البيِّنة ...

اعتاد ( سركيس ) البحث عن حقائق ... حقائق غائبة ، وأخرى مغيَّبة ، وأخرى يُمنعُ الدخول في مداراتها ، ولا زال يشعرُ بأنَّ فؤاده ظامئ إلى أشواق ترف في عوالم أخرى ، وسعادته لم تكن حاضرة رغم وفرة أسبابها لديه . يجلس يوميا في حديقة منزله الجميلة ... يدعو الربَّ ، يستخيره على طريقة أبناء ملته الخاصة ، إذ لم ترق له كثيرا تلك المساحات الفارهة من السعادة التي يتمتع بأقل منها الكثيرُ من الناس ، وربما يُرى وهو يتثاقل في تصرفاته وكأنه ابن الثمانين عاما وهو ماتجاوز الأربعين ، ولم يزل في ريعان شبابه المتوقد حيوية، وكأنه تمثل قول الشاعر  يرحمه الله   :

ويظل للمجهول في         قلبي حنيـنٌ مبهمُ

يقتاتُ منــه غذاءَه          قلبٌ حزينٌ ملهــمُ

مَنْ يراه وهومستغرقٌ في نظراته نحو أُفُقٍ بعيد يجزم أن الرجل يحمل بين أحنائه همًّا ثقيلا . أو أنه يصارع مرضا عضالا ، أو أنه فقد شيئا نفيسا لايمكن تعويضه ،  أو أنه يقود معركة تبدو له خاسرة بكل المقاييس . أبواه ، زوجته ، أطفاله الثلاثة ... لاتخفى عليهم حاله ، ولكنَّهم لايعلمون ماذا يدور في خلده !! وكم من مرة حاولت زوجته ــ وقد دخلت إلى أعماق أعماق فؤاده ــ أن تعرف بعض مافيه من أسرار ، واستأذنته مرات ومرات للدخول أكثر فأكثر  ، ورغم أنها وجدت وفاءَه وحبَّه لها ، لكنها لم تستطع استنطاقَ الصفحة المغلقة المبهمة   من حياته ذات الخصوصية . واضطرت أن تقبل بالأمر الواقع كأبويه اللذين حاولا من قبل ولكن دون جدوى . حتى أن أمه كانت تظن أن السبب في شروده هذا يعود إلى سوء معاملة زوجته ، ولكنها أيقنت  فيما بعد أن الزوجة لم تقصر في خلق أسباب السعادة له من كل جوانبها . أصدقاؤُه يشعرون   بما يشعر بما يشعر به أهله ، ولكنهم أيضا لم يصلوا إلى مفتاح الصفحة المغلقة من حياته ، وقد دعوه أن يذهب معهم إلى الكنيسة بشكل خاص ليقابل رجال دينهم فيها ، وكان يستجيب لهم ، وربما يقضي الساعات الطوال بين يدي راهب أو قسيس ... ويخرج بغير زاد يغذي سغب نفسه ، ومع كل ذلك ماكانت ابتسامته لأصدقائه وندمائه تفارق ثغره ، وهذه الابتسامة وروح المودة التي تملأ جوانحه كانتا تؤكدان حسن صداقته لهم ، وكانت تزيد أيضا في عمق يأسهم من الوصول إلى ساحة وجدانه ، ليقرأ بعضُهم ــ على الأقل ــ تلك الصفحة التي تتوارى خلف ضباب من الحسرات والآهات .

