وتبتسم السماء فجأة

مألوف جداً أن يعود الراعي قبل الغروب يحمل بعض ما أنجبه القطيع، وليس بمستغرب أن تضع امرأة حملها في غفلة عن قاطفات العنب أو لاقطات حبات الزيتون، فتعود إلى كوخها سعيدة بما أنجبت لتمسح تراب الأرض الذي عفر جسد المولود وكحل عينيه، وتغرس جسده في طين الأرض وبؤسها.

كل حالات الإنجاب تمت في غياب المولدة الوحيدة في القرية، أكثر نساء القرية قبحاً وأخشنهن يداً، وأجشهن صوتاً، فليس من المستغرب أن يتفق نساء القرية على أن الشؤم قد حل بقريتنا يوم نزلت تلك العجوز التي فرضت إرادتها على الرجال، وأقنعتهم بمهارتها في الصنعة، وحسن طالعها في إنجاب الأولاد، وما أشد حب الريفيين للذكور وزهدهم بهم.

لم تمطر السماء في فصل الشتاء وكل البذور التي ألقيت في جوف الأرض التقطتها الطيور والقوارض وجمعتها قوافل النمل، وكادت مياه النبع الوحيد في القرية أن تنضب، واضطر رجال عديدون إلى السفر بحثاً عن قوت الأسرة، ورحل الراعي بقطيعه بعيداً عن القرية بعد أن أصيب الماعز بالهزال، ولم تعقد حلقات الشعر، وحفلات الأعراس على بيادر القرية الخالية من أكداس السنابل الذهبية هذا الصيف كما تعودنا في نهاية مواسم الحصاد، وظلت خوابي الزيت الفخارية في أقبية المنازل خاوية وبقيت قفاف الزبيب وسلال العنب مسرحاً للعناكب في المطابخ المظلمة، وانقطع الجوالون من الباعة عن ارتياد الدروب الملتوية التي تصل قريتنا بالعالم، ولم نعد نسمع نباح الكلاب على حميرهم المحملة بالصابون، والقماش والحلوى الرخيصة، التي كنا نشتريها بالبيض، تلك العملة التي كانا يفضلونها على قروشنا الصفراء.

الجميع متفقون على أن النحس قد حل بالقرية، وهم جميعاً مختلفون حول المصيبة التي حلت بهم، وعاجزون عن تجاوزها، مختار القرية وإمام المسجد ومعلم المدرسة كل واحد منهم فسر كارثة القحط وأولها على طريقته وبأسلوبه، ولم تصدق النساء حول جمر التنور وهن يضربن بأيديهن بقايا العجين، إلا تأويلاً واحداً ربطنه بالقابلة العجوز، وأقسمن أن الخير والبركة قد فقدتا يوم حلت تلك الشمطاء ديارهم، وسرعان ما سرت تلك المقولة سريان النار في الهشيم فصدقها الجميع، حتى الأولاد في الدروب والأزقة أخذوا يرددونها وينعتون القابلة بأسوأ الألقاب.

ويمضي صيف القيظ والعطش متثاقلاً، وتشعر العجوز بالغربة والألم، وتقرر الرحيل إلى قرية مجاورة بعيداً عن المدرجات الجبلية، وتحمل أمتعتها البالية على ظهر أحدب بيد مرتعشة وتمسح باليد الأخرى رؤوس جيل من أطفال القرية كان ينظر إليها ببلاهة، وتنظر إلى المجهول مودعة كوخها المظلم وذكريات الأيام التي قضتها في الجبل.

وتبتسم السماء فجأة، وتتلبد غيوم كثيرة فوق البيوت الحجرية المتناثرة رفستها الرياح من كل جانب. وترعد السماء وتبرق، ويهطل المطر مدراراً ليروي الأرض العطشى ويسيل في الدروب كخيوط من الفضة.. ويلوح من خلف الأفق قطيع الماعز متمايلاً على ناي الراعي، وتعد الشمطاء إلى كوخها سعيدة لتمسح من جديد على رؤوس الأولاد بيد وتغرس أجسادهم في طين الأرض وبؤسها باليد الأخرى، وتهمس في آذانهم. "إن السماء تبتسم".

وسوم: العدد 844