ، عَنْ مُعَاويَةَ بْن أَبي سُفْيَانَ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ، وَقَدْ حَبَسَ الْعَطَاءَ شَهْرَيْن أَوْ ثَلَاثَةً، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُسْلمٍ: يَا مُعَاويَةُ، إنَّ هَذَا الْمَالَ لَيْسَ بمَالكَ، وَلَا مَال أَبيكَ وَلَا مَال أُمّكَ، فَأَشَارَ مُعَاويَةُ إلَى النَّاس أَن امْكُثُوا، وَنَزَلَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ أَبَا مُسْلمٍ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا الْمَالَ لَيْسَ بمَال أَبي، وَلَا مَال أُمّي، وَصَدَقَ أَبُو مُسْلمٍ، وَإنّي سَمعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (الْغَضَبُ منَ الشَّيْطَان، وَالشَّيْطَانُ منَ النَّار، وَالْمَاءُ يُطْفئُ النَّارَ)، فَإذَا غَضبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَغْتَسلْ، اغْدُوا عَلَى أُعْطيَاتكُمْ عَلَى بَرَكَة اللَّه»([256]).

35- معقل بن يسار:

معقل بن يسار المزني من أصحاب الشجرة، له الخطة المعروفة بالبصرة، وهو الّذي حفر نهر معقل بالبصرة بأمر عمر، فنسب، أسلم قبل الحديبيّة، وشهد بيعة الرضوان، ونزل البصرة، وبنى بها داراً، ومات بها في ولاية عبيد اللَّه بن زياد في خلافة معاوية([257]).

روى مسلم ؒ «عَن الْحَسَن، قَالَ: عَادَ عُبَيْدُ الله بْنُ زيَادٍ مَعْقلَ بْنَ يَسَارٍ الْمُزَنيَّ في مَرَضه الَّذي مَاتَ فيه، فَقَالَ مَعْقلٌ: إنّي مُحَدّثُكَ حَديثًا سَمعْتُهُ منْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، لَوْ عَلمْتُ أَنَّ لي حَيَاةً مَا حَدَّثْتُكَ، إنّي سَمعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: (مَا منْ عَبْدٍ يَسْتَرْعيه اللهُ رَعيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ، وَهُوَ غَاشٌّ لرَعيَّته، إلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْه الْجَنَّةَ).

وفي رواية: عَن الْحَسَن، قَالَ: دَخَلَ عُبَيْدُ الله بْنُ زيَادٍ، عَلَى مَعْقَل بْن يَسَارٍ، وَهُوَ وَجعٌ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: إنّي مُحَدّثُكَ حَديثًا لَمْ أَكُنْ حَدَّثْتُكَهُ إنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا يَسْتَرْعي اللهُ عَبْدًا رَعيَّةً، يَمُوتُ حينَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهَا، إلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْه الْجَنَّةَ)، قَالَ: أَلَّا كُنْتَ حَدَّثْتَني هَذَا قَبْلَ الْيَوْم؟ قَالَ: «مَا حَدَّثْتُكَ»، أَوْ لَمْ أَكُنْ لأُحَدّثَكَ.

وفي رواية عَنْ أَبي الْمَليح أَنَّ عُبَيْدَ الله بْنَ زيَادٍ عَادَ مَعْقلَ بْنَ يَسَارٍ في مَرَضه، فَقَالَ لَهُ مَعْقلٌ: إنّي مُحَدّثُكَ بحَديثٍ لَوْلَا أَنّي في الْمَوْت لَمْ أُحَدّثْكَ به، سَمعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَا منْ أَميرٍ يَلي أَمْرَ الْمُسْلمينَ، ثُمَّ لَا يَجْهَدُ لَهُمْ، وَيَنْصَحُ، إلَّا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ)([258]).