واتجه ضحى يوم الأحد إلى الكنيسة الواقعة في شارع ممتد  ، ليؤدي بعض الطقوس المعتادة ، كان الشارع مزدحما بالمارة ، وبالمتسوقين من المحلات التجارية ، كانت خطواته تندفع إلى الأمام بين الناس ، وشعر بجلبة وحركات غير اعتيادية  حوله ، ونظر هنا وهناك ليرى رجالا أكلت الغلظةُ وسوءُ الخُلُقِ وجوهَهم الكالحة ، يمسكون ببعض الشباب ، وآخرين منهم يتلفتون يمنة ويسرة يبحثون عن آخرين ، وإذا باثنين منهم يمسكان به ، ويدفعانه بعنف ، حاول أن يفهم المشكلة منهما ، وكان الجواب المزيدَ من الركل والصفع على الوجه ، والمزيد من الكلمات التي جلبوها من مستنقعات قذارتهم ونتانة المدارس التي خرَّجتهم ليحملوا إلى الناس السياط المشحونة بالحقد والكراهية والتعذيب . وحاول أن يكلمهم ، وإذا به يُلقى داخل سيارة حملته ومن معه إلى عالم آخر . واقتحمت السيارة بوابة ذلك البناء العابس المكفهر ، لتقف حول رصيف عريض احتشد عليه طابور من غليظي الشوارب ، ومن أصحاب السِّحن الممسوخة ــ والعياذ بالله ــ  المدججين بأنواع الأسلحة من هروات وسلاسل حديدية ، ومن كلمات لايتلفظ بها إلا خسيس أو حقير منبوذ ، وتعالت أصوات الجلادين : انزلوا ياكلاب ، يا أولاد الكلاب ، انزلوا ياشـ...  يا مـ...  ، وتنهال على ظهورهم سياط البطش الفرعوني ذي الأوتاد ، ويسوقهم الرفس والركل والحُمقُ إلى ممر طويل يضم عشرات الزنزانات التي لايتجاوز ارتفاعها المترين ، ولا يزيد طول قاعدتها عن متر ونصف المتر . وأودع ( سركيس ) في إحدى تلك الزنزانات ، كغيره ممَّن جاؤوا معه اليوم ، وغيرهم ممَّن سبقوهم إلى دياجير الحضارة الحديثة ، ودهاليز التقدمية والديمقراطية ، الملأى بطوق العروسة ، ومسحب الظهر ، وحبال تعليق القدمين إلى الأعلى ، وبسلالم درجاتها مرصوفة بالمسامير الناتئة يمشي عليها مَن أُدخلوا السجون عنوةَ وهم حفاة عراة ، إضافة إلى العديد من الوجبات السريعة المستوردة من تراث محاكم التفتيش ، ذاقها ( سركيس ) ومن معه ، وربما كانت حفلة نهش الكلاب لأجسادهم أقل تلك الوجبات كلفة !!

وتمر الأيام ... يوم كأسبوع ويوم كشهر ويوم كسنة ويوم كأنه الدهر ، ويغرق ( سركيس ) في دوامة التساؤلات ، لمَ جاؤوا بنا ، ومَن هؤلاء الذين أشرقت وجوههم بالأنوار وهم في ظلمات التعذيب والتنكيل ، وقد وقعتُ بينهم كما يقع الطير الجريح ؟؟ ماذا فعلوا ؟ وإلى متى سنبقى في دنيانا الجديدة هذه !! ومَن يخبر أهلنا وأطفالنا عن مكاننا وحالنا !! يارب ... يارب . وينظر ( سركيس ) إلى جدران زنزانته يستنطقها عن مصير مَن عاش هنا قبله ، ولكنها لاتجيب ، فقد اكفهرت جنباتها ، وخلت زواياها اللهم إلا من أصداء تتردد من بعيد ، تحمل أنباء أوجاع وأنَّات قوم أُعدمت حقوقُهم بيد القاضي قبل يد الجلاد . ويستجمع ( سركيس ) قواه المبعثرة ، وعلام الخوف ؟ وهل الموت أشدُّ من هذا الموت المتكرر ألف مرة في اليوم والليلة !!  كم وكم سمع من هؤلاء الجنود الأبطال أبشع وأقذع أنواع الشتم ، وهو الذي كان يظن أنهم سيحررون بيت لحم وكنيسة المهد في فلسطين  من أيدي الصهاينة المجرمين ، ليس الموت بأشد من المشي على المسامير ، ولا من الطوق الحديدي الذي يلف به الرأس ثم يكون الضغط من خلاله على الجمجمة ، ولا هو ... ويستذكر أنواع فصول العذاب والإرهاب التي هي أهون من الموت . ألم تنس العينُ كيف تبكي ! ألم تتعود الأذن على أن لاتسمع !! ألم يتعود العقل على الصمت ... صمت جفَّت عليه الآمال ، وأظلمت دونه كلُّ ملاجئ النفس حين تضيق الدنيا الرحيبة على أهلها !!  ويدفعُ رأسَه إلى نافذة الزنزانة ، ليرى وجه أحد المساجين ينظر من نافذة زنزانته ، فاستجمع قواه مرة أخرى ، وتعرف عليه ... إنه مَن التقى به داخل السيارة التي نقلتهم جميعا إلى هذا الجحيم . فرفع صوته وسأله : من هؤلاء المساجين ؟ ماذا فعلوا حتى ذاقوا هذه الأهوال ؟ تبسم السجين الآخر وقال : هؤلاء الذين تراهم هم الذين شهدوا شهادة الحق ، ولم يرضوا بالكفر والظلم ، ولم يمالئوا الطاغوت ، لاأبالغ إذا قلت : إنهم خير البرية بعد رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ثمَّ أصحابهم رضي الله عنهم وأرضاهم . تنفس ( سركيس ) الصعداء مرة أخرى ، وأضاف كلمات هذا السجين إلى كلمات أخرى سمعها من إخوانه أثناء تناول وجبات العذاب اليومية ، وأحسَّ بروح جديدة تسري في جسده الذابل لم يعهدها من قبل ... أدار وجهه إلى داخل زنزانته وهو يردد : أولئك هم خير البرية  !! كلمات سمعها ( سركيس ) حين كان في الصف الخامس الابتدائي ، وكان يرددها مع زملائه التلاميذ ليحفظوها ، وليختبروا بها آخر العام ، أولئك هم خير البرية ... أولئك هم خير البرية ... تلك هي سورة البينة ، تذكرها ( سركيس ) حقا منذ أكثر من ثلاثين عاما ، أجل كان يرددها مع زملائه : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ... ) ويدخل في أعماق ماضيه الجميل ، أيام طفولته وفطرته ، ليتذكر : ( رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ... ) ، وتشرق جنبات نفسه أكثر فأكثر  بأنوار البينات : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ... ) .

