صور مفارقة

لما نظرت إلى الأعلى وأنا أنزل حقائبي ،وأغراضي من على سطح سيارة الأجرة لمحت امرأة في منتصف العمر تطل من شرفتها وهي تراقبني بفضول كما لوأنهاعلى ميعاد مسبق معي.

...كانت العمارة التي اقتنيت بها شقة بعيدا عن ضوضاء الباعة، ومحركات السيارات، وصخب الأطفال، والمارة حديثة البناء، تطل بنوافذها المشرعة، وشرفاتها الواسعة على بساتين البرتقال، والشفرجل، وحقول النعناع المنتشرة على ضفاف نهراللوكس...أديت لصاحب السيارة أجرته، وصعدت درج السلم فوجدتها مرة أخرى عند مدخل الباب الموارب لشقتها تتلصص علي بنظرات ثاقبة...عينان لامعتان كعيون القطط المتسكعة، وأنف كمنقارنسرمفترس، ووجه كرغيف تم نسيانه في الفرن فاحترق بالكامل..كان صوت مرتل القرآن، وهو يتلو سورة يوسف ينبعث من داخل شقتها ممزوجا برائحة كريهة لبخوررخيصة انتشرت في أرجاء العمارة فأصابتني بدوارقاتل جعلني أشعر بالغثيان ..أقفلت الباب ورائي وانشغلت بفتح علب الكرتون، والحقائب، واستخراج ما بهامن الكتب، والملابس، والمجلات، وحزم الأوراق، وترتيبها على المائدة. فجأة رن جرس الباب.

كنت أعرف بحدسي بأنها هي مرة أخرى ..فتحت الباب فاقتحمته كشرطة الآداب من غيرأن أرحب بها، وفي قرارة نفسي كنت أردد يا للوقاحة ! فكرت في طردها وإقفال الباب مرة أخرى. لكنني عدلت عن الأمرفي النهاية، ففي جسارتها ما يشي بأنها تصلح مادة للكتابة..وهي تجلس على الكرسي الوتير المقابل للشرفة سألتني عن مهنتي وأشياءأخرى.وماإن كنت في حاجة للشاي، أو الماء، أوخدمة معينة. فأجيبها باقتضاب شديد محاولاإنهاء الحوارمعها، وإتمام أشغالي. لكنها كانت مصرة على البقاءغيرمبالية بانزعاجي.. ثم تعود من جديد لتقدم لي نفسها، وهي لا تتوقف عن الثرثرة، ومضغ العلك بين أسنان مهشمة قائلة :"  اسمي صفية وأنا صاحبة الشقة المقابلة لشقتك، زوجي توفي بنوبة قلبية، أعيش لوحدي مع هيفاء بنت بنتي، أمها تشتغل بفرنسا تركتها معي منذ ولادتها لأربيها، وأعلمها لأنها مطلقة ولوحدها إضافة إلى خوفها عليها من فساد التربية هناك " .

دلفت إلى المطبخ فنهضت مودعة تجرأذيال الخيبة وهي تردد :"سوف أتركك لأنني أنام باكرا حتى لا تفوتني صلاة الفجر.. " وأردفت: ".صرنا الآن جيرانا والرسول أوصانا على الجار"بحركة من رأسي قلت لها صحيح ما تقولين وودعتها، وأغلقت الباب متأففامن تطفلها وجرأتها.

نسيت الأمر..أخذت دوشا ساخنا، وبعدها تناولت عشائي واسترخيت على السرير ..لم أعرف متى نمت ! فقد كانت الساعة تشير إلى منتصف الليل لما استيقظت مضطربا مفزوعاعلى أصوات الغناء، والطرب ونباح الكلاب، فقلت لنفسي مواسيا: " الأعراس مرة أخرى، إذن سوف أسهرمرغما كالعادة" فتحت الثلاجة، وأخذت قنينة ماء بارد وأفرغت ما بها في جوفي دفعة واحدة.

 بدا صوتها القوي المخشوشن واضحا، وأنا أعيد القنينة إلى مكانها، وبدأت صورتها تتضح، وتكبرفي مخيلتي أكثرفأكثر، إنها هي جارتي صفية وهي تعلم الصغيرة هيفاء الرقص الشرقي على أصوله نهاية كل أسبوع. كنت أسمعها بوضوح، وهي تصفق بحرارة، وصخب مصحوب بقهقهات الغانيات مخاطبة طفلتها.. ثم يتوقف كل شيء دفعة واحدة، فيسود صمت رهيب تاركا المجال لنباح الكلاب..فأسمعها من جديد تقول لطفلتها المدللة:" توقفي.. توقفي هزة البطن ليست بهذا الشكل، انظري إلي هكذا ..هكذا .. هزي البطن بسرعة البرق وارخيه بحركة واحدة مع دقة الطبل، واجعليه يرتعش كورقة في مهب الريح هكذا هكذا واحد ..اثنان.. ثلاثة..فتتعالى أصوات الطبل والتصفيق والغناء، فتهتز الكتب المبعثرة فوق الأرض تحت وقع أقدام الطفلة هيفاء ورعشات بطنها،وهي تتعلم فن الرقص على أصوله كما تقول جدتها صفية.

وسوم: العدد 811