قال ابن كثير ؒ: «صَحَابيٌّ جَليلٌ، شَهدَ الحديبية، وكان هو الذي كان يَرْفَعُ أَغْصَانَ الشَّجَرَة عَنْ وَجْه رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُبَايعُ النَّاسَ تَحْتَهَا، وَكَانَتْ منَ السَّمُر، وَهيَ الْمَذْكُورَةُ في الْقُرْآن في قَوْله تَعَالَى: ﴿لَقَدْ رَضيَ اللَّهُ عَن الْمُؤْمنينَ إذْ يُبَايعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة﴾ [الفتح: 18]، وَقَدْ وَلَّاهُ عُمَرُ إمْرَةَ الْبَصْرَة فَحَفَرَ بهَا النَّهْرَ الْمَنْسُوبَ إلَيْه، فَيُقَالُ نَهْرُ مَعْقلٍ، وَلَهُ بهَا دَارٌ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْريُّ: دَخَلَ عُبَيْدُ اللَّه بْنُ زيَادٍ عَلَى مَعْقل بْن يَسَارٍ يَعُودُهُ في مَرَضه الَّذي مَاتَ فيه، فَقَالَ لَهُ مَعْقلٌ: إنّي مُحَدّثُكَ حَديثًا سَمعْتُهُ منْ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لو لَمْ أَكُنْ عَلَى حَالَتي هَذه لَمْ أُحَدّثْكَ به، سَمعْتُهُ يَقُولُ: (مَن اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعيَّةً فَلَمْ يُحطْهَا بْنصيحَةٍ لَمْ يَجدْ رَائحَةَ الْجَنَّة، وإنَّ ريحَهَا لَيُوجَدُ منْ مَسيرَة مائَة عَامٍ)»([259]).

36- أبو هريرة

قال الصفدي ؒ: «عبد الرَّحْمَن بن صَخْر، أَبُو هُرَيْرَة الدوسي رضي الله عنه في اسْمه وَاسم أَبيه اخْتلَاف كثير، ... وأشهرها عبد الرَّحْمَن بن صَخْر كَانَ اسْمه قبل الْإسْلَام عبد شمس، وَقَالَ كناني رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأَنّي كنت أحمل هرة في كمي ... كَانَ أحد الْحفاظ الْمَعْدُودين في الصَّحَابَة قدم من أَرض دوس هُوَ وَأمه مُسلما وَقت فتح خَيْبَر»([260]).

وقال ابن كثير ؒ: «عَن الْوَليد بْن رَبَاحٍ قَالَ: سَمعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ لمَرْوَانَ: وَاللَّه مَا أَنْتَ بوالٍ، وَإنَّ الْوَاليَ لَغَيْرُكَ فَدَعْهُ - يَعْني حينَ أَرَادُوا يدفنون الْحَسَنَ مَعَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم - ولكن تدخل فيما لا يعنيك، إنما يريد بهَذَا إرْضَاءَ مَنْ هُوَ غَائبٌ عَنْكَ - يَعْني مُعَاويَةَ - قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْه مَرْوَانُ مُغْضَبًا فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إنَّ النَّاسَ قَدْ قَالُوا إنك أكثرت عَلَى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم الْحَديثَ، وَإنَّمَا قَدمْتَ قَبْلَ وَفَاة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بيَسيرٍ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نعم! قدمت وَرَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بخَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ، وَأَنَا يَوْمَئذٍ قَدْ زدْتُ عَلَى الثَّلَاثينَ سَنَةً سَنَوَاتٍ، وَأَقَمْتُ مَعَهُ حَتَّى تُوُفّيَ، أَدُورُ مَعَهُ في بُيُوت نسَائه وَأَخْدمُهُ، وَأَنَا واللَّه يومئذٍ مقلٍ، وأصلي خلفه وأحج وأغزو مَعَهُ، فَكُنْتُ وَاللَّه أَعْلَمَ النَّاس بحَديثه، قَدْ واللَّه سبقني قوم بصحبته والهجرة إليه من قريش والأنصار، وكانوا يَعْرفُونَ لُزُومي لَهُ فَيَسْأَلُوني عَنْ حَديثه، منْهُمْ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَليٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَلَا وَاللَّه ما يخفى عليّ كل حديث كَانَ بالْمَدينَة، وَكُلُّ مَنْ أحبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ لَهُ عنْدَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم مَنْزلَةٌ، وَكُلُّ صَاحبٍ له، وكان أبو بكر صاحبه في الغار وغيره، وقد أَخْرَجَهُ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسَاكنَهُ - يُعَرّضُ بأَبي مَرْوَانَ الْحَكَم بْن العاص -....

ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: ليَسْأَلْني أَبُو عَبْد الْمَلك عَنْ هَذَا وَأَشْبَاهه، فَإنَّهُ يَجدُ عنْدي منْهُ علْمًا جَمًّا وَمَقَالًا، قَالَ: فَوَاللَّه مَا زَالَ مَرْوَانُ يَقْصُرُ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ وَيَتَّقيه بَعْدَ ذَلكَ وَيَخَافُهُ وَيَخَافُ جَوَابَهُ....

