أم الشهداء

أخيراً..

تلك مقبرة الشهداء قبالتها عند الجانب الآخر من الشارع..

صامتة، لا جسد يدخل من بوابتها، ولا ساق تخرج منها.. من خلف سورها الحجري الواطئ، يطلُّ الموت، فيلقي على الرصيف الأسى، وتغتصب الوحشة فضاءها المدغل.. أشجار السرو والصنوبر والصفاف تلتف حول بعضها، كأنها قباب داكنة الخضرة.

أسبوعان والعمة (قدسية) تبحث عن ابنها.. أم السماء فوقها، فقد تلبدت بالغيوم.. وللبرد في بيروت لسعةٌ لا تحتمل، وهجومه الذي كان مع بداية الشتاء لم يندحر.. رأت قوس قزح يخرج من البحر، ويعود إليه، من الشمال إلى الجنوب، كأنه ينذر بمطر غزير.. عندما شق البرق الغيوم، خيل إليها أن السماء ستنشطر إلى نصفين، وأن الرعد الذي زأر في أعقابه، سيخسف الأرض، فاقشعرَّ بدنها الهزيل بعد أن رجمته الريح بكريات باردة تبحر في شرايينها التي تعاني من ضيق مزمن.

فكرت بالعودة وعدم الإذعان لسلطان الأمومة القاسي، لكنها عادت وتحاملت على آلامها! فهي كما كانت تتخيل، جاءت إلى بيروت لتلتقي ابنها، ولتجلس معه بعد فراقٍ طويل.. أجل، إذ لا شيء يطفئ لهيب عطشها سوى مشاهدته.. كان يراودها الإحساس بأنها ستبقى عنده شهراً في الأقل تعيش معه في الغرفة التي يستأجرها، يضحكان ويأكلان معاً، وتطبخ له أكلات يحبها، كالمفتول والمسخن والملوخية، وتغسل له ملابسه، وغياراته الداخلية التي ربما تكون قد صدئت، لأنها تدرك أن الرجال لا يقدرون على تنظيفها..

لحظة تذكرت كل ذلك توقفت.. انغرست ساقاها في الرصيف لا تقوى على تحريكهما، فالرعب الذي يبعثه الاكتشاف الذي لا تحتمله يمزق الأعصاب، ويمنعهامن الاقتراب أكثر.. ظلت هكذا قبالة المقبرة، واقفة، ثم جلست تحاصرها الأسئلة: هل سيكون ابنها صابر بانتظارها في الداخل واحداً بين الشهداء؟

عندما داهما التفكير باستشهاده طردت الفكرة، ولكن أين يكون بعد أن يئست من العثور عليه بين الأحياء! ثمة أمرٌ يشدها إلى المقبرة، قد يكون أقوى من رغبتها في العودة.. وفي لحظاتٍ عادت الحقيقة لتتراقص أمام عينيها، يجب أن تعثر عليه، فهو ليس ملحاً ليذوب وتختفي أخباره، أحدهم قال: إنه رآه في الجنوب ولم تجده، وعندما قال آخر: إنه في طرابلس، ذهبت وعادت بدونه.. هي الآن أمام مقبرة الشهداء، بعد أن قال ثالث: لقد استشهد في العرقوب..

تململت بكسل، وظلَّ جسمها يتصوح تحت مطرقة التفكير، تراءت لها رحلة الأسبوعين نفقاً معتماً أو بئراً بلا قاع..

سرى الخدر في ساقيها، وأحست كأن أرتالاً من النمل تجري فيهما.. هبت واقفة.. نفضت الساقين بقوة، وبدأ جسمها يستعيد حيوتيه..

تلك هي المقبرة، قبالتها عند الجانب الآخر.. لا سيارات تعبر، ولا أحد من المارة، وحدها كانت في وحشة الصمت، تطحن الصور!

أسبوعان طويلان، وصابر الذي تبحث عنه، بدا لها أخيراً مثل ظل هارب، لا تستطيع الإمساك به، فوق رصيف الميناء في (صور) جلست ساعة طويلة، كان البحر أمامها .. تمنت لو تركب موجةً، وتذهب إلى هناك، حيث ساحة الحناطير في حيفا، لتركب في عربة يجرها حصان، تنقلها إلى بيتهم الذي تركتته في (المطلاع)..

بكت عندما خلع البحر أمواجه، واقتلعت نفسها من الميناء إلى مخيم الرشيدية.. المخيم الذي التقت فيه بأم محمد الطيراوية، وفطومة الحمد.. فطومة ذهبت معها إلى كل المكاتب التي تعرفها، وتعرفت معها على مكاتب جديدة لم تصادفها في مشاويرها إلى السوق.. نهارات عدة أمضتها وهي تزحف من مكان إلى آخر، بيروت، صيدا، شاتيلا.. وغيرها.. أمكنة لم تكن تخطر على بالها، ولم تكن تصدق أنها ستراها كلها..

