اليونان والعالم العربي: الحسابات والحساسيّات السياسية والدينية

من المعروف أن لليونان علاقات قديمة مع العالم العربي تمتد حتى عهد رحلات التعارف العلمي والرحلات التجارية قبل ولادة السيد المسيح عليه السلام. واستمرت هذه العلاقات في العصور الوسيطة بين شد وجذب وتواصل وتدافع، ما تذخر به كتب التاريخ والفلسفة والفكر لدى الطرفين

.clip_image002_a5db9.jpg

في التاريخ الحديث، ومع نشأة الدول القومية العربية، كان لليونان، قبل عضويتها الكاملة في الاتحاد الأوروبي، تعاونٌ وثيق ومصالح كبيرة مع الدول العربية. وكانت الحكومات اليمينية في سبعينيات القرن الماضي تُفضل اقتناصَ الفرص التجارية دون الخوض في الأمور السياسية للعالم العربي، فكانت للشركات اليونانية حصتها في مناقصات البناء والإنشاءات المختلفة في دول عربية عديدة، وكان للشركات البحرية اليونانية حصتها كذلك من عقود نقل النفط العربي. ولا تزال الترجمة الأشهر للقرآن الكريم الى اللغة اليونانية التي قامت بها شركة لاتسيس اليونانية للنقل البحري عام 1978 حتى يومنا هذا من معالم تلك الحقبة.

أما الاشتراكيون الذين جاؤوا إلى السلطة عام 1981، فقد جمعوا التبادلات الاقتصادية والسياسية معاً. وكانت هناك

 clip_image004_c0763.jpg

علاقات وثيقة بين مؤسسي الحزب الاشتراكي لعموم اليونان (باسوك) وبين حركات ثورية عربية أبرزها منظمة التحرير الفلسطينية، وكذلك بين حكومة باسوك وبين أنظمة عربية مثل ليبيا والعراق وسوريا ومصر والجزائر، مع تفاوت في مستوى العلاقات مع كل دولة منها. وكانت مساندة الشعب الفلسطيني إحدى النقاط التي أبرزها الزعيم الاشتراكي الراحل أنذرياس بابانذريو أكثر من مرة في خطاباته التي ألقاها لنيل الثقة أمام البرلمان اليوناني. في المقابل كان لعلاقات باباندريو مع منظمة التحرير دورٌ كبير في جلب دعم مالي كبير من دول الخليج، خاصة دولة الكويت، التي دعمت النظام المصرفي اليوناني بشكل كبير.

وفي تلك الحقبة استقبلت أثينا الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات رسميا وشعبياً أكثر من مرة، وخرج آلاف اليونانيين لاستقبال الزعيم الثوري الذي صارت شعبيته تنافس شعبية بابانذريو وتطغى عليها أحيانا. وكان الاشتراكيون واليساريون اليونانيون على علاقات مع فصائل منظمة التحرير بمختلف أطيافها ويعرفون بالتفصيل الفروق الأيديولوجية والتنظيمية بين تلك الفصائل.

وخلال أزمة حصار بيروت من قبل جيش الكيان صيف 1982، لعبت اليونان دوراً بالغ الأهمية في الترويج للمقاومة الفلسطينية وكانت الدبلوماسية اليونانية تتنافس مع الرأي العام اليوناني في إظهار بطولة البندقية الفلسطينية في مواجهة الآلة العسكرية الجبارة لجيش الاحتلال والتضامن معها. وتحول مراسلو الصحف والتلفاز اليوناني الذين كانوا ينقلون أخبار الحصار من بيروت إلى أبطال ينتظرهم اليونانيون ليتابعوا ما يجري وهم متجمعون في الساحات والنوادي والمنازل.

وكانت سفن يونانية وقبرصية أجلت مقاتلي منظمة التحرير من بيروت صيف 1982 ثم مرت باليونان في طريقها إلى تونس، ليستقبلها اليونانيون بكل حفاوة، كما خرجت في اليونان أول وأضخم التظاهرات احتجاجاً على مجازر صبرا وشاتيلا.