وَفي روَايَةٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لمَرْوَانَ: إنّي أَسْلَمْتُ وَهَاجَرْتُ اخْتيَارًا وَطَوْعًا، وَأَحْبَبْتُ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم حُبًّا شَديدًا، وَأَنْتُمْ أَهْلُ الدَّار وَمَوْضعُ الدَّعْوَة، أَخْرَجْتُمُ الدَّاعيَ منْ أَرْضه، وَآذَيْتُمُوهُ وَأَصْحَابَهُ، وَتَأَخَّرَ إسْلَامُكُمْ عَنْ إسْلَامي إلَى الْوَقْت الْمَكْرُوه إلَيْكُمْ، فَنَدمَ مَرْوَانُ عَلَى كَلَامه له واتقاه»([261]).

الخلاصة

هذه الطائفة من العلماء رفضت طريقة المنابذين والخارجين على الحاكم المسلم، وهذه الطائفة لم تعش بعيداً عن الناس وشؤونهم مع حكامهم، واستغرقت في مسائلها النفسية والقلبية، تبحث عن عيوبها، وتلتمس الطرق الكفيلة بتصحيحها، وهذه الطائفة لم تصبح أداة في أيدي الحكام لتوجه الناس لصلاحهم، وتقاهم، ومدى اهتمامهم بدين اللَّه، أو حنوه ‏عليهم.

هذه الطائفة سارت في طريق وسط بين هذه الطرق، فهي لم تسلّ سيفاً، بل رفضت هذه الطريق بشدة، وحاربتها، وعابت على أهلها هذا المسلك، ولم تحمل سلاح اللسان، وتصعد المنابر تدافع عن الأمراء، ‏وتحنو عليهم، بل اتبعت هذه الطائفة طريقاً وسطاً، حيث ذهبت تهتم بعامة المسلمين، تعلمهم أمور دينهم ودنياهم، وتبث فيهم العزائم للجهاد، وتأمرهم بالمعروف، ‏وتنهاهم عن المنكر، وإذا رأت منكراً من أي كان، فإنها تشير إليه بالرفق، والتسديد إلى الصواب بصدق، فهي لا تريد التشهير، ولا تريد إعلان الحرب، ولا تريد انغماس الناس حكاماً ومحكومين في المنكرات؛ لذلك  نجد أعلامها يبتعدون عن الأمراء والخلفاء، وإن وجدوا منكراً فاشياً بين صفوف طبقات أهل السلطة، سددوهم إلى طريق الصواب، ولتكن النتيجة بعد ذلك ما تكون.

هذه الطوائف التي ذكرتها كلها تدل على أن هذا الدين ما يزال يُظهر لنا في كل عصر من يقوّم هذه الأمة ويقوم بها.

المشكلة التي سببت إشكالاً كبيراً، وخطأ فاحشاً عن المعاصرين أنهم لم يدركوا الفرق بين سلاطين المسلمين الأوائل، الذين كان منهم الصالحون، ومنعم غير ذلك، ومع ذلك جميعهم كانوا من المسلمين، وكانوا لا يعرفون غير الإسلام، بل كانوا حرباً على من أتى بالإسلام خرقاً، أو انحرافاً، أو اتجاهاً بعيداً عن طريق هذه الأمة، ولذلك كانوا، مع ما فيهم من أخطاء، يلاحثون العقائد الفاسدة، ويؤيدون العلماء الذين يتصدّون للملاحدة أو الشعوبيين، بينما نحن في هذه الإيام، تجد أن السلاطين كثيرً منهم هم الشعوبيون، أو هم الملاحدة، أو هم الذين يتبنون الضلال والحرب على هذا الدين، ثم يأتي علماء السلاطين ينافحون ويدافعون عن هؤلاء السلاطين، محتجين بعلماء السلاطين في القديم، وأنهم يخافون الفتنة، ودرءاً للفتنة، هم يتبنون الدفاع عن السلاطين، حتى لا تكون فتنة، والذي يساعدهم أن الناس لجهلهم بالمفاهيم اللغوية للألفاظ العربية، فيظنون أن كلمة فتنة الواردة في القرآن معناها الخلافات بين الشعوب وتناحرها على الأفكار، وأن جمع الكلمة هو الأصل بين الناس، ولننظر ما معنى كلمة الفتنة في الآيات التي وردت فيها:

الفتنة:

