نافذة للحنين .. نافذة للشجن ..
نافذة للحنين .. نافذة للشجن ..
أحمد ضحية
كان اخر لقاء لهما قريبا من الفندق الذى تقيم به , فى احد الصباحات الباردة من موجات فبراير القارسه .. لم يشعر لحظتئذ بالبرد , فيده المحاطة بكفيها الناعمتين , تدفئانه وتزرعان فيه احاسيسا لا اول لها ولا آخر .....كان قد اتصل بها من محموله وجلس ينتظرها على احد البنشات المطلة على مشتل ناهض عند شفة النيل .... ما ان جاءت وجلست قربه حتى تشتتت افكارهما , وضاع كل ما اعداه من كلام , ليبقى الصمت فقط معبا بالدلالات و محاصرا بالرموز التى تفوق احتمال المكان ! .. وعندما ابتعدا فى اتجاهين متعاكسين .. توقف يتابعها ببصره
وهى تناى حتى غابت عند مدخل الفندق دون ان تلتفت ... فى التليفون قال لها الحكمة
الاميريكية :
go on
فهمست بما تسرب الى رئة المكان ليتنفس اشجانه فى زفرة ملتهبة ! ...
وهو فى الطريق الى شقته الصغيرة فى الجيزة , اتصل بها فى المطار .. لم يتمكن من
الوصول اليها .. كانت طائرتها قد اقلعت , تحملها الى منفاها البعيد , مخلفة
وراءها رائحتها وملامحها فى كل شىء حوله ......
كانت ميمى قد جاءت بعد حنين طال , محملة بالبشارات كانشودات خريفية يانعه , وكوعد خصبه زمن غامض . فخص به مكانا اشد غموضا ... بحث عنها فى الزحام حيث تنتظره عند محطة المترو , يتفاعل فيها الشوق والحنين والترقب , ليعطى انتظارها معنى كونيا عيقا ومتحفزا .. طعما متوترا برائحة القلق الخرافى , فلا تستشعر القادمين والذاهبين .. المارة والباعة المتجولين ... رغم تفرسها فى الوجوه الموسومة بالضجيج والفوضى والارتباك ... تبحث فى هذا الركام عن وجهه الاليف .. وجهه الذى تركته خلفها فى الخطابات والصور والرسائل الاليكترونية ... وجهه الخارج من الصمت الى الصمت ... امامها . .. حمله طيفها . عله يخرج من الزحام فجاه مبتلا بالوعد والمواعيد ........
فى غرفتها بالفندق تلمست ذكرياتها القادمة .. تحسست مشاعرها وهى تلقى ببصرها على
النيل المتململ اقصى حدود الشتاء , نافذه لحب يحيا فى الازل , نافذة تدخل فيها
عروس النيل الى عرش الخصوبه . يحملها الملائكة الكروبيين . لتدفىء الجنه بالشجن
. وتاخذ من عذوبتها .... تنسج على الكورنيش الممتد كافعوان وافعى للربيع جلدا
جديدا لهما وهما يمارسان لعبة الحيا ة الموت الخصوبة ..........
نضت عنها ترقبها وهى تضغط ازرار هاتفها الانثوى الصغير :
* لقد وصلت بطائرة المساء.
*واحشانى موت..
القاهرة مدينه غريبه عليها , لاول مرة تطاها ........غامضة ومجهولة كما تخيلتها .. حية ومربكة ومرتبكة كما تراها الان !..يربكها انتظارها له بهذه المحطة . تربكها معاكسات المراهقين , ونظراتهم المتسلله الى كنوزها .. كنوزه .. يربكها دفئه الذى يحاصر كل ذرة بكيانها ... تربكها كل التفاصيل : الترقب . الحذر . !..... كانت اشد توترا منه , عندما اتصل بها اكثر من ثلاث مرات على الموبايل يسالها ان تحدد موقعها بالضبط .." فى اى مدخل من مداخل المترو يا ميمى ؟ " هرول بين المداخل المتباعدة لمحطة السادات عدة مرات
لم ينم اثر مهاتفتها له .... ظل منتظرا هذه اللحظة التى اشتاقها منذ وقت طويل , وهو يستعيد المكالمات الطويلة منذ الصيف لماضى , عن الذى جرى معها ومعه ..عن الغربة وحكايا الليال الطويلة .. عن الحنين الى و طن فى الدفء .. عن دف فى ليال الشتاء الباردة
فى السادسة صباحا بالضبط ازال لحيته , وغسل عنه اثر الخمر والنيكوتين .. اعد لنفسه
قهوة ثقيلة . ارتشفها بتوتر وهو يلاحق عقارب الساعة التى تمضى فى اتئاد . وينقل
بصره بينها وبين سماعة الهاتف الى ان جاءه صوتها فى الجانب الاخر :
* انا مستعده للخروج .
* انتظرينى فى السادات .
تعطر بعطره المميز وخرج .....
احبها كما لم يحب من قبل حاصرته بدفئها وعذوبتها وهدت كل القلاع التى يحتمى بها ... دهمته خارجة من تلافيف ماض حميم , التقيا فيه بهدؤ وعلى مفترقه مضيا فى صمت جارح ..... لكنهما ظلا موسومين , بذاكرة الجروح الحية . المتجددة كشجن ممتدوحنين لا يطويه الزمان ولا المكان .....كالمطلق خارج التحولات ...........خارج التغيير ......ففى المنتهى يتبديا كروح نبى زاهد , يرتقى مدارج المحبة والسلام وهو يحبهما فى حميمية وتؤدة ..
اقتنصتها عيناه من بعيد عند دخل المترو .. كالهة يونانية تبدت ميمى عن سحرها العميق ذاته
, وكاثنين محملين بحنين الارض لاشواق السماء . احتضنها بقوة دون ان يابها للزحام !.. كانا حاضرين فى الغياب غائبين فى الحضور..وكالمغيبين فى اغماء طويل , لم يستشعرا النظرات الدهشة للناس الذين التفوا حولهما ..........
سحبها من يدها الى داخل المترو .. كادت المحطة تفوتهما ..........كانا هائمين فى
.. فى فضاء هيولى شفاف , يؤدى الى الارخبيل الذى بداخلهما ...
بشقته الصغيرة فى الاندلس اجلسها على حجره.. ناما بعد ذلك متصالبين ..يصلبان
حرمانهما .. عجف الزمن .. جور الناس , وقسوة الحياة .. خواء الغربة والم
الذكريات... يصلبان اوجاعهما المقيمة فى وجدانيهما المنهكين ..... اوجاعهما
الثاوية الى عمق سحيق فى الخلايا والعصب : ذاكرة لشجن ازلى وحنين مقيم كاسرار
الهية ومواجد نبوية راحلة فى الابدية " طوبى للغرباء ! " .. همس ...فتاوهت ..
كانت نيرانهما تزداد اشتعالا ولا تخبو .. وكان ترقبهما لميقات رحيلها يشعل فى
القلب اشواقا لا تنضب , كالاتون .. اشتعلت الغرفة بالحميمية , بالتوتر , بالقلق .
بالانصهار .......لتتناثر بقايا صور فوتغرافية توقف فيها الزمان عند لحظات نابضة
بالوجد والمواجد .....................