ليلة المعراج الأخيرة

دفع (أحمد الرشيد) بساقيه غطاء الصوف من فوقه. كأنما أزاح ثقلاً كان ينيخ تحته، ويضغط عليه، فتختلج عظامه بعضها ببعض، وتختنق أنفاسه، أسرع إلى خارج الكهف يبحث عن رجل أشعث الشعر، تعفر وجهه بالتراب، رآه يسبح في الفضاء، صاعداً نحو الأعالي، وخلفه يسترسل قماش من الحرير الأبيض، تناثرت فوقه بقع حمراء لدم أخضر لم يجف.

لحظة رآه في المنام، هاله المنظر، وتلعثم لسانه. لم يقل شيئاً، جفت الكلمات في حلقه، واختنقت في الحنجرة آهةٌ خارجة من الأعماق. فالذي يراه، يخرج من الأرض الحرام، وعيون الشباب تشخص نحوه ذاهلة، من داخل محاجرة جامدة، وجفان تؤطرها هالات تضرب إلى السمرة، ترسل صورة التعب المضني، ترى من يكون وما هذا الذي يوصل الجسد الطائر بأرض العرقوب! وقبل أن يختفي ملتحماً بالغيوم، ظلَّ يحوم، داخل سحابة من النور، تمتزج معه بلا حدود فاصلة بينها وبين الجسد، فتترك فوق الوجوه التماعات تخبو وترتفع، تزرع في العيون أبجدية القلق.

لم يبصر أحداً في الخارج، ولكن صرخة الرجل كانت ما تزال ترن في أذنيه، ممتزجةً بصليل سيوفٍ، وبالصهيل، وبوقع حوافر خيول تطارد المدى. أرهف السمع ثانيةً. لم تخذله أحاسيسه.

كأنما الصرخة تستفزه، تزلزل قلاقه الداخلية والخارجية، ولربما أحس (الرشيد) لحظتها بضرورة أن يفعل شيئاً. أن يصرخ وأن يندفع بين الكهوف لإيقاظ شباب المعسكر. صحيحٌ أنَّ الأفق أمامه ينغلق على عتمة كثيفة، لطمت عينيه بقسوة لحظة خروجه، إلا أن الصرخة لم تنقطع، ظلت ترن في أذنيه بعد أن أصبح خارج الكهف، على الرغم من أنه لم يبصر أحداً، ولا قماشاً أبيض يسترسل في الفضاء. صرخة من تكون؟ ومن أين لها هذا الصدى الذي يغتال صمت الكهوف؟!

لم يكن أمامه غير الاندفاع في الخندق إلى المرصد.. يريد أنيساً ينتزعه من هواجس مسمارية تثقب رأسه. عشرات الصور البشعة. أخذ يخوض في المياه التي خلفتها أمطار النهار، متكئاً على حافة الخندق الرطبة. وقبل أن يعرف الخفير بنفسه، أو يمنحه فرصة السؤال عن كلمة (سر الليل)، بادره بسؤال يتراقص فوق لسانه المرتعش:

- هل تسمع ما أسمعه؟

وأجابه الخفير بكلمات متعبة، ناعسة:

- لا شيء سوى نقيق الضفادع، وصفير الريح.

وأكمل (حمد الرشيد) وهو يدس نفسه في المرصد خشيةً من قنبلة طائشة:

- سمعت صراخاً، كان لرجل رأيته يخرج من الأرض الحرام، متدثراً بالأبيض الذي تلون بالأحمر الدموي. هل رأيته أو سمعت صراخه !

علَّق (عبد الكريم) بكلمات تفوح منها رائحة السخرية:

- أنت تهذي، عد إلى الكهف وحاول أن تنام.