أصل الفَتْن: إدخال الذّهب النار لتظهر جودته من رداءته، واستعمل في إدخال الإنسان النار، فقال تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّار يُفْتَنُونَ [الذاريات/ 13]، وجعلت الفتنة كالبلاء في أنهما يستعملان فيما يدفع إليه الإنسان من شدّة ورخاء، وهما في الشّدّة أظهر معنى وأكثر استعمالاً، وقد قال فيهما: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بالشَّرّ وَالْخَيْر فتْنَةً﴾، والفتنة هي الشرك كما في قوله تعالى: ﴿وَالْفتْنَةُ أَشَدُّ منَ الْقَتْل﴾ [البقرة/ 191] ، ﴿وَقاتلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فتْنَةٌ﴾ [البقرة/ 193]، ﴿وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتنُوكَ﴾ [المائدة/ 49]  أي يخرجونك من دينك، ﴿وَإنْ كادُوا لَيَفْتنُونَكَ﴾ [الإسراء/ 73]، أي: يوقعونك في بليّة وشدّة في صرفهم إيّاك عمّا أوحي إليك، والفتنة اعتبارًا بأحوال الناس في تزيّنهم، وقوله: ﴿الم أَحَسبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت/ 1- 2] ، أي: لا يُختبرون فيميّز خبيثهم من طيّبهم، كما قال: ﴿ليَميزَ اللَّهُ الْخَبيثَ منَ الطَّيّب﴾ [الأنفال/ 37] ، وقوله: ﴿أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ في كُلّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْن ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [التوبة/ 126] ، والإنسان بغير أمر الله يكون بضدّ ذلك، ولهذا يذّمّ الله الإنسان بأنواع الفتنة في كلّ مكان، نحو قوله: ﴿وَالْفتْنَةُ أَشَدُّ منَ الْقَتْل﴾ [البقرة/ 191] ، ﴿إنَّ الَّذينَ فَتَنُوا الْمُؤْمنينَ﴾ أي بإعادتهم إلى الشرك، ومنه قوله تعالى: ﴿ما أَنْتُمْ عَلَيْه بفاتنينَ﴾ [الصافات/ 162] ، أي: بمضلّين.

فالفتنة التي خافها الإنسان هي خروجه من الدين، فكل الطغاة خلال التاريخ، الطغاة الملاحدة هدفهم إخراج الناس من دين الله إلى أديان هم يدعون إليها، وهو ما كان يفعله فرعون مع الناس، ومن خشيته على هذا الأمر قلبه على موسى فقال عنه مخاطباً ملأه: ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ منْ قَوْم فرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ ليُفْسدُوا في الْأَرْض وَيَذَرَكَ وَآلهَتَكَ قَالَ سَنُقَتّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيي نسَاءَهُمْ وَإنَّا فَوْقَهُمْ قَاهرُونَ﴾[الأعراف: 127].

ولذلك كان هدفه هو فتنة الناس عن دينهم، أي إعادتهم إلى الشرك ﴿فَمَا آمَنَ لمُوسَى إلَّا ذُرّيَّةٌ منْ قَوْمه عَلَى خَوْفٍ منْ فرْعَوْنَ وَمَلَئهمْ أَنْ يَفْتنَهُمْ وَإنَّ فرْعَوْنَ لَعَالٍ في الْأَرْض وَإنَّهُ لَمنَ الْمُسْرفينَ﴾[يونس: 83]، ولذلك قال الله تعالى: ﴿وَأَضَلَّ فرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾ [طه: 79]، فالفتنة هي الإخراج من الدين.

وأما باقي معاني مفردة الفتنة: البلية، والكبر والاستكبار، والقتل، والصد والاختبار، والهرج والمرج بين الناس (الفوضى)، وغيرها من المعاني، فهذه كلها وغيرها يستعملها هؤلاء علماء السلاطين في هذه الأيام، ويتكلمون عن خوفهم من الفتنة في هذه المعاني، وكأن إخراج الناس من دينهم، والحرب على المسلمين لدينهم ليس من الفتنة، بل يصمت عنها هؤلاء العلماء خوفاً من قتل الناس من قبل الطغاة والمستبدين، مع أن الآيات الأولى التي  أوردتها تشير إلى أن هذه الفتنة أشد من قتل الناس، لأن قتل الدين يوصل الناس إلى جهنم، بينما قتلهم يوصلهم شهداء إلى الجنة، ولا أدري هؤلاء العلماء علماء الدين، أم هم فعلاً علماء مختصون بدين السلطان، ويدعون إليه، سواء كان مضادًا لدين الله، أو محارباً له، فهم يدافعون عنه، خوفاً على حياة الناس [كما زعموا]، ليبقوا الناس أحياء، ولا مشكلة بعد ذلك عاش الناس كفرة أو ضالين تحت سيف القهر والظلم الذي يفرض الإلحاد أو الضلال أو الانحراف، والحمد للَّه على كل حال.

([1]) تفسير الزمخشري، (1/ 524).

([2]) تفسير البغوي (2/ 239).

([3]) صحيح مسلم (1/ 69)، (49).

([4]) إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 537).

([5]) التحبير لإيضاح معاني التيسير (1/ 345).

([6]) التوضيح لشرح الجامع الصحيح (32/ 368).

