عايشين !

د. أحمد محمد كنعان

انتصف الليل .. ولم أنم ..

وكيف أنام .. وأنا أرى البلد على كف عفريت؟!

لقد جنت الشام ..  جنت سوريا كلها .. وهؤلاء المتظاهرون المهابيل يعتقدون أنها ثورة، ولا يصدقون أنها مؤامرة كونية ضد سوريا .. سوريا الصمود والتصدي في وجه المخطط الصهيوني !

وفي الواقع  .. سادتي .. أنا لا أعجب من هؤلاء الرعاع الجهلة الذين خرجوا في المظاهرات لإسقاط النظام ظانين أنهم يقومون بثورة .. لكني أعجب من أصحاب اللحى والعمائم الذين يأمرهم ربهم بالقراءة، لكنهم لا يقرؤون .. وحتى لو قرؤوا لا يفهمون .. ولو فهموا لعلموا أن هذا "الربيع الكاذب" ما هو إلا مؤامرة خبيثة وضعها اليهودي "برنار ليفي" وهي مؤامرة لم تعد سراً، ولم تعد خافية على أحد، فقد نشرت تفاصيلها كل وسائل الإعلام، فبعد تصدع البنيان العربي، صار اليهود يعملون عالمكشوف "على عينك .. يا تاجر" فنشروا الخطة وراحوا ينفذونها لتدمير الوطن العربي بأيدي زمرة من الزعران الذين صدقوا أن هذا "ربيع عربي" وما هو في الحقيقة ربيع ولا زهور، بل فوضى ومؤامرة كونية تريد تدمير كل ما هو عربي .. وكل ما هو إسلامي !

الكل .. سادتي .. أدركوا هذه الحقيقة إلا هؤلاء الزعران الذين ..

تسألون لماذا ؟

لأن لهم مآرب شخصية، ولو صدقوا أنها مؤامرة وتخلوا عن الثورة فلن يحققوا هذه المآرب الخسيسة !

يا جماعة .. يا ثوار .. يا مهابيل .. اصحوا .. داب الثلج وظهر المرج .. وانكشفت اللعبة عن فوضى سوف تدمر كل شيء .. كل شيء .. وما حدث حتى اليوم من دمار ما هو إلا البداية !

يا جماعة .. ما لنا وللثورة ؟!

الحمد لله .. عايشين .. كل شي في البلد تمام .. الأمان .. الاستقرار.. راحة بال .. فما الذي تريدونه أكثر من هذا ؟!

حرية .. ديمقراطية .. حقوق ؟

الحمد لله كله موجود .. ولن تجنوا من هذه الثورة غير الفوضى والخراب !؟

ألم تقرؤوا كتابي "معجزات الحركة التصحيحية" وما حققه القائد الخالد "حافظ الأسد"؟

لم تقرؤوا ..

أنا متأكد أنكم لم تقرؤوا .. واأسفاه ! ولهذا تنكرون أن "بشار" هو إحدى تلك المعجزات .. وها أنتم بكل غباء تخرجون في ثورة مجنونة لإسقاطه .. ما الذي أصابكم .. يا ناس ! خبروني .. بالله عليكم .. خبروني .. شو قصتكم ؟! ماذا تريدون بالضبط ؟

طيب .. لنفرض أني سايرتكم وصدقت أنكم تطلبون الحرية والديمقراطية والحقوق غير موجودة .. فهل تنتظرونها من هؤلاء المتشددين الذين يتسترون بالدين.. ويتنطعون كذباً بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ؟!

هؤلاء .. يا جماعة .. يتاجرون بالدين .. هؤلاء انتهازيون .. دجالون .. لا يعرفون الحرية ولا الديمقراطية ولا الحقوق .. بل .. لا يعرفون الدين نفسه .. كل ما يعرفونه هو أن يصلوا إلى الكرسي .. إلى السلطة .. لكي يتحكموا بعباد الله ؟!

