المقامة الجامعيَّة

حدثني بمن هو الأحداث خبير , وفي علم الرجال أمير :

بأن طالب علم جد واجتهدْ , وسهر الليالي وحصَّل وكَــدْ , وبَـــزَّ أقرانه , وفاق أترابه , وكان الأول على دُفعته والسابق في حلبته , وكانت عينُه على كرسي العلماء, ومجاورة النبلاء وأعضاء هيئة التدريس؛ وبَــذل في سبيل الغالي والنَّفيس , فبدأ سُلمه مُـعـيـــدًا , وكان يوم ذلك عيدا , والدهر سعيدا , وقد وَضع رِجلَه على سُلَّم المجد , وطريق الجِــدَّ, ورفرفت اللافتات, و ... , وامتلأ الرَّبْع بالمهنئين والمهنئات :

بـمـــراتــبٍ تُـبـنــى وبـأسٍ يُـتّـقـــــى

              وسـعــــادة ٍ تَنْـمــي وكعـــبٍ يــعـتـلــــي([1])

يقول الأمير :

ثم ما لبث أن حمل عصا السفر , وشد المئزر وللنوم هجر , فكيف له أن يهجع وينام  وله بعد التعيين - ليترقى- خمس سنواتٍ بالتمام , وبدأ في العليا يدرس , وعن التراث يزود ويحرس , ومن أمهات الكُتب يقرأ ويقبس , يفخر بمهنته , ويتيه على مجايليه بدرجته ورتبته , وليس عليه في هذا الفخر من بَاس, فهو باحثٌ ودارسٌ وملازم للعِلم في الأساس ,  ولسان حاله قول أبي فراس  :

ونحن أناسٌ لا توسطَ بيننا     

        لنا الصـــدرُ دون العالمين أو القبر

تَهونُ علينا في المعالي نفوسُنا     

              ومن يَخْطُب الحسناءَ لم يُغْلِها المهر

أَعَزُّ بني الدنيا وأعلى ذوي العلا   

               وأكـــرمُ مَـــن فوقَ التراب ولا فخر([2])

وظلّ هكذا يبحث ويكتب, ويصول ويجول , والكتاب ملازمٌ له في الظَّعن والسفر ,  والإقامة والحَضَر , عنقه مشرئبة , وروحه مطمئنة , والمستقبل القريب مأمون , والمتاعب من أجل "عضوية التدريس" تقل وتهون , وبدأ يرعد ويثور, مرددًا قول صاحب هذه السطور:

رُقـــــــيــــــــتُ أنــــا المعــــاليَ مِن قديــــــمٍ            

          عَـــــلَـــــوْتُ فــــــــلا أُقـــــنَّـــــــــع بالكَـــــفـــــــافِ

وما كنـــتُ الـــذي يَمـشـِـــــــــــــــي بزهــْـــوٍ          

            ولا كنـــــتُ المـُـــــخــــاصِــــم فـــــــــي جِـــــــــزاف([3])

فللإحسان بالإحسان أَجـــــــــــــــزِي           

           ولـــلأشــــــــــــــــرار بالسُــــــــــــــمِّ اـلــــــــــزُّعــــــــــــــاف([4])

فقلت له : روَيدكَ بعضَ هذا الحِرْصِ الشديد , والعزم العنيد , فقال:  لله درك ! أنَّــى لي التواكل والتثاقل,  ولم يبق على ولوج عالم السعادة والفخار سوى خطوات قلائل ! فـــــــــــــ

لأسْـتَـسْهـِلَـنَّ الـصَّعْــبَ أوْ أبْلُــغَ الــمُنــى  

             فَمــا انقـادَت الآمــالُ إلا لـصــابــــرِ([5])

يقول الأمير :

وبعد حين من الدهر أخذ الدرجات , وزيَّن- من فرحه - جدران بيته بالشهادات , وكان ما كان , وتقلب وجْهُ الزمان , فكثُرت الضغائن والإحن , وقلب له الدهر ظهر المِجن , وبات يندم على حلم أمَّـلــه, ودرب سلكه, فهو الآن لا يستطيع أن يعول بيته , ولا ينشر بحثه , وقد تعمَّد القومُ إذلاله , وخططوا لإسكاته وإهماله .

فقد علموا أنه لو راق بالُه , وانصلح حالـه , سيكشِف المستور , ويَفضح الموتور , بـيْــد أنه مثقفٌ واعٍ , وخطيبٌ للقوم وداعٍ , وحارسٌ للقيم وراعٍ , وحكيم مُطبِّبْ , لكن مع ذلك - كله - فكأنه الذي قصده أبو الطيب :

إِلى أَيِّ حينٍ أَنتَ في زِيِّ مُحرِمِ    

                      وَحَتّى مَتى في شِقوَةٍ وَإِلى كَمِ([6])

قلت له : وكيف حال الأساتذة , والأفذاذ الكبار الجهابذة  , ورأي العلماء الكبار , وأولي النُّهى والاعتبار ؟

قال في يأسٍ وأسى- وليته سهي أو نسى- : هؤلاء معظمهم أكلوا خيرَ الخليج , وطافوا حوله كالحجيج , وغنموا منه كل غالٍ وبهيج , وقفلوا مترعين , وللمناصب ساعين , ولأموالهم مستثمرين , وطفقوا يطلبون من البراعم رَبـْـــــــط البطون , وهـــــم فــــي الديــباج يــــرفــلـــون , ولطلب الحق صامتون , فلا أميرًا نصحوا , ولا بمقولة صِدقٍ صدحوا ؟!

ورفع السادة الأعضاءُ الأمرَ إلى الزعيم , وأمَّلو فيه الخيرَ العميم , لكنه لم ينبِس بحرفٍ أو بكلمة , فكانت خزيًا ولكمة , ولا زال الأمر منظور , والعالِم إما مقهور أو مأسور أو مقبور , حتي يأتي الله بالنور,  فإليه يرجع الأمر كُلُّه , وله عاقبة الأمور . 

([1])   

([2])  ديوان أبي فراس الحمداني , ص93 , المطبعة الأدبية , بيروت , 1910م .

([3])  الجَزْفُ: الأَخذُ بالكثرة , وجَزَفَ له في الكيْل, الجَزْفُ:  أَخْذ الشيء مُجازفةً وجِزافًا .

([4])   من قصيدة مخطوطة للكاتب .

([5])   البيت من الشواهد النحوية , ولم أقف على قائله . ينظر : شرح ابن عقيل , ج4, ص9, تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد , دار التراث– القاهرة, 1980 م .

([6]) يقول : إلى متى أنت عريان شقي بالفقر. شرح  ديوان المتنبي ,البرقوقي, ج4, ص150, دار الكتاب العربي , 1986م.

وسوم: العدد 855