وعيني أيضا ...

في دار ( أمجد ) وفي غرفة المكتبة ، كانت العيون دامعة ، والصدور متأججة بنار الثأر ، فقد رحل شيخ المجاهدين شهيدا ، على أيدي الصهاينة ــ لعنهم الله ــ بعد صلاة فجر اليوم من شهر صفر الخير . في حين راح ( إبراهيم )  يؤكد أنها عملية تؤكد تطور الغدر ، واعتماد الحرب المفتوحة ، وحرية التصرف الشائن ، بعد دفنِ سراب مايسمَّى بالمثل التي تدعيها زورا حضارة هذا القرن المزيفة الفاجرة الماكرة . التي منحت الطغاة والبغاة والغزاة وشرائح المجرمين منشطاتها مجانا من مصانع الحقد التي تفاخر دائما بقوة حقنها ، وتتباهى بشدة فعاليتها من غير ضجيج .

هزَّ الحاضرون رؤوسَهم ، ورنوا بأعينهم المغرورقة بالدموع السخينة إلى أخيهم ( إبراهيم ) وهو ينبه إلى ضرورة الوعي بالأخطار التي تداهمُ الأمةَ ، ليس في فلسطين وحسب ، وإنما في كل أرجاء العالم الإسلامي المستباح . في حين لفت ( نادر ) انتباه مَنْ حوله من الشباب إلى أهمية العودة إلى النفس ، إلى الوعي بضرورة إقامة منهج الله سبحانه في نفوسنا ، في بيوتنا ، في سلوكنا ... فقوتنا تكمنُ إقامة دولة الإسلام في النفس والبيت والسلوك ، في بناء الهوية المسلمة المتميزة ، إن مجرد الشعور بعبء القهر لم يكن مجديا من غير التزام بمنهج الرُّشدِ الرباني ، ومن غير حركة الفئة التي على الحق التي بشَّر  بها رسولنا صلى الله عليه وسلم ، وبشرها هي أيضا بالفتح والتمكين .

ويُطرق بابُ الدار. ويهبُّ ( أمجد ) وعيناه تحتضنُهما عواطفُ المودة الجياشة ، فما زال الحديثُ ذا شجون وشؤون ، فقد كان خيار معظم وسائل الإعلام السمعية والبصرية تقديم الرجل المعجزة صاحب كلمة ( اتركونا نمتْ بشرف المجاهد ) . ويفتح البابَ ( أمجد ) ليجدَ صديقَهم ( نديما )  يلقي السلام ، ويدخل ويأخذ مكانه ، وقد ألقى بمجلة ( ال... ) التي جاء بها على المنضدة التي تربعت بين ستة كراسي . وعليها بعض الكتب . وعدد من المجلات مثل ( الجسور ، الدعوة ، المجتمع ، البلاغ ، المجلة العربية ... ) وكانت مجلة ( نديم ) نشازا بينها ، إذ أغنى المفكرون الإسلاميون وسائل إعلامهم بالقيم السامية والعلوم النافعة ، التي تشد الشباب التَّوَّاقين لإعادة رفيف رايات المجد والسؤدد ، بينما غرقت ( نديم ) ومثيلاتها من وسائل الإعلام الهابطة في مستنقعات النكوص والخذلان وعدم الإحساس بما نزل في الأمة من مصائب ورزايا شاب لهولها الولدان في زمن الانكسار والخذلان .

ويرمق ( نديم ) وجوه أصحابِه ، ويحاول أن يتناسى ماسمعه ، وما رآه منذ ساعات الصباح الأولى لهذا اليوم على شاشات الرائي ، فمَن الذي لم تلطم فاتحةُ نهارِه بفجيعة العصر الموجعة ؟! . واستطرد ( نادر ) موغلا في رحاب معاني منهج الرُّشدِ الرباني ، وأنه فوزٌ بكشف روحيٍّ ذي مفردات قدسية ، تنهضُ بالنفسِ من غفوة اعتادها ، أو كبوةٍ أقعدتْها ليكون نورا يترقرقُ على وجه صاحبها ، وزادًا ثـرًّا يجدد رغبةَ الروحِ في فتح أبواب الملأ الأعلى ليشم عبير الخلود الآمن في ظلِّ رحمة الله .  

