ليلة الشيطان الأخيرة

ليلة رأس السنة الميلادية، الناس المسلوبون يحتفلون، أما أنا وزوجتي (نبيلة)، فقد اتفقنا منذ البدء، على أنها لا تعنينا، لا من قريب ولا من بعيد، وكنا قد توصلنا في حقيقة الأمر بعد نقاشٍ لم يدم طويلاً، إلى ضرورة تحرير عنقينا من رباق الآخر، الذي يريد تحويلنا إلى أغنام تثغو فرحةً وهي لا تدري أنه يقودها إلى مدية الجزار الذي ينتظرها في نهاية المرعى، أو نهاية الليلة، سيان، فالحال من بعضه كما يقال..

ودعتني نبيلة كما هو شأنها، بدماثةٍ:

- تصبح على خير...!

- وأنتِ من أهل الخير إن شاء الله!

ودعتني بعد أن استسلمت لسلطان النعاس، وليس قبل ذلك.. تدثرت بثوب فرحها الأخضر الربيعي، بعد أن أمضينا السهرة في الحديث عن اللوحة التي لم تكتمل، والحياة، والحرب، والناس وأحوالهم، ثم مضت. أيضاً كنا اتفقنا على أنَّ القبلة على الجبين، تمسح الأحزان، وتوطد العلاقة بين اثنين تحابا في الله، وتزوجا على هذا الأساس..

المسلوبون يعتقدون أنهم يحتكرون الشفافية، والحس الإنساني، أنا أقول عكس ذلك..

فالضباع التي تلتهم بعضها، والذئاب، والوحوش الأخرى، تخلو من هذه الحالة..

وها أنا ذا أمامكم، أصلي وأصوم، وأحياناً أقوم الليل، لكنني مسكونٌ بشفافية لا نظير لها. بالضبط أنا أعمل لآخرتي ولدنياني معاً.. الآخرة عندي أهم، ولكن الدنيا مهمة أيضاً، لذا ما إن غابت نبيلة، حتى بدأ عقلي يحلق بي، وهي معي! أليس جميلاً أن نقاوم المآسي بالفرح، حتى لو كان مفتعلاً! طرنا نحو سهوب بعيدة .. بعيدة جداً.. غارقة في الخضرة، والنور، والأقحوان، والشقائق الحمراء، والزنابق البرية، وطيور أبي قردان المهاجرة، والحجل، والزرازير، هي مثل حورية ناعمة، طالعة من الوعود، جميلة، متوجة على مملكتي، وأنا المهووس بها إلى حد الجنون، أركض خلفها، وأركض.. أتوقف، وتتوقف، ثم أرسم فوق الأرض، أبدل وأعدل، في التفاصيل الدقيقة، بنزق الفنان يبحث عن مصطلح جديد، ورؤية جديدة، تليق به، بأفكاره، بسلوكه..

آخر الليل، والنعاس يتسلل إلى جفوني.. نسيت أن أقول:

إنني أدخن أيضاً.. ولقد امتلأت منفضة السجائر بالأعقاب، وتطاير الرماد حولها بفوضى، فتحولت المنضدة الصغيرة إلى مزبلة حقيقية، تتناثر فوقها بقايا بقع القهوة الجافة.

نسماتٌ خفيفة باردة تتسلل من النافذة.. تتلمس طريقها إلى وجهي، فتغسله بنعومتها، وتداعب صدري بأطراف أناملها، فأشعر بخدر داخلي، ممتع، يسري مع المفاصل، ويطرد كسلها، ثم يمنحني قوة عجيبة، تجعل مني كائناً ليس هو الذي عرفته في نفسي.

قبل أن تذهب نبيلة إلى الفراش، قالت متثائبة:

- أرجو أن أراك في الصباح وقد أكملت اللوحة.

- سأفعل، وأرجو أن يوفقني الله.

- عمر! إذا سمحت لي، فأنا أحتفظ بالاسم المناسب للوحة !