فكر (حمد الرشيد) مع نفسه. هل هو يهذي حقاً؟ ربما عبد الكريم يتحامل عليه. ولكن كيف يمكن له أن يكذب عينيه، وتلك الهالة من النور، ثم ماذا عن ذلك الأبيض الذي يسترسل متماوجاً والأرض الحرام، وعيون الشباب التي رآها تشخص نحوه، ثم ماذا عن تلك الصرخة التي توقظ الموتى وتخرجهم من قبورهم! لا.. لم يكن يهذي، وكل ما في الأمر أنَّ الخفر لا يريد مواجهة الحقيقة.

- أيُّ حقيقة؟ سأله (عبد الكريم) مستنكراً.

- حقيقة أنني سمعت ورأيت.

وأعطاه (عبد الكريم) ظهره، بلا اكتراث، فربت (الرشيد) على كتفه:

- أنا لا أكذب، ولا أهذي، أقسم إنني رأيته وسمعته. وفي محاولة للخروج من المأزق والتحرر من تخرصات الرشيد سأله (عبد الكريم):

- وهل قال شيئاً؟..

- لا..

- هل كان أخرس؟

- لا..

- هل تتذكر ملامحه؟

- كأنه واحدٌ منا، له نفس ملامحنا..

ووجد (عبد الكريم) نفسه يصدق الحكاية:

- الشباب الذين رأيتهم ينظرون إليه، هل كانوا منا؟

- نعم .. إنهم شباب المعسكر.

- شيء فظيع! رجلٌ يخرج من الأرض الحرام، يسترسل خلفه نور، وحوله نور، ثم يحوم فوقنا، ويختفي، أين اختفى يا (حمد)؟..

- لا أعرف تماماً.. ولكنه التحم بالغيوم..

قد يكون عاد إلى الأرض الحرام.. وأنت من خوفك لم تشاهده!..

- ربما! لست أدري.

قلَّب الخفير الأمر مع نفسه، وغرق مدة ليست بالقصيرة في لُجة التفكير.. ما يوقله (الرشيد) بين الحقيقة والحلم، وأغلب الظن أنه لا يكذب، ثم لماذا يلفق القصة؟ وما غرضه من وراء هذا كله؟!

تناول المنظار الليلي وبدأ يمسح الأرض الحرام بإعياء لا يدركه أحد سواه.. لا صوت صفير الريح، ونقيق الضفادع، بل على غير ما هو مألوف، فإنَّ الجبهة تبدو هادئة. أمر مثير جعل (عبد الكريم) يسحب أنفاسه مثنى وثلاث ورباع. رائحة عطرة تهب من الأرض الحرام، تتسلل من ثقب المرصد في مجرى يتصل بمدخله الخلفي. رائحة تخترق منخريه، فتملأ الرئتين بعبق لم يألفه في ربيع براري قريته (قباطية) نفسها. رائحة طيبة، وعبق من ياسمين ونرجس وقرنفل، تنعش الصدر. لم يكذب منخريه، ظلَّ يجر أنفاساً متواصلة.. يكدسها في  أعماق رئتيه، وهو يطالب (الرشيد) بأن يأخذ نفساً، فيسحب (الرشيد) النفس.

- خذ لك نفساً ثانياً..

ويسحب (الرشيد) النفس الثاني:

- خذ ثالثاً ورابعاً وخامساً إلى أن ترتوي..

ويتوقف (الرشيد)، إذ لا شيء مما يتصوره (عبد الكريم).

- لكنني لا أشم أية رائحة !

- إنها رائحةٌ حقيقة.. تأتي من هناك، أشمها.. من الأرض الحرام، رائحة طيبة، كيف لا تشمها، خذ لك نفساً. يحاول (الرشيد) اختبار صحة أحاسيس (عبد الكريم) ثانيةً  بسحب نفساً ثانياً، وثالثاً، وعاشراً، يقول:

- لعلك تتذكر القرية فتزكم أنفك روائحها..

- بل أنا هنا، تشدني إليها احتمالات الأرض الحرام، فأتجول فيها بنظراتي.. هل وصلتك الرائحة؟..

- وماذا في الأرض الحرام سوى ألغام وشظايا صدئة؟

- ربما تتحول إلى ورود..