تدخَّل ( نديم ) مستفسرا مأخوذا بما يسمع ... هل تتحدث عن مغامرة أو عن مشروع حضاري في حالة نُمُوٍّ وإبداع ؟!  عاجله ( نادر ) : بالضبط كما قلت ، أرأيتَ ياصديقي الشجرة الخضراء المثمرة ، ألا تلزمها الرعاية ، ألم تكن بحاجة إلى الأرض الطيبة ؟ والمياه المتدفقة ؟ والأيدي الكريمة الخشنة ؟ قال ( نديم ): بلى . فأردف ( نادر ) : كذلك النفس البشرية لابد لها من منهج رشد ، حيثُ النورُ الرباني الذي يسري في آفاق الوجود ، وبغيره لايمكن أن ترتقي الأنفس وتسمو الأرواح . إن شدة غبار الآثام ، وعصف الأهواء ــ ياصديقي ــ أوقع الأمة في هذا الديجور المفزع ، وفي هذا المنحدر الرهيب من الترهل والتمادي . لقد انكفأت النفوس بعد أن استساغت ترجمة سير الفاسقين والبطَّالين في شوارع الكِبر الدولية . لم يعجبْ ( نديما ) هذا العرض الغريب ، كان يقلب صفحات بعض المجلات من غير اكتراث لِما فيها ، وألقى إحداها بعبث قائلا : إن الحياة باتت وكأنها منطلق رسمي معتمد ، يسوده نظام محدد ، لايقبل إلا مَن ارتضاه ، ورضي بإرساء قواعده وأنماطه المستحدثة في كيفية تناوُل متطلبات الحياة . ردَّ ( أمجد ) بانفعال : تقصد التبعية أم العلمانية الجديدة . قال ( نديم ) وقد عجب من انفعال ( أمجد ) : نعم ... هذا أمر واقع ، ألا ترى كيف تتم طريقة تناوُل أساليبها وأنماطها ؟! بل حتى طريقة تناول طعامها وشرابها ولباسها . ناهيك عن  مواعيد النوم و ... كان بجوار ( نديم ) صديقه المزعج له دائما ، فوكزه بلطف هذه المرة ، وعلى شفتيه ابتسامة حبسها هدوء لم يعهدْه ( نديم ) من قبل ، وقال له : كأنك تريد أن تقول إنها قصةُ التطور التي جنَّ بها بعض الناس أمثالك ياصديقي في هذا القرن . كما قال أحد المفكرين الأبرار . وأود منك وأتمنى عليك أن تقرأ الفصل الأخير من كتاب هذا الرائد الذي لم يكذب قومه ، ولم يستأثر بشيءٍ من فكره النيِّر على أمته . قال ( نديم ) : مادامت قصة تطور كما تقول فهذا هو التطور ، وهذه هي معطياته ، وأنا أقول : هذا هو الواقع الذي نعيشه .