يا ناس .. الحرية لا يمكن أن تأتي عن طريق هؤلاء ..اصحوا من هذا الوهم الكبير قبل أن تصحوا غداً فترون "الخليفة" يحكمكم ويطبق عليكم  "الحدود" ويتسلى بتقطيع أيديكم وألسنتكم باسم الرب .. يا ناس .. اصحوا قبل أن يأتيكم الخليفة مع "داعش" وأخواتها ويعود بكم إلى جحيم القرون الوسطى، فيحرق ويذبح كل من يخالف الدين .. الدين كما يراه هو "قدس الله سره" لا كما يريده الرب .. يا ناس .. تجار الدين هؤلاء لن يدمروا البلد وحدها، بل سيدمرون دينكم أيضاً !!

يا ناس .. أين راحت عقولكم ؟!

يا أهل الشام .. يا أهل سوريا .. أين راحت حكمتكم ؟ أين راحت عقولكم التي كانت توزع النور على العالم !؟

صرخت من غضبي .. ونظرت إلى ساعة الجدار فوجدتها تجاوزت الرابعة فجراً وأنا لم أنم لحظة واحدة .. أفكر بهذه الثورة المجنونة، وهؤلاء المجانين باحثاً عن طريقة تقنعهم أنها ليست ثورة .. لكني أدركت بعد ساعات من الأرق والتفكير أني أخاطب الحيطان .. فلا أحد يحس بوجعي وخوفي على البلد والدمار الذي بدأ يأخذ في طريقه كل شيء !

يا ابن الحلال .. لا فائدة .. دع عنك هذه المحاولات (قلت أخاطب نفسي) في محاولة لتوقيف هذا الدماغ الذي راح يمطرني بالأفكار مثل راجمة صواريخ .. وأنا أريد لحظة نوم .. لكن كيف أنام .. وهذه الصواريخ تضرب وتحرق في دماغي ؟!

يا ابن الحلال (عدت أخاطب روحي) يا ابن الحلال لا فائدة .. لقد وقع الفاس بالراس، وأصاب البلد إعصار خارق حارق سوف يحرق الأخضر واليابس .. فاحزم أمرك .. وارحل قبل أن يأخذك الإعصار بطريقه .. نعم .. صدقت .. يجب أن نسافر وننفذ بجلدنا قبل أن تنتهي فترة الفيزا التي جهزتها من أول أيام هذا الجنون .. لقد كانت زوجتي على حق في فكرة السفر وتجهيز الفيزا مبكراً .. صحيح أن "سنية" جدبا .. وعقلها جوزتين في خُرج .. لكنها كانت على حق في فكرة السفر للنجاة من تبعات هذه الثورة .. الجدبا تظن هي الأخرى أن ما يجري ثورة .. جدبا .. لكنها في موضوع السفر .. لا والله .. لم تكن جدبا .. بل كانت قمة في العقل والتدبير.. ولن أنسى نصيحتها عندما قالت لي :

-         نسافر إلى أمريكا فنحصل على جنسية محترمة .. ونعود عندما تنتهي الثورة فنعيش في البلد ملوك .. ملوك .. يا صلاح .. لازم نسافر ..

طيب .. تاج راسي .. نسافر .. (قلت وأنا أستحضر طيفها) نسافر كما تريدين ..  صحيح المغامرة كبيرة .. لكن كلامك يستأهل الكغامرة .. سنسافر .. يا روحي .. لكن الآن ساعديني لأنام ولو ساعة ..

لكن كيف تساعدني .. وقد هربت لتعيش مع أهلها في اللاذقية وتركتني أخاطب الحيطان؟!

استحضرت طيفها، وقلت لها معتذراً .. على عيني أفكارك النيرة .. يا سنية .. سنسافر لكن المهم الآن أن أنام ولو ساعة واحدة، وإلا فقدت عقلي، وأنا أخاطب هؤلاء المجانين الذين يحسبون الثورة فانوساً سحرياً سيغير كل شي على طريقة "افتح يا سمسم" فتتغير البلد ويتحقق المستقبل الأفضل الذي يحلمون به .. مهابيل .. وهل هناك أفضل مما نحن فيه ؟!

يا ناس .. اصحوا من هذه الأوهام ..

وإذا كنتم تقومون بالثورة من أجلنا كما تدعون .. فنحن لا نريد ثورة .. ولا نريد الأفضل .. عايشين .. ما أحلانا .. فما لنا وللثورة ؟!