([7]) التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 39).

([8]) شرح الزرقاني على الموطأ (4/ 640).

([9]) شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن (8/ 2581).

([10]) فتح الباري لابن حجر (13/ 53).

([11]) فتح الباري لابن حجر (13/ 7).

([12]) نيل الأوطار (7/ 208).

([13]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/ 573).

([14]) أخرجه الطبراني، السلسلة الصحيحة:457

([15]) أخرجه ابن حبان، كما في السلسلة الصحيحة:360.

([16]) صحيح سنن الترمذي:1843.

([17]) فصل الكلام في مسألة الخروج على الإمام (ص 4).

([18]) البداية والنهاية (9/ 74).

([19]) سنن أبي داود، رقم الحديث (433)، وصححه لغيره محقق سنن أبي داود، والطبقات الكبرى لابن سعد (7/ 402).

([20]) صحيح مسلم، رقم الحديث (534).

([21]) البداية والنهاية (8/ 223).

([22]) معرفة الصحابة لأبي نعيم (4/ 2027)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (46/ 460)، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر (4/ 580)، وصححه.

([23]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 194).

([24]) الإصابة في تمييز الصحابة (1/ 202).

([25]) انظر: تهذيب التهذيب (1/ 338).

([26]) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة (1/ 227).

([27]) تاريخ الإسلام (4/ 186)، والبداية والنهاية (8/ 56).

([28]) البداية والنهاية (9/ 135).

([29]) البداية والنهاية (9/ 220).

([30]) الطبقات الكبرى لابن سعد (7/ 163، والكنى والأسماء للدولابي (3/ 1035).

([31]) الطبقات الكبرى (7/ 164)، تاريخ دمشق لابن عساكر (12/ 178).

([32]) الطبقات الكبرى (7/ 164)، والشريعة للآجري (1/ 374).

([33]) الطبقات الكبرى (7/ 121).

([34]) الطبقات الكبرى (7/ 176).

([35]) المجالسة وجواهر العلم (2/ 305)، وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 151)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (45/ 377).

([36]) انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي (1/ 154).

([37]) صحيح البخاري، حديث رقم (3606).

([38]) صحيح مسلم، رقم الحديث (1847).

([39]) مسند أحمد، حديث رقم (23282)، وغيره، وهو حديث حسن.

([40]) مسند أبي داود الطيالسي (1/ 355).

([41]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 274).

([42]) مصنف عبد الرزاق (11/ 316)، وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 277)، شعب الإيمان (12/ 33).

([43]) مصنف ابن أبي شيبة (7/ 481).

([44]) الطبقات الكبرى (6/ 39)، والإصابة في تمييز الصحابة (2/ 236).

([45]) المستدرك على الصحيحين للحاكم (2/ 170) وصححه ووافقه الذهبي، ومسند أبي يعلى الموصلي (2/ 246).

([46]) البداية والنهاية (8/ 72).

([47]) تاريخ دمشق (20/ 287)، والوافي بالوفيات (15/ 91)، والبداية والنهاية (8/ 72).

([48]) الطبقات الكبرى (3/ 143)، المستدرك على الصحيحين للحاكم (4/ 491)، ووافقه الذهبي على التصحيح، والمعجم الكبير (1/ 144)، وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 94)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (7/ 299): «رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ».

([49]) الطبقات الكبرى (3/ 143).

([51]) انظر: المعارف (1/ 174)، التاريخ الكبير للبخاري (5/ 260)، رجال صحيح مسلم (1/ 401) الطبقات لخليفة بن خياط (ص: 48)، الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/ 824)، أسد الغابة (3/ 362)، تهذيب الأسماء واللغات (1/ 295)، الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 275)

([52]) التاريخ الكبير للبخاري (5/ 39)، الثقات لابن حبان (3/ 247).

([53]) انظر: الطبقات الكبرى ط دار صادر (3/ 80).

([54]) انظر: المعارف (1/ 185)، نسب قريش (ص: 348).

([55]) فتح الباري لابن حجر (13/ 47)

([56]) صحيح مسلم (2545).

([57]) الطبقات الكبرى (4/ 149).

([58]) مشاهير علماء الأمصار (ص: 238)، المعارف (1/ 487)، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 37)، تاريخ الإسلام ت تدمري (9/ 460) .

([59]) الطبقات الكبرى ط دار صادر (7/ 264).

([60]) المحبر (ص: 278)، الطبقات الكبرى (3/ 150، 160)، الاستيعاب في معرفة الأصحاب (3/ 993)الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 199).

([61]) الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 199).

([62]) سنن أبي داود (4/ 216).