واندفع مرة أخرى إلى نافذة الزنزانة ليكلم صاحبه السجين ، وليزداد معرفة بقصة هؤلاء الناس الذين لم ير مثل صبرهم على العذاب ، وجلدهم على تحمل الصعاب . مدَّ رأسه غير عابئ بما سيكون له لو شاهده عساكر الطغاة . .. وراح يسأل : ماجزاءُ المؤمنين بربهم ... أعني ماجزاءُ مَنْ هم خيرُ البرية ؟  نظر السجين الآخر إليه وعيناه مغرورقتان بالدموع ، و وجهه مشرق بنور التوحيد والثبات على الحق و راح يقرأ : (  جزاؤُهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا . رضي الله عنهم ورضوا عنه . ذلك لِمَنْ خشي ربَّه ) 8/البينة . ويرفع ( سركيس ) صوته : كفى ... كفى : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمَّدا رسول الله  ... أراد أخوه السجين الذي تلا عليه الآيات أن يفهم القصة ، ولكن صوت الشاويش ذي الشاربين الغليظين ، فتح باب زنزانة ( سركيس ) قائلا : اخرج ... لم يرتجف قلب ( سركيس ) كما كان يرتجف من قبل ، فلقد تمكَّن الإيمانُ من قلبه ، وقال للشاويش : إلى أين ؟ ردَّ عليه الطاغية : إلى جهنم ... ظن أنه يساق إلى حفلة تعذيب طارئة ، ولكن الشاويش وبقسوته المعهوده أخبره بأنه سيخرج من السجن . سمع ( سركيس ) نبأ خروجه من السجن ، فشعر بضيق وحيرة ماعهدهما من قبل ، كانت ترتيبات خروجه جاهزة ، إذ ليس لديه عهدة ليسلمها للطغاة الجناة ، فبعد ستة أشهر من المطالَبات ، ودفع الدولارات و ...  علم الطاغية الكبير أن الرجل الذي اعتقلوه إنما هو نصراني ، وأُخذ ظلما وحمقا مع أولئك الغرباء الذين يعضون على دينهم بالنواجذ .

وخرج ( سركيس ) من بوابة السجن الرهيب ، ليرى الشمس في النهار والقمر في الليل ، وقد حُرم من رؤيتهما تلك الحقبة . وليرى حشدا من محبيه ، مع أمه وأبيه وزوجته وأطفاله ... وآخرين جاؤوا إلى هذه البوابة المقيتة لأمور مختلفة ، ولعلاقات معينة بقصص مَن غُيِّبُوا خلف قضبان هذا الملاذ الحضاري الشامخ . وقف ( سركيس ) واندفع أهلُه نحوه ... فقال بصوت عالٍ : أين اتجاه قبلة المسلمين ؟ وجم الحاضرون ، مابالُ هذا السجين يسأل عن قبلة المسلمين !! وإذا برجل عجوز يشير إلى القبلة ، ويقول : هاهنا قبلة المسلمين يابنيَّ . فخـرَّ ( سركيس ) ساجدا على الأرض ، وأطال السجود ، وظن أهلُه أن فتاهم فقد عقله من شدة التعذيب الذي يسمعون عنه ، فحاولوا أن يرفعوه من الأرض ، ولكنه وقف من غير مساعدتهم ليردد :( أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمَّدا رسولُ الله ). وأشهد أن هؤلاء ( وأشار إلى داخل السجن ) هم خير البرية ... هم خير البرية . وأجهش بالبكاء ، فاختلطت أصوات الحاضرين ، مستفسرين ... وانطلقت سيارة أسرة ( سركيس ) به إلى حيث السعادة والطمأنينة التي كان يبحث عنها لأربعين عاما خلت من عُمر التحريَّات ؟؟

وسوم: العدد 841