ذكريات وتأملات

استلقى الغريب على سريره الحديدي، وسط جو ملتهب، مشبع برائحة عرق متبخر، من أجساد ثلاثة رجال نصف عراة يغطون في نوم عميق، تحت ثلاثة أجنحة لمروحة متوقفة، نسج حولها الغبار والعنكبوت غلالة بيضاء.

تسلل الشعاع الخافت الوحيد باب الحجرة بارداً، فلامس الوجوه السمراء، وزادها تألقاً، وأضفى على المكان أنساً ذكره بحجرة النوم في قطار آخر الليل، التي غادرها مُكرهاً.

التعب والإرهاق حرمه من دقائق التأمل التي اعتاد الإقبال عليها كل مساء، وجعله ينعم بسنة من النوم كدرها صرير أسنانهم، والزفير القوي الذي يصدره دون توقف نزيل السرير الأيمن المدفون رأسه تحت وسادة قطنية متحجرة زاد تصلب أليافها رؤوس متعبة أثقلها الهم.

في تلك الليلة توقفت المحطة القديمة الوحيدة عن نفث سُحبها السوداء، وخيم على المدينة هدوء عجيب، وسكت ضجيج الإيقاع الصاخب الذي يعشقه الزنوج، ويظنونه طرباً، وهدأ فحيح عدد من المكيفات الصحراوية التي جلبها المغتربون من العمال مع أمتعتهم الرثة، وأيديهم المتقرحة، وسمع جميع النزلاء – الذين يدمنون على احتساء الكركديه القرمزي ويستمتعون بطعمه الحامض المحبب في الفراش، ويطلقون سحب دخانهم الأمريكي المهرب، وهم راقدون على ظهورهم – صوت تطاير العلب الفارغة المتدحرجة على الرصيف المقابل.

لم تكف الكلاب الشاردة من الفصائل المنقرضة عن عربدتها في دروب المدينة، وأزقتها، وظلت الهرر تتمدد فوق سيارات قديمة، حرصت الأسر التي تحمل أسماء عريقة على وقوفها أمام البوابات الحديدية الصدئة.

عمال النظافة جاءوا مبكرين، من أحياء الصفيح المحيطة بالعاصمة، وكانوا في شغل عن كشط طبقات التراب الذي خلفته زوبعة المساء، بفرز القمامة، والعناية بالقوارير الزجاجية المهشمة، والقطع المعدنية والمسامير، وتكريم اللدائن الممزقة من بقايا الأحذية العتيقة، وأدوات المطبخ.

الجرار الفخارية على قارعة الطريق، أفرغت وسلبت أغطيتها الخشبية، وكأسها القذر، وسلسلتها النحاسية المتدلية، وعبث بمحتوياتها الثمينة من ماء وطين مترسب، ولا يدري صبي الجرار المغفل، بأن بائع الشراب المجاور قد أهرق الجرار في الليل، وكاد أن يحطم بطونها المنتفخة قبل مرور أول عابر سبيل، ليغرف له بأصابعه الملونة شرابه المثلج، ويلتقط ما شاء من القطع المعدنية بحركاته الرشيقة وضحكاته المجلجلة، وليضيفها إلى رصيده من العملات الصغيرة الصعبة المنال على أمثالنا.

تزايد المتسكعون الحفاة، والشحاذون، مع التهاب قرص الشمس، وتدافع الباحثون – دون جدوى – عن عمل، وكانت المترهلات من ربات البيوت، موضع حفاوة الباعة، واهتمام صبيانهم، فقد أقبلن بصحبة جاراتهن، وبناتهن العانسات في عرض مدهش لألوان الأزياء، وأشكال الزركشات، وما لم يشاهده عابر السبيل من الأقراط والقلائد التي ضم حباتها الصابرون، وصاغ معدنها المهرة المفرطون في الأوقات، إرضاء لربات الحجال اللواتي استولين على قلوب الأزواج وجيوبهم.

حب الغريب للطرائف والتحف، وعشقه للتراث وعادات الشعوب، جعله ينصرف بكليته نحو هذه المشاهد، في محاولة جادة لاكتشاف حقيقة هذا الإقليم المهمل، وفهم أسراره، فليقف أمام تلك اللوحات الإنسانية وقفات طوال، وليغرف من عالم الجمال البدائي ما يحلو له، وليقتني من لطائف ما أبدعه الجهد الإنساني من مشغولات، مادة نسيجها من جنس الطبيعة القاسية، وشظف عيشها، فلتكن مقتنياته الجميلة، وبضاعته المزجاة، ولتحفظ ذاكرته المتوقدة هذا الشريط الناطق بكل عناية، ليبقى محفوراً في عالمه الأسطوري السعيد.

ما أسعدك أيها الغريب المدجن بحضارة الغرب، وأنت تعود إلى فطرتك وأصالتك، وتحن إلى الطبيعة بكل ما فيها من بساطة، وما أشقاك بهذا العالم المنهك المكدود، يكفيك هذا الثوب الأبيض الفضفاض، وذاك النعل الخفيف، وتلك العمامة الناصعة، عن أحدث ما تنتجه دور الأزياء من الأحذية الضيقة، وحزام يعصر أمعاءك ويقطع أنفاسك، وقبعة تعيق سجودك لمبدعك.

هيا إلى الطبيعة بكل مباهجها من ألوان وأنسام وعطور.

هيا إلى الحرية والانعتاق..

املأ صدرك بهذا الأريج، وتفيأ هذه الظلال المجللة بالغمام، واغرف من هذا العذب الزلال، ودع روحك الحبيسة، تحلق بكل اطمئنان ورضى وانظر إلى وجهك المضيء، واسمع دقات قلبك المفعم بالإيمان.

هيا إلى الله بكل جوارحك أيها الغريب.. هيا إلى الله..

وسوم: العدد 841