هالها أن الناس هنا لا يختلفون عنهم في عرابة ويعبد وقباطية وطوباس ومخيم جنين وسيلة الظهر ومخيم عسكر وحيفا والناصرة والطيرة وجبع، وهم أنفسهم في مخيمات البقعة وسوف والزرقاء.. كلهم هنا، وهناك، وهنالك، يجتمعون حول الوطن الذي تراه في الزيت والزعتر والزيتون والجبنة البيضاء..

عندما شاهدت بناية العكر، أحست بالضالة وبعبث البحث عن صابر بين آلاف المكاتب وقواعد الفدائيين، ولقد تضاعف هذا الإحساس منذ أمس، عندما كانت في حديقة الصنايع، غائبة بين اللاوعي وصورة صابر التي تكاد تفلت منها.. هل من المعقول أن تعود إلى مخيم البقعة دون أن تكحل عينيها برؤيته؟! وماذا ستقول لجاراتها عندما يأتين للسؤال عنه؟! هي نفسها لا تعرف شيئاً، والذين سألتهم لم يعرفوه.. هل تقول: إنَّ الفدائيين لم يعرفوا ابنها الفدائي؟ كيف يمكن أن يحدث هذا؟ أليس في الأمر تفاهة؟ ربما قالت لنفسها..

منذ أمس، وتحديداً مع ساعات ما قبل الغروب، ابتدأت عذاباتها تشتد.. وكيف لا، وقد استطاع ذلك الفدائي الذي التقت به في الحديقة أن يدخل إلى جمجمتها فكرة البحث عن ابنها في مقبرة الشهداء..

- الأمر سهل يا خالة.. سترين فوق شواهد القبورة صور الشهداء وأسماءهم..

بدت لها المهمة سهلة، على الرغم من أنها ما إن وقعت نظراتها على القبور حتى أحست بصعوبتها، فالمقبرة واسعة، والقبور لا تعد، وهذا يعني أنها ستمضي وقتاً طويلاً، كما أنها بحاجة لأن تقف أمام الشواهد كلها..

وخشية أن يفوتها قبر، ألقت نظرة سريعة على المقبرة، وقسمتها إلى مناطق، ثم وطنت النفس على أن لا تنتقل من منطقة إلى أخرى قبل أن تقف أمام القبور كلها، لترى صور الشهداء، ولكنها قبل أن تبدأ ألقت على القاطنين في المكان التحية:

السلام عليكم يا أهل الدار، أنتم السابقون، ونحن اللاحقون بكم إن شاء الله.

كانت فاتحةً، ورأت أنها لا تختلف عن طائر الخطاف الذي لا يعرف الاستقرار في مكان.. عشرات الصور، وما تزال أمامها المئات منها، وربما الألوف، لكن رغبة طارئة جعلتها تشعر أنها لم تعد في عجلة من أمرها.. رغبة تبعثها الجاذبية التي في الصور، فهؤلاء الذين يبتسمون لها، يدعونها للابتسام، فتبتسم.

والوجوه النورانية التي غيبها الموت عن الوجود، لها ملامح وجه صابر، ابنها الذي كان يتدفق حيوية، أي أنَّ العمة (قدسية) اكتشفت أنه ليس بمقدورها أن تلقي أعصابها في ثلاجة، فالشهيد هو نفسه سيان إن كان الابن أو ابن الأخت، أو ابن الأخ، أو حتى ابن الجيران، أو من تعرف أو لا تعرف.

ظلت تبحث عن صورة صابر.. ربما فاتها التوقف أمام إحدى الصور، لذا فقد استمرت تذرع المقبرة بالطول والعرض، بين الزنابق التي تتسلل رائحتها إلى أنفها، فتبعث في النفس ذكريات المقابر العتيقة هناك في وطنها البعيد، بهجة كانت المقبرة، ولولا تلك الشواهد لتصورت أنها في حديقة. وسوى الزنابق ثمة الورد الجوري، والوردة الجهنمية، والياسمين، ياه.. قالت مع نفسها:

كأن الناس يودعون الشهداء بالورود.. ولماذا لا يودعونهم بالورود؟! عادت وقالت: إنهم شهداء، وأمكنتهم في الجنة.

عندما خرج صابر من مخيم البقعة، كان يحمل في جيبه خمس صور ملونة، ترك السادسة معها.. ولعله في بيروت التي بدت لها جميلة، ملأ جيبه بالعديد من الصور الأخرى، فهل تلاشى هكذا لا صورة له، ولا قبر! مستحيل! وكادت تفلت منه صرخة ربما أرادت أن تصفع بها هذا العالم الذي يواجهها، وربما، من يدري، فقد تكون أرادت أن تقول للفلسطينيين: لماذا مكاتبكم كثيرة، وتنظيماتكم مختلفة؟ بل ولماذا هذه الأسماء الحركية التي تخفون وراءها أسماءكم الحقيقية؟!..

آخ.. سيء الحظ من يمضي من الدنيا بلا أثر يتركه، قالت لنفسها، ولكن ابنها صابر ليس من ذلك الصنف الذي يمكن أن يمضي دون أن يترك وراءه أثراً.. عندما كان في الأغوار، كان الشباب يحدثونها عن شجاعته.. ويوم جاء لتوديعها قال: لا تخافي يا أمي سوف أرفع رأسك عالياً..