- أنت رجل رومانسي.. حالم..

- وقد تأتي الرائحة من الشظايا الصدئة.

- لا يحمل الصدأ غير رائحة العفونة.

- ثم يسأله الرشيد بجدية:

- هل تعتقد أنها رائحة الشهداء الذين في الأرض الحرام، تأتي إليك؟!

- أظن ذلك، قال (عبد الكريم)..

- ولكن، لماذا لا أشم أنا الآخر الروائح التي تتحدث عنها؟

أننت وحدك تشم..

- وأنت يا (حمد الرشيد).. ألم ترَ ما رأيته وحدك! وحدك أيضاً سمعت صرخة الرجل التي لم يسمعها أحد سواك..

فتح (الرشيد) أذنيه على اتساعهما.. حملق بعينين متعبتين..

فالذي يقوله (عبد الكريم) لا غبار عليه.. صمت الاثنان.. أحدهما يفكر بكلام الآخر، ويقلبه، في بحث عن تصريف يقنع به نفسه..

انتشرت قصة الرجل الذي يطلع من الأرض الحرام صاعداً نحو الأعالي بين شباب المعسكر.. ثيابه نور، وحوله نور، أشعث الشعر، وقد تعفَّر وجهه بالتراب.. افترستهم الحيرة، و(الرشيد) يُسهب في الحديث عن الصرخة التي سمعها.. الحيرة التي تخندقوا خلفها بعض الوقت سرعان ما تطايرت.. ثمة من استنكر على (الرشيد) هواجسه، بينما ارتفع صوت (عبد الله الحاج أحمد) يتلو سورة الفاتحة، ثم قال:

- يقولون: إن روح الشهيد تبقى تحوم إلى أن يأتي من يأخذ بثأرها..

كأنما حلت لحظتها بالأجساد قشعريرةٌ حادةٌ، امتدت إلى العظم، ولفحت الوجوه، وأربكت الشفاه.. وما إن حدثهم (عبد الكريم) عن الرائحة التي شمها، حتى انعقدت الألسنة بين الأفواه وأخذ المجتمعون ينسلون الواحد تلو الآخر، خافضي الرؤوس، شاردي الأذهان، تنتزع الحيرة من عيونهم بريقها..

استقر في يقين (حمد الرشيد) أن الأرض الحرام يقطنها الشهداء.. (عبد الله الحاج أحمد) أثار عنده هذا الإحساس، بل إنه في تفسيره للأمر، أنقذه من احتمالات اتهامه بالجنون، من قبل الآخرين، وحتى من قبل نفسه، وهو يرى الشباب يسخرون من حكايته، ويتهمونه بالتحليق في خيالات لا تدهم سوى المصابين بالأمراض النفسية. لذا فإنه لاحقاً، كلما سمع انفجار قنبلة، أو رشقة رصاصٍ، أصبح يصرخ: لا.. ذلك أنه مع نفسه، أصبح يعتقد بضرورة أن يقيم سداً من الفولاذ، يُسيج به جمهورية أولئك الذين زرعتهم الحرب بين قوسين متقاطعين من النار والرصاص، التي هي جمهورية الشهداء التي بدا مقتنعاً بوجودها في النهاية..

سنتان متصلتان من الصراخ، ظلت الأرض فيهما تعلو إلى السماء فوق جناحي رجل طائر (حمد الرشيد) يراه في كل ليلة، وكان يجهد نفسه لاكتشاف ملامحه، ورؤية عينيه، وأنفه، ووجنتيه..

لم يستطع معرفة ذلك تماماً، ولكنَّ الرجل ظلَّ يظهر له بصورة جليلة، تغيب الملامح فيها خلف النور، أو هي تسبح فيه.

وفي الوقت الذي لم ينقطع فيه صدى صراخ الرجل في أذني (الرشيد)، فإنَّ عبد الكريم لم يتوقف عن ممارسته متعته الليلية، بتكديس الروائح الطيبة في رئتيه الواسعتين.