([63]) انظر: مصنف ابن أبي شيبة (7/ 462)، المصباح المضي في كتاب النبي الأمي ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي (1/ 166).

([64]) انظر: التاريخ الكبير للبخاري (1/ 11), سنن ابن ماجه (2/ 1310)، رقم (3962)، مشاهير علماء الأمصار (ص: 44).

([65]) مسند أحمد (29/ 502).

([66]) الإصابة في تمييز الصحابة (6/ 28).

([67]) الطبقات الكبرى (3/ 445).

([68]) التاريخ وأسماء المحدثين وكناهم (ص: 161)، الإصابة في تمييز الصحابة (6/ 206).

([69]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 204).

([70]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 208).

([71]) الطبقات الكبرى لابن سعد (4/ 105)

([72]) سير أعلام النبلاء (3/ 336)، والحديث في صحيح البخاري (4323)، ومسلم (2498).

([73]) سير أعلام النبلاء (2/ 381).

([74]) الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 181).

([75]) انظر: تهذيب التهذيب (10/ 479)، البداية والنهاية (11/ 249) .

([76]) تهذيب الكمال (30/ 9)، مشاهير علماء الأمصار لابن حبان (ص: 67).

([77]) صحيح البخاري (6875)، ومسلم (2888).

([78]) الطبقات الكبرى (7/ 260)، الطبقات لخليفة بن خياط (ص: 375)، الإصابة في تمييز الصحابة (6/ 544)، طبقات علماء الحديث (1/ 228).

([79]) المعارف (1/ 441)، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 21).

([80]) البداية والنهاية (8/ 80).

([81]) المعارف (1/ 423)، الشفا بتعريف حقوق المصطفى - محذوف الأسانيد (1/ 494)، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (10/ 2)، تهذيب التهذيب (3/ 183) .

([82]) الطبقات الكبرى لابن سعد (7/ 97).

([83]) مشاهير علماء الأمصار (ص: 87)، الوافي بالوفيات (16/ 206)، الإصابة في تمييز الصحابة (1/ 333).

([84]) البداية والنهاية (8/ 327).

([85]) البداية والنهاية  (11/ 345).

([86]) البداية والنهاية  (12/ 172).

([87]) الإصابة في تمييز الصحابة (1/ 233).

([88]) تاريخ دمشق لابن عساكر (41/ 260).

([89]) الطبقات الكبرى (3/ 485)، الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/ 425)، الوافي بالوفيات (13/ 151)، الإصابة في تمييز الصحابة (2/ 200) .

([90]) المستدرك (3/ 457)، وأورد الحاكم بعدها روايات كثيرة متعددة عقب هذه الرواية بين مختصرة، ومسهبة من 5929- 5934، وعلق الإمام الذهبي في آخرها بقوله: «هَذِهِ الأَسَانِيدَ إِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا صَارَتْ حَدِيثًا مَشْهُورًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ» المستدرك (3/ 459).

([91]) الإصابة في تمييز الصحابة (5/ 27).

([92]) مصنف عبد الرزاق (5/ 279).

([93]) المعجم الكبير للطبراني (4/ 118)، وانظر: مسند الطيالسي (ص: 174)، رقم 1241، وصحيح ابن حبان (11/ 9)، رقم 4711، وهي رواية صحيحة.

([94]) جامع المسانيد والسنن لابن كثير (2/ 264).

([95]) انظر الخبر في: تاريخ الطبري 2/ 47- 48.

([96]) الإصابة في تمييز الصحابة (1/ 663).

([97]) التبيين في أنساب القرشيين ص 126.

([98]) الإصابة في تمييز الصحابة (2/ 65).

([99]) الإصابة في تمييز الصحابة (2/ 64).

([100]) البداية والنهاية (8/ 46).

([101]) البداية والنهاية (9/ 332).

([102]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (5/ 170).

([103]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (5/ 172).

([104]) البداية والنهاية (8/ 91).

([105]) المستدرك على الصحيحين للحاكم (2/ 94)، وصححه ووافقه الذهبي.

([106]) الإصابة في تمييز الصحابة (5/ 33).

([107]) البداية والنهاية (8/ 34).

([108]) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 296).

([109]) الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 311).

([110]) البداية والنهاية (8/ 52).

([111]) الطبقات الكبرى - متمم الصحابة (2/ 5).

([112]) الاستيعاب في معرفة الأصحاب (3/ 881).

([113]) تهذيب الأسماء واللغات للإمام النووي (1/ 248).

([114]) البداية والنهاية (9/ 42).

([115]) المعارف (1/ 321).

([116]) الإصابة في تمييز الصحابة (5/ 14).