نعم، وعندما كانت الجارات يسألنها عن صابر، فإنها ما اعتادت أن تحيط كلماتها بهالة من الحزن، كويس والحمد لله، إنه بخير، كانت تقول، وترفع رأسها، مع أنها في أعماقها تدرك أنها حزينةٌ عليه، خصوصاً بعد أن انقطعت أخباره عنها.

ما أروعك يا عمة (قدسية) وأنتِ تضمدين جراحك بنفسك..

إن لم تفعلي فقد لا تمتد إليك يدٌ، فالناس تغيروا، وغريب الدار لا حول له ولا قوة.. ألستِ أنت من كنت تقولين لصابر: الحجر في أرضه زونه قنطار.

ربما انقضت ساعةٌ وأكثر.. هكذا تخيلت، لكن قطار الزمن كان يمضي ببطء، والدقائق تمضي متثابة، ودمامل القلب تنفجر، وتجري لسعاتها مع الشرايين.. لسعاتٌ مؤلمة، تنفث قيحاً، ووجعاً، لا حد لهما، هل ستبقى هكذا جالسةً؟ إنها لا تدري، وصابر، قل قطعت شكها باليقين، ولم تجده في المقبرة؟ الله وحده يعلم، وهي لا تعلم.. لكن صورته.. أين صورته إن كان هنا؟...

لم تجد له أثراً .. ليت تلك المرأة تأتي لتسألها.. ولكن عن أي شيء تسألها؟ فالمراح أمامها، ولقد يئست من الطراد بين القبور.. فرسٌ أعياها التعب، وعندما بدأت تلهث، أسلمت جسدها الهزيل إلى الأرض .. لم تعد فيها قدرةٌ على الحركة..

انتبهت لتلك المرأة.. لم تكن كبيرة، فهي شابة، وظهرها لم يتقوس.. ما يزال فوق العظام لحمٌ، رأتها تذهب إلى حنفية ماء، فتملأ إبريقاً، وتعود إلى قبر لتسقي الورود التي حوله.. ربما يكون زوجها، أو أخوها، ولكن لا، قالت: إنه زوج، فالأزواج وحدهم يستدرجون الأرامل إلى قبورهم.. ولكن، أين أولادها؟ أليس للميت ولد، أو بنت، لماذا وحدها ولم يأتِ أحدٌ معها!

هل تكون عروساً لم تخلف؟! ربما!..

عندما ابتلَّ شوق المرأة حجلت إلى العمة قدسية:

- ابنك أم زوجك بين الشهداء يا عمة؟

- ابني، قالت العمة (قدسية) بجزن، ولكنها استدركت:

لكنني لا أعرف أين ينام، في أي القبور!

هل تلك هي نهاية الفلسطيني حقاً؟ الاثنتان لا تعرفان، وقدسية التي لم تجد ابنها بين الأحياء، لم تجده بين الشهداء كذلك، فأين يكون؟

- هل تعرفين مكان استشهاده؟

- لا أعرف..

- وهل استشهد حقاً؟

- لا أعرف..

- وهل بحثتِ عنه في البلد؟

- نعم، من شمال البلد إلى جنوبه..

- عجيب!

- أنا أيضاً أقول ذلك.. عجيب!

التجمت الاثنتان في عناق حار، لا تدري ما تقوله الواحدm منهما للأخرى، هل تعزي العمة (قدسية) المرأة الشابة بزوجها أم بأخيها، وهذه ماذا ستقول للعمة قدسية؟ هل، وهل؟؟

- فتشت عن صورته في المقبرة كلها، ولم أجدها.. ماذا يعني هذا يا ابنتي؟

واندفعت المرأة بين الأسماء تبحث عن صابر عبد الحفيظ العطاري.. لم تجده.. ارتطمت عيناها بحزن العمة (قدسية) الذي حفر له أخاديد في الوجه، وتغضنات، ثم..

جذبتها نحو قبر بلا صورة، وإلى آخر بلا اسم، فصرخت العمة قدسية:

- قد يكون هذا قبره..

واندفعت إلى قبرٍ آخر، بلا اسم أيضاً..

- قد يكون هذا..

- وهذا، وذاك، يا عمة.. ثمة قبور كثيرة بلا أسماء أو صور..

حقاً إنها نهاية المطاف، وصرخت العمة قدسية مثل لبؤة تحاصرها بنادق الصيادين من كل الاتجاهات، أو أسئلة السائلين، من الجارات والجيران..

- كلهم أبنائي..

وتناولت الإبريق من يد المرأة، وأسرعت إلى حنفية الماء لتملأه..

كانت سماء بيروت قد بدأت تمطر أيضاً، ورائحة الزنبق تملأ أنفها، وثمة ما يزال أمامها متسع من الوقت قبل الغروب، لتسقي ورود المقبرة، فابنها لا بد هنا، مضى ولم يسعفه الوقت لكي يترك عنواناً لها..

وسوم: العدد 766