نعي الصامتين

رغم مضي أحد عشر عاماً على اعتقاله على ذمة التحقيق، ظل أبو الحسين الحموي يحلم بالعودة إلى بيته في حي السوق، حيث القناطر الحجرية التي يعانق بعضها بحنان، ودكاكين العطارين التي تعبق بالعطور الزيتية والحناء والبخور، وألوان شتى من الأعشاب البرية والتوابل الهندية، والأصباغ الزاهية، ويسمع من بعيد أصداء باعة السوس واللبن، وضجيج الحمالين وهم يلهبون ظهور بغالهم وحميرهم البيضاء بسياطهم، ويرى من بعيد قباب مسجد السوق الناصعة ومئذنته الفارعة بأضلاعها الثمانية، والنافورة المتلألئة المياه، ويسمع من بعيد المدائح النبوية التي اشتهر بإنشادها، أبو سعيد المؤذن وفرقته.

اشتاق أبو الحسين إلى قفطانه وعباءته وطربوشه المحلى بطوقين مطرزين من الحرير، وشاله المزركش، وعصاه المطعمة بالفضة، وزاد شوقه للركن الذي كان يأوي إليه مع أترابه في مسجد السوق لسماع ترتيل الحاج زين الدين بعد كل صلاة وسطى، واحتساء كوب من الشاي، كلما سنحت الفرصة على بساطه الأحمر المتواضع.

وما كادت تنفك حبوته حتى ارتطم ظهر أبي الحسين بالجدار الصخري الذي وقف حاجزاً أمام حبه للحرية الذي يجري في عروقه، وسداً أمام خياله مئات الأميال عبر الصحراء.

لم ينس طفله الوحيد الذي قال الجميع: إنه صورة أبيه رغم أنّ أبا الحسين لم ير صورة وجهه في المرآة أحد عشر عاماً.

يتحسس الرجل وجهه، ويمرر سبابته على خطوط تجاعيد وجهه الغائرة ويمسح بقايا شعر رأسه، وينفض الغبار عن ثوبه الداكن قبل أن يعتدل جسمه، ويمشي حافياً عدة خطوات متعاكسة عله يعيد إلى جسمه الحيوية التي افتقدها، ويقاوم برودة الهواء المتدفق من خلال الباب الحديدي المرتفع عن مدخل الزنزانة عدة أصابع، وزجاج النافذة الوحيد المهشم منذ سنوات، بعد أن افتقر حرارة الحب والحنان في هذا القبر المظلم.

ويتكلم أبو الحسين هذه المرة بصوت عالٍ، بعد طول وحدة وصمت، وقد فارقته البسمة منذ مدة طويلة، وبكل ما أوتي من جرأة وقوة، وهو واثق بأن جدران السجن وبواباته الحديدية وكل رمال الصحراء التي تمتد حتى حي السوق لن تحجب نظراته وتمنع صدى صوته الجهوري.

ويصاب بالإعياء الشديد، ويظن إخوانه من نزلاء الغرف المجاورة أنه قد أصيب بنوبة عصبية كتلك التي ظلت تعاوده بعد خروجه من غرفة المحقق وتخيم على المكان دقائق صمت، أعقبها جلبة وضوضاء في الممرات الضيقة وصوت مخنوق في وسط الظلام، أعقبه صدى ارتطام رأسه أبي الحسين بالأرض وبعض كلماته الأخيرة وهو ينعى حقوق الإنسان المسلم وكل الصامتين.

وسوم: العدد 845