ليلة.. بعد سبعمئة ليلة.. (حمد الرشيد) عند كتف الساتر الأيسر، وسط مجموعة من الشباب، و(عبد الكريم) يحتل كتف الساتر الأيمن مع آخرين. مثل طائر الخطاف جاء آمر المجموعة ومضى. أطلق (الرشيد) زغرودة، فزغرد الساتر كله.. شيء عظيم سيحدث، وستنكشف العتمة عن نور يوصل الأرض بالسماء.. لم يقطع (الرشيد) خيط الأمل برؤية النور يحوم في الأفق الممتد، بينما روائح العطر ترطب منخري (عبد الكريم) الثنائي العجيب يحيل ليل الساتر إلى ضحكة طويلة، والساتر يتقلب على سبعمئة ليلةٍ من الانتظار الرتيب. سبعمئة بسبعة آلاف.. قضاها القابعون على مشارف (النبطية) بانتظار الالتحام، تدغدغهم صورة الأزقة التي تركوها خلفهم في المدينة.

سأل (حمد الرشيد) الذي يلاصقه في الخندق:

- هل ترى شيئاً؟

فأجابه بزفرة حادة:

- وماذا هناك سوى امتدادات خرساء تبدو خالية من البشر؟.. وعقَّب (الرشيد):

- سيحدث الليلة شيء..

بيأس قال (عبد الرزاق): - لست متفائلاً مثلك، سنتان ونحن ننتظر، آه لو كان الأمر بيدي..

ربت (الرشيد) على كتف (عبد الرزاق)، كأنما ليخفف عنه، ثم ارتفعت صرخته وهو يحدق إلى المدى الذي انفتح أمامهما أحمر جهنمياً..

- هل ترى؟..

هي المدافع أخيراً فتحت أفواهها، وبصقت دفعة واحدة..

ظلت تبصق وتبصق، فتحول ليل الجنوب إلى نهار، شموسه قنابل يُلاحق بعضها بعضاً، وتنفجر. واعتقد (الرشيد) أنَّ خمسمئة مدفع تتكلم دفعة واحدة، لا، بل ألف مدفع، وربما ألفان.. مظلة من القذائف السباحة في الفضاء تعبر من فوقهما.. تمضي إلى الجنوب القريب، وإلى الجنوب البعيد، خلف خط الحدود، وترعد السماء بالضجيج، فيزغرد، ويزغرد الساتر كله. شيء عظيم سيحدث، ولحظتها لم يكن أمام (الرشيد)، و(عبد الكريم)، و(عبد الرزاق)، سوى الاندفاع، مثل خيول جامحة مزَّقت أربطتها ومضت تسابق امتدادات البراري الواسعة.

وظلوا يندفعون، بين غيرهم، يخوضون في الوحل تارة، وبين الأشجار أخرى. ويتوقف (الرشيد) قليلاً، يسحب أنفاسه، ويبحث في السماء عن هالة من نور تمضي محمومة فوقهم.. يصيخ السمع لصرخة ظل ينتظرها.. لا صوت تستقبله أذناه غير الزغاريد، وهوسات النشامى، وأغنية (ميجانا) يرددها مقاتل يندفع بمحاذاته.. كأنما له في (النبطية)، و(العرقوب) موعدٌ مهم.

ثانيةً يتوقف (الرشيد).. للحظات، ولدقائق، فالقنابل تراجعت.. خفَّ وشيشها.. وقدر أن بعض الشباب عبروا تحصينات العدو الأمامية، ثم راح يسابق الزمن، وينافس الآخرين في الوصول إلى مجرى الأزل، حيث جنة الله بانتظار الشهيد، باحثاً في السماء عن رجلٍ طائر يحوم وسط هالة من نور، جسمه وشكله نورٌ ولكن..

كل شيء قد انتهى، فالشهيد استراح، وكذلك (الرشيد).

وسوم: العدد 763