([117]) البداية والنهاية ط إحياء التراث (8/ 95).

([118]) الطبقات الكبرى (5/ 49).

([119]) الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 156).

([120]) الطبقات الكبرى (4/ 182).

([121]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 309).

([122]) الطبقات الكبرى (4/ 149).

([123]) الطبقات الكبرى (4/ 184).

([124]) البداية والنهاية (9/ 8).

([125]) الاستيعاب في معرفة الأصحاب (3/ 1262).

([126]) الإصابة في تمييز الصحابة (5/ 283).

([127]) تاريخ خليفة بن خياط (ص: 218).

([128]) تاريخ أبي زرعة الدمشقي (ص: 199).

([129]) التاريخ الأوسط (1/ 119).

([130]) انظر: مشاهير علماء الأمصار (ص: 103).

([131]) تاريخ الإسلام (6/ 181).

([132]) البداية والنهاية (9/ 48).

([133]) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 88).

([134]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 175).

([135]) انظر: المحبر (ص: 379)، والمعارف (1/ 442).

([136]) الطبقات الكبرى (7/ 193).

([137]) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 84).

([138]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 268).

([139]) المعارف (1/ 432).

([140]) الطبقات الكبرى (6/ 76).

([141]) تاريخ دمشق لابن عساكر (57/ 398).

([142]) المعارف (1/ 436).

([143]) الطبقات الكبرى (7/ 143).

([144]) تاريخ دمشق لابن عساكر (58/ 297).

([145]) الإصابة في تمييز الصحابة (6/ 116).

([146]) البداية والنهاية (8/ 66).

([147]) المعارف (1/ 349).

([148]) المحبر (ص: 46).

([149]) الإصابة في تمييز الصحابة (6/ 120).

([150]) تهذيب الأسماء واللغات (2/ 101).

([151]) معرفة الصحابة لأبي نعيم (5/ 2496).

([152]) البداية والنهاية (8/ 138).

([153]) البداية والنهاية (8/ 53).

([154]) المعارف (1/ 295).

([155]) المحبر (ص: 261).

([156]) تاريخ دمشق (60/ 15).

([157]) الإصابة في تمييز الصحابة (6/ 156).

([158]) الثقات لابن حبان (3/ 284).

([159]) الإصابة في تمييز الصحابة (7/ 352).

([160]) البداية والنهاية (8/ 121).

([161]) فتح الباري لابن حجر (13/ 10).

([162]) الطبقات الكبرى ط دار صادر (7/ 370).

([163]) البداية والنهاية (10/ 73).

([164]) البداية والنهاية (9/ 105).

([165]) صحيح مسلم (660).

([166]) الإصابة في تمييز الصحابة (1/ 276).

([167]) البداية والنهاية (9/ 153).

([168]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/ 135).

([169]) البداية والنهاية (10/ 123).

([170]) غاية النهاية في طبقات القراء (ص: 79).

([171]) تهذيب الكمال في أسماء الرجال (33/ 133).

([172]) تهذيب التهذيب (38/ 35).

([173])حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (8/ 303).

([174]) البداية والنهاية (10/ 51).

([175]) العبر في خبر من غبر (1/ 65).

([176]) مشاهير علماء الأمصار لابن حبان (ص: 30).

([177]) الإصابة في تمييز الصحابة (1/ 547).

([178]) الوافي بالوفيات (11/ 30).

([179]) تهذيب الكمال (4/ 481).

([180]) الإصابة في تمييز الصحابة (1/ 556).

([181]) انظر: أسد الغابة ط الفكر (1/ 413)، العقد الثمين فى تاريخ البلد الأمين (3/ 310).

([182]) الإصابة في تمييز الصحابة (1/ 689).

([183]) البداية والنهاية (8/ 51).

([184]) الثقات لابن حبان (3/ 84).

([185]) الطبقات الكبرى (7/ 28).

([186]) الإصابة في تمييز الصحابة (2/ 93).

([187]) الوافي بالوفيات (13/ 279).

([188]) المحبر (ص: 397).

([189]) البداية والنهاية (9/ 80).

([190]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 156)

([191]) الوافي بالوفيات (11/ 149).

([192]) الإصابة في تمييز الصحابة (7/ 105).

([193]) الطبقات الكبرى (4/ 226). ومن المشهور في الحديث النبوي أن أبا ذر مُنع من تسلّم الإمارة، ومن الخروج على الخلفاء، وطلب منه قولة الحق، وعدم الخوف في اللَّه للومة لائم، وقال الحق، وأطاع في كل أمر.

([194]) البداية والنهاية (8/ 67).

([195]) الإصابة في تمييز الصحابة (2/ 381).