لا .. لا نريد ثورة .. أقولها في وجوهكم السوداء بالفم المليان ..لا نريد ثورة .. ولا نريدكم .. ولا نريد الدين الذي تدعونه .. فالدين في قلوبنا ولا يستطيع أحد أن يشكك بإيماننا .. فلا تزايدوا علينا باسم الدين !!

خلاص .. توقفوا عن هذا الدجل .. وعودوا إلى بيوكم .. ولا تجعلوا عدوى تونس تقضي عليكم وعلى البلد .. يا جماعة .. "بشار" ليس "زين العابدين" .. فلا تظنوا أن بضع مظاهرات وشعارات، تجعل بشار يحمل حقائبه ويرحل كما رحل صاحب تونس .. لا .. لا .. يا ناس .. هذا كلام مجانين .. هذه أوهام مساطيل لا يعرفون في السياسة شيئاً .. يا جماعة .. المسألة ظاهرة متل عين الشمس .. بشار ليس كالآخرين (صرخت بالحيطان والعتمة التي تطبق على نفسي) وعلقت الجملة في دماغي .. بشار شي تاني .. بشار شي تاني ..

بشار شي تاني .. يا ناس أفيقوا .. أما أنا فيجب أن أنام ولو ساعة واحدة حتى أستطيع عرض مرافعاتي في المحكمة وأنا صحيان .. يجب أن أنام .. تذكرت علبة المهدئ، فنفضت عن نفسي اللحاف وأسرعت إلى العلبة فتناولت ثلاث حبات دفعة واحدة بلعتها مع كأسين من الماء ليكون فعلها أسرع .. لكن جرس الباب كان أسرع فقد راح يرن رنات متواصلة جعلتني أرتجف خوفاً من خبر محزن عن أمي المقيمة في دار العجزة..

         - خلاص .. خلاص .. أنا جايي !

قلت لصاحب الرنات اللعينة .. وأسرعت إلى فتح الباب فرأيت في غبش الصبح شبح رجلين ..

    - خير ؟!

سألتهما على الفور، وبدأت أرتجف من نسمة الفجر التي لفحتني، فرد النحيل :

-         خير .. خير أستاذ .. لا تقلق .. أنت الأستاذ صلاح المحامي .. أليس كذلك ؟

-         نعم، أنا هو .. خير ؟!

ضحك الآخر المنتفخ مثل أبطال المصارعة وقال :

-         خير .. أستاذ صلاح .. نريدك في قضية ..

-         قضية!؟ عند هذه الساعة من الفجر ؟! يا جماعة .. أنا آسف .. فأنا لا أستقبل القضايا في بيتي بل في مكتبي .. ومكتبي في المرجة يعرفه القاصي والداني!

ضحكا معاً، وتبادلا نظرات غامضة، ولمحت المنتفخ يضع يده على جنبه في حركة أراد بها تنبيهي إلى المسدس، وظل يتابع مضغ العلكة ويطقطق بها، بينما تابع النحيل قائلاً :

-         أستاذ صلاح .. نحن آسفون .. يجب أن تأتي معنا إلى فنجان قهوة .. تفضل لو سمحت ..

( يا لطيف .. إنه الاعتقال إذن .. يا ويلي !) ولولت على نفسي في نفسي، واستندت إلى الجدار كي لا أسقط إلى الأرض، فظن النحيل أني أريد مخادعتهما، فصرخ في وجهي صرخة سمعها الإنس والجن :

-         هيا .. أستاذ .. تأخرنا على المعلم !

وكان الآخر الذي انتفخ مثل أبطال المصارعة، يواصل الطقطقة بالعلكة، فلما سمع صاحبه يصرخ في وجهي، تحفز وراح يرميني بشرر عينيه، لكني تماسكت، وقلت بصوت صار أقرب إلى الاختناق :

-         لكن .. سيدي .. هل معكم مذكرة استدعاء باسمي !؟

رد النحيل :

-         طبعاً .. أستاذ صلاح .. المذكرة معنا ..

والتفت إلى صاحب العلكة وقال وهو يشير نحوي :

-         طلب الأستاذ صلاح من حقه .. ناوله المذكرة ..

فتوقفت الطقطقة ..

وأظلمت الدنيا في عيني دفعة واحدة !

وسوم: العدد 805