عاد ( نادر ) ليجدد الحقائق الناصعة أمام التجاء ( نديم ) إلى وهم المعالجة المغلوطة المفرطة باليأس والانبطاح . فقال : قد يكون للواقع الكثير من الأخطاء والمغالطات ، وقد يكتنفه الخلل المدعوم بالقوة الغاشمة ، وقد تسوس أهلَ هذا الواقع المصلحة والنفاق والغدر أو الظلم ، وهذا كله ينعكس على طبيعة أنماط حياة المجتمع الخاصة والعامة ، كل الناس يأكلون ويشربون ويلبسون ... ولكن الطريقة تختلف ، والنوعية تتعدد ، وليس في هذا وحسب وإنما في الاعتقاد و طريقة الأداء . قال ( نديم ) : الغاية من الأكل امتلاء المعدة بالطعام والشراب ، فما هو الضرر من الطعام ومن طريقة تناوُله ، ومن نوعه ؟ أجاب ( نادر ) : الفرق كبير ــ ياصديقي ــ بين لحم الخنزير ولحم الخراف ، والفرق واسع بين قدح من اللبن أو الماء وبين قدح من الخمرة . هذه ناحية وناحية أخرى تعود بنا إلى منهج الرُّشد الإلهي ألا وهي أن الإسلام جعل لعملية الطعام والشراب آدابا بل تشريعا يُثاب عليه المسلم إذا التزمه . بدا على وجه ( نديم ) الارتباك ، وتكلم ... فكانت كلماته كالهشيم المبعثر ، وكأنه يريد التخلص من هذه الورطة التي استساغ خلطها لعدة سنوات خلت . رغم صرامة وقوة مايجد من ردود ذات مصداقية وواقعية وبراهين . فقال : هذا أمر !!! ولكنَّ أمورا أخرى يكون للإنسان فيها كامل الحرية في تناولها راغبا أو رفضها . احتدَّ ( نادر ) في لهجته : اسمع ( يانديم ) أفكارك أعرفها ، وعنادك بالباطل لايخفى ، فلا تؤاخذني  إن قلتُ لك بأن هذا الخلط الممجوج لايعود عليك إلا بحرمانك من متعة أشواق النفوس الطاهرة وهي تتسامى على أجنحة الرضا بمنهج الله العظيم . وعليك أن تقرأ هذا الكتاب ففي فصله الأخير دواء لداء النفوس المتشبثة بالوهم وبزيف الشهوات الزائلة ، والتائهة في الخيارات السيئة . تناول ( نديم ) الكتاب من الرف الثاني في المكتبة ، ومن بين العديد من الكتب الأثيرة لمؤلفيها من علمائنا الأفذاذ ، ومفكرينا الأبرار  . ويأخذ بتقليب صفحاته، بينما راح ( أمجد ) يذكره بأن الله خالق الخلق جعل في الناس الفطرة السليمة المنسجمة مع القيم الإنسانية  ، وهي نفسُها منهج الرشد الرباني في كل أقوال وأفعال وأماني النفس التَّوَّاقة إلى السعادة الأبدية ، وهنا موئلها وأساسها الثابت . قام ( أمجد ) وجلس جانب ( نديم ) وشاركه في تقليب صفحات الكتاب ، وأشار إلى بداية صفحة جديدة ، وقال ( لنديم ) اقرأ من هنا فقرأ ( نديم ) : ( كان هذا هو الأمر الطبيعي ، مادام الإسلام دين الفطرة . إن المشاعر المرفرفة ، والوجدان المشرق ، والأفكار الجميلة المتألقة ... لاقيمة لها إذا لم تتحول إلى قوة بانية في عالم الواقع ، وأن تتحول إلى حقائق ملموسة في سلوك  الناس  ). حاول ( نديم ) التَّهرب مرة أخرى من استنفار قوة الفكرة ، وبراعة البيان ، فقال : هذه موروثات ليس لحضورها أهمية في دنيا المنجزات العصرية ، يأخذها بعض الناس بلا وعي ، ومن غير نضج في الفكر والتجربة ، فأضحت متكأ على أرصفة العناد فليس من رؤى جياشة بالمآثر ، ولا ملامح تستثير عربات العطاء الحضاري . قاطعه ( نادر ) : إلا العلم فقد سجد في محراب الإيمان واليقين ، ولقد جئتَ بما أردت أن أقوله تماما : إن مناهج الرشد هي في حضور الموروثات ــ التي تعنيها ــ وهي الروح المؤثرة التي تقوم في ظلها الحضارات الآمنة والمنجزات الإنسانية ، وقد اعترف بها أهل الوعي من العلماء في الغرب ، بل وأعلن بعضهم إسلامه عندما ثبت لديهم أن تلك الموروثات  إنما هي الأصول الثابتة والجامعة لكل معطيات الحضارات المتتابعة على مرِّ العصور . وليس العناد هو المتكأ لأهل هذه الموروثات كما تقول ــ هداك الله ــ  بل هو الإيمان المستنير بقدرة الله وعلمه وتقديره ، وتدخل ( أمجد ) مرة أخرى قائلا : إني أُذكرُك ، لا . بل أسألك : لماذا أسلم السفير الألماني( الفريد هوفمان )  أو ( مراد هوفمان ) وكان راتبه الشهري عشرين ألف مارك ، وهو ابن حضارة الغرب المتمتع بإنجازاتها ؟  اشرأبت عينا ( نديم ) وقال : لم أسمع بهذا الرجل ولا بقصة إسلامه . قا ل ( أمجد ) : إذن فاقرأ كتابه المشهور ( الإسلام هو الحل البديل ) الذي قلب به موازين التفكير ليس في ألمانيا وحسب ، ولكن في سائر دول أوروبا حين دعا ( مراد هوفمان ) الشعب الألماني إلى الدخول في دين الله الإسلام ، وحين انتفض أعداؤُه أعداءُ الإسلام يريدون الوقيعة به نصره الله حيثُ أقرت وزارة الخارجية في ألمانيا بتبرئته ، وأقرت حقَّه الطبيعي في إيمانه وإسلامه ، بل وبدعوته لمَن شاء للدخول في الدين الإسلامي .