بدأت اللوحة تصل إلى آخر مديات الحلم.. نزعت عنها قماط طفولتها، وخرجت من مهد التكوين الأولي إلى وضوح الحياة.. لوحة لم تعد تنقصها سوى رتوشٌ قليلة، هي آخر ما في الإعلان عن الإبداع الذي كابدت من أجله طويلاً.. حملتني رغبة احتساء القهوة إلى المطبخ، ثم عدتُ بالفنجان تفوح منه رائحتها المنشطة.. ألقيت جسمي فوق الكرسي، وأشعلت سيجارة.. اتسعت من حولي جنة الانتظار، بأشجارها، وطيورها، وورودها .. مرسمي ذلك الملكوت الضيق، أصبح قارة فسيحة، لم أعرف من حياتي متعةً مثل تلك التي غمرني شلالها تحت مياهه، وأنا أدفن جهد أيام عدة، بنهاراتها ولياليها.

أي التسميات تليق باللوحة؟ أي لوحة تليق بالحرب؟ هل أسميها لوحة الفنان المحارب؟ لا.. لم ترق التسمية لي.. وجدتها تخلو من الجاذبية، وفكرت:

ذاك أنا.. أجل، فقد رأيت نفسي في اللوحة.. ومن حولي انفجارات، ورصاص، وقنابل تنوير، وجثث، وخوذات فولاذية، مثقوبة، ووجه شيطاني قبيح، يطل من بعيد، ضاحكاً، ساخراً مني، بمتعة فريدة، وأنا ذاهلٌ، أوزع نظراتي بين جسمي والأشياء التي يتشكل مشهد الحرب منها، حسناً فعلت عندما رسمته على تلك الهيئة، إنه قبيح، بشع، أعور، و...

قلت في نفسي:

- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم..

وضحكت .. فرحت وأنا أرى ممتاز قادر يقتحم المشهد.. لم يعد ذلك الإنسان الباهت الضعيف الذي رأيته في مسرحية مذكرات فنان.. إنه يمد يداً طويلة إلى وجه الشيطان، يفقأ عينه، ثم يقوم من رماد الحرب رجلاً جعل الله لحمته من تراب الجبل.. وفرحت مرة أخرى، ذلك الأسود الخانق لم يعد قبو عزلتي، فقد غادرته.. أجل، كان ذلك في اللوحة.. أراه وأرى نفسي في المرسم، وعلى مقربة مني نبيلة.. إنني أقاوم لأرسم، وسط كل ضجيج اللوحة، ومآسي الحرب.

أشياء كثيرة تبدلت بي.. لعلها لعبة الأفول والشروق الجميلة.. تبدلت طريقة أكلي، وسهري، والتزامي بالبيت، بالوظيفة، بما حولي من ناس، وأرصفة، وأسواق، حتى طريقة نومي تبدلت، وتساءلت: هل تفعل الحرب كل هذا، وأنا.. من أكون؟!

لست وحدي في اللوحة قررت وأنا أبحث عن اسم لها، وأضفت:

- ها أنا ذا أحقق معى التقاء ذات الفنان بمجمع الناس.. الفنان بما حوله، ولكن.. هل هذا يكفي؟ أم يجب علي الذهاب إلى الجبهة مقاتلاً هذه المرة لكي يكون للإبداع طعمٌ آخر!

اللعنة على الشيطان.

أي جنون هذا! بل أي سخف! ألسنا كلنا في هذا الوطن نقف في الخندق دفاعاً عن كلك شيء؟

تمنيت لو أمتلك فظاظة أولئك الرجال القساة كي أوقظ نبيلة من نومها.. كيف عادت إلى المرسم وقد تركتها تفلت من بين يدي لتبتلعها غرفة النوم! لست أدري على وجه الدقة كيف عادت! المهم أنها رجعت مغمضة العينين، تحوم مثل فراشة، لا تكاد تدوس الأرض بقدميها، وهي تحتضن الوسادة، أو ربما الحلم الذي كان يتراءى لها.

لم يتوقف جبل التساؤلات عن إلقاء صخوره فوق رأسي.. اللوحة واسمها.. الحرب والجحيم.. الفنان والإبداع.. حياتي مع نبيلة، وأشياء أخرى كثيرة..