([196]) انظر: البداية والنهاية (9/ 166)، تاريخ الإسلام (6/ 69)، الوافي بالوفيات (15/ 8) الإصابة في تمييز الصحابة (2/ 539).

([197]) المعارف (1/ 402).

([198]) الطبقات الكبرى (6/ 124).

([199]) الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 82).

([200]) المعارف (1/ 268).

([201]) البداية والنهاية (8/ 176).

([202]) سير أعلام النبلاء (3/ 294).

([203]) تاريخ خليفة بن خياط (ص: 239)، وانظر: الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 66).

([204]) الوافي بالوفيات (15/ 93).

([205]) الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 66).

([206]) البداية والنهاية (8/ 283)، وانظر: مصنف عبد الرزاق (3/ 285).

([207]) انظر: الثقات لابن حبان (4/ 273).

([208]) البداية والنهاية (9/ 73)، وما بعدها.

([209]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 172)، وما بعدها.

([210]) الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 122).

([211]) العبر في خبر من غبر (1/ 99).

([212]) البداية والنهاية (9/ 262)، وما بعدها.

([213]) مشاهير علماء الأمصار لابن حبان (ص: 71).

([214]) الوافي بالوفيات (16/ 340).

([215]) الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 494).

([216]) الطبقات الكبرى (7/ 31).

([217]) المعارف (1/ 255).

([218]) الطبقات الكبرى (3/ 546).

([219]) الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 507)

([220]) الإصابة في تمييز الصحابة (5/ 63).

([221]) مشاهير علماء الأمصار لابن حبان (ص: 37).

([222]) العبر في خبر من غبر (1/ 83).

([223]) الوافي بالوفيات (17/ 198).

([224]) الطبقات الكبرى لابن سعد (4/ 150).

([225]) الطبقات الكبرى (4/ 150)، وما بعدها.

([226]) الاستيعاب في معرفة الأصحاب (3/ 952).

([227]) البداية والنهاية (9/ 140).

([228]) الطبقات الكبرى (4/ 159).

([229]) صحيح البخاري، رقم الحديث (4108).

([230]) صحيح البخاري، رقم الحديث (7178).

([231]) فتح الباري لابن حجر (7/ 404).

([232]) فتح الباري لابن حجر (7/ 404).

([233]) مسند أحمد (11/ 120)، رقم الحديث (6561)، وصححه لغيره محققو المسند.

([234]) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة (7/ 65).

([235]) مشاهير علماء الأمصار (ص: 117).

([236]) الوافي بالوفيات (17/ 322).

([237]) البداية والنهاية (9/ 210).

([238]) الطبقات الكبرى (7/ 447).

([239]) الثقات لابن حبان (3/ 208).

([240]) الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 201).

([241]) مشاهير علماء الأمصار لابن حبان (ص: 67).

([242]) طبقات الفقهاء (ص: 51).

([243]) الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 207).

([244]) الطبقات الكبرى (7/ 13).

([245]) مسند أحمد (34/ 255)، رقم الحديث (20659)، المستدرك على الصحيحين للحاكم (3/ 500)، المعجم الكبير (3/ 211). وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه محققو المسند.

([246]) الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 493).

([247]) البداية والنهاية (9/ 91).

([248]) المستدرك على الصحيحين للحاكم (3/ 329)، وصححه ووافقه الذهبي.

([249]) ورواية الإمام أحمد :: مسند أحمد (24/ 48)، برقم 15333، وصححه لغيره محققو المسند.

([250]) الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 630).

([251]) انظر: مشاهير علماء الأمصار (ص: 61)، وتهذيب الأسماء واللغات (2/ 61)

([252]) البداية والنهاية (8/ 107)، وما بعدها.

([253]) العبر في خبر من غبر (1/ 57).

([254]) صحيح مسلم، رقم الحديث (864)، وقال النووي :: «هذا الكلام يتضمن إنكار المنكر، والإنكار على ولاة الأمور إذا خالفوا السنة». شرح صحيح مسلم (6/ 401).

([255]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 125)، وما بعدها.

([256]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (8/ 1525)، وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 1305)، والحديث ضعيف رواه أحمد (29/ 505)، برقم 17985، وأبو داود، رقم الحديث (4784).

([257]) انظر: مشاهير علماء الأمصار (ص: 38)، الإصابة في تمييز الصحابة (6/ 146).

([258]) صحيح مسلم، رقم الحديث (142).

([259]) البداية والنهاية (8/ 111).

([260]) الوافي بالوفيات (18/ 91).

([261]) البداية والنهاية (8/ 116)، وما بعدها.

وسوم: العدد 879