أُسقط في يدِ ( نديم ) وتلكأ مشروع مناهضته للحقائق الدامغة ، ذلك المشروع المتهالك الذي يتذرع به المبطلون . وانتظر نجدةَ فكره المبرمج على التشكيك والعناد والهوى ,ولم يجد أفضل من أن يقول : هذه قصة جديدة ــ وإن كانت مثيرة ــ صدِّقوني : أنا لم أسمع باسم هذا الرجل إلا في هذه الساعة . وانتهزها ( أمجد ) فرصة مواتية فقال : وكذلك لم تسمع بالشيخ الشهيد أحمد ياسين يرحمه الله إلا في هذا اليوم  !! أطرق ( نديم ) ... وأنجده ( نادر ) بقوله : إنكم أبناء جلدتنا الذين تتكئون على المغالطة والعناد لتحجبوا قيم الإسلام عن أهله وعن الناس ، لأنكم لاتريدون أن تعلموا كيف استجركم الأعداءُ إلى ملاهي التقصير ، ومراحات التلهف للمغريات التي أعدُّوها لتكون مصايد لكم .

كان مروان مطرقاً ساكتاً طوال الجلسة , فاعتدل ومسح وجهه النضير بكلتا يديه, ونظر إلى (نديم) نظرة الأخ المشفق على أخيه وهو يغوص في ظلمات الضياع, وقال : كأنك لم تعلم بما هيأت دور النشر للأسواق من كتب ذميمة ملؤها السموم والأكاذيب والتضليل , لتقدمها لأبناء المسلمين من أجل اقتلاع صمود الفطرة الإلهية , وإطفاء جُذى الحضور الإسلامي الواعد في ليل المؤامرات الماكرة ....في واقع أمتنا الكالح الحزين ..وتنهَد (مروان) وساد الغرفة هدوء حزين وراح يترحَم على الشيخ الشهيد أحمد الياسين , مذكَراً بوصفه لواقع العرب والمسلمين ..بالموت والعجز , موت القلوب , موت المروءة , وانكفاء المشاعر النبيلة , ومع ذلك فقد آثر أن يموت أبيَاً شجاعاً واقفاً بعزة وشرف , واثقاً بأن الله سيقتص من كل من فرَط أو خان أو استكان ...وأما العجز فقد أضحى أسطورة من نوع جديد . لها أوبريتها الخاص ,وشريط كليب خاص حيث أتقنته صناعة الإخراج على أيدي الفنانين بأصول التمثيليات لأكثر من خمسين عاماَ . وحيث زوَقته ونمَقته أنامل العلمنة والعولمة والحداثة والنظام العالمي الجديد بالحرب غير الباردة على الإرهاب .                                                                         

دخل( سامر) مستأذناَ أخاه (أمجدا) ليأخذ إبريق الشاي ويجمع الكاسات من أمام الضيوف الأعزاء , ودخل معه صوت الرائي وهو ينقل مسيرة الوداع الأخير للشهيد , حيث التهليل والتكبير والوعيد لليهود الصهاينة , وحيث صوت الشيخ – يرحمه الله – يعود يردَد كلماته الأخيرة التي يشكو فيها حال الأمة , ويرفع شكواه إلى رب العالمين . كان دعاء حاراً أسال الدموع , وأثار المواجع في القلوب , وأجهش الجميع بالبكاء , وقف (سامر) الذي ما تجاوز الخامسة عشرة من عمره يبكي بمرارة ويقول : من ذا الذي لايبكي على فراق الشيخ , وازداد نشيج الحاضرين وقال (أمجد) : قلوبنا تحزن , وعزائمنا تتوعد , وعيوننا تدمع .. وارتفع صوت (نديم) : وعيني أيضاً . اللهم ارحم الشهداء , وأبدل عجزَ أمتنا قوة ... ردَد الجميع آمين .. آمين .. وقاموا يعانقون أخاهم (نديماً) ويدعون له أيضاً بالثبات على الطريق .

وسوم: العدد 839