زعقت صافرة الإنذار، طعنت قلب الصمت، وانغرز فحيحها في رأسي يحرق دغل التساؤلات الأخيرة، سبقت صيحة الذعر نبيلة وهي تفز مثل حمامة أخطأتها بندقية صياد.. ركضت نحوي.. كورت جسدها وهي تخفيه في حضني، ثم وهي تدفن وجهها في صدري تلعثمت الكلمات فوق لسانها:

- هل عادت الطائرات من جديد؟

لحظتها أدركت مغزى الله في خلقه، ومعنى أن يكون للمرأة رجل يحميها..

- لا تخافي يا نبيلة!

قبل أن تهدأ، قفزت إلى ذهني صورة امرأة فزت هي الأخرى، وحيدة كانت، تصرخ وتنادي، ثم بدأت تهدأ تدريجياً، بعد أن تذكرت أن زوجها يحارب في الجبهة عند الحدود..

وصرخت بدون وعي:

- توقفي عن هذا الهرير يا نبيلة، افترضي أنني لست هنا، إلى جانبك، وأنني هناك مع الآخرين في الجبهة! ردتني بعصبية:

- لا..

تخيلتها سخيفة وأنانية، وأنها..

وأضافت تقطع أفكاري:

- أحبك يا عمر..

- والنساء اللاتي وحدهن الآن في البيوت، ألا يحببن أزواجهن؟

- حبي يختلف..

- كل واحدة تقول لزوجها الشيء نفسه..

دفعتها بحدة، فارتدت إلي متشبثة، خائفة، متوسلة:

- أرجوك.

- كان يجب أن تفكري بصورة أخرى.

- نعم .. كان يجب ذلك، ولكن أنا وأنت، لسنا في وطن آخر لنقول: إن الحرب لا تستهدفنا!

- أفهم ذلك، ولكنني أبحث عن عقدة، عن فكرة، عن نموذج إنساني، أتفهمين؟

هدأت نبيلة، ضاعت أنفاسها المتسارعة في أمواج لهاثها الحار، وهي تزفر بعمق، كأنما لتطرد من رئتيها ذلك الكابوس الذي أنشب مخالبه فيهما:

- كنت أحلم، وانقطع الحلم..

وتمتمت:

- أما أنا فقد كنت أبحث عن حل للمعادلة..

- أي معادلة؟

- الحرب، وأنا، عمر عبد الهادي، أين أنا منها؟

وصرخت:

- أنا وأنت لسنا على رصيفها البارد..

- رتوش قليلة وتكتمل اللوحة، لكن اسمها، فكرت كثيراً ولم أفلح في الوصول إلى اسم يليق بها.. اللعنة على الشيطان.. كادت تطير من الفرح:

- نعم.. اللعنة على الشيطان، هل تتذكر! في ليلة قبل هذه، قبل شروق الشمس، جاءت الطائرات، فتوقفت عن الرسم..

- نعم..

- أعود فأسأل: هل ستتوقف الآن؟ أعني هل ستهزمك الطائرات؟

- في هذه المرة لا..

- ولكنك الآن مشلول عن العمل.

- اللوحة قد انتهت يا نبيلة، ولم يعد أمامي غير تسميتها.

آنذاك زعقت الصافرة ثانية.. فيض النور غسل المرسم وكنس العتمة.. كانت نبيلة قد هدأت تماماً، ثم وهي تحدث إلى اللوحة، صرخت بفرح:

- ماذا لو تُسميها ليلة الشيطان الأخيرة؟

لعلها كانت آنذاك أكثر روعةً مما كانت عليها طوال الفترة الماضية.. تظاهرت بعدم الانتباه وسألتها:

- ماذا نسميها يا نبيلة؟

- ليلة الشيطان الأخيرة..

سحبتها إلى صدري .. تحركنا في إيقاع راقص على طريقتنا، وليس على طريقة المسلوبين، وصدى الكلمات يطن في أذني: ليلة الشيطان الأخيرة.

وسوم: العدد 766