وفي منتصف الثمانينيات فَتَرَت العلاقة بين بابانذريو ومنظمة التحرير لأسباب مختلفة، لكنّ اليونان لم تعترف بالكيان في تلك الحقبة، حيث اندلعت الانتفاضة الأولى في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ما شكّل حاجزاً معنوياً أمام هذا الاعتراف.

وفي تلك الحقبة كان الوجود العربي الرسمي في اليونان قوياً، وإن كانت تشوبه خلافات بين ممثلي وسفارات الأنظمة العربية المختلفة. وكانت في اليونان ممثلية لجامعة الدول العربية ومكتب لمقاطعة الكيان، وكان هذا المكتب يحتج على أي تعامل تجاري بين اليونان والكيان مهما كان حجمه.

ثم جاءت حكومة يمين الوسط بقيادة كوستاندينوس ميتسوتاكيس (1990-1993) لتنادي بضرورة التوازن في علاقات اليونان مع المنطقة، ولتقوم بالاعتراف بالكيان وفتح سفارة له، مع فتح ممثلية فلسطينية في المقابل.

وفي عهد  كوستاس سيميتيس 1996 -2004 الذي خلف بابانذريو، ولّت اليونان وجهها شطر المعسكر الأوروبي واهتمت بالاندماج في الاتحاد الأوربي الواعد، وأهملت علاقاتها مع العالم العربي، ولم يقم سيميتيس خلال تلك الفترة بأي زيارة للعالم العربي.

عاد اليمين (الديمقراطية الجديدة) بقيادة كوستاندينوس كرمنليس الى الحكم (2004-2007) وفي عهده لم تحدث اختراقات مهمة في علاقات اليونان مع الكيان، إذ حاول كرمنليس الاقتراب من روسيا عبر مشروعات طاقة، لكن تلك المحاولات لم تنجح بسبب عتراضاتٍ أوروبية وأمريكية.

ثم جاءت حكومة الاشتراكي جورج باباندريو، نجل أنذرياس بابانذريو، ليلتقي منتصف شهر آب/أغسطس في أثينا رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو في لقاءٍ لم تسبقه أي مقدماتٍ – علنية على الأقل - وأعلن الرجلان عن سلسلة خطوات سريعة لتطوير العلاقات بين البلدين.

clip_image006_45359.jpg

ولمّا كانت تلك الحقبة تشهد انهيار العلاقات بين تركيا والكيان بعد حادثة سفينة "مافي مرمرة"، فقد وجدت اليونان والكيان أن تطوير علاقاتهما يشكل فرصة جيدة لكلٍ منهما. فقد كان الكيان يبحث عن دولة يستغل مجالها الجوي لتدريب طياريه، فيما كانت اليونان تبحث عن حليف في وجه تركيا ذات القوة المتصاعدة. وهكذا عقد البلدان اتفاقيات كثيرة، لكن الذي ترجم منها على أرض الواقع كان في معظمه أمنياً وعسكرياً.

الربيع العربي يعيد خلط الأوراق

جاءت حركات الربيع العربي لتضع العالم أمام وضع جديد غير مسبوق. وصدرت إشارات ترحيب وإعجاب يونانية بتلك الحركات كأمرٍ واقعٍ بعد نجاح موجتها الأولى، لأنها لم تكن قد اكتسبت أي لون سياسي أو أيديولوجي.

ومع وصول الرئيس محمد مرسي إلى السلطة، واشتعال الثورة في سوريا، اتضح للجميع أن المستفيد الأول من حركات الربيع العربي هي الحركات الإسلامية، أو ما يسميه الغرب بحركات الإسلام السياسي، وتمّ الترويج لمقولة إن تلك الحركات استغلت حركة الربيع العربي وامتطت ظهرها، فيما لم تكن لها أي يدٍ في إطلاقها أو إنجاحها.

التحدي هذه المرة كان مختلفاً. لم يعد على اليونان الاختيار بين العرب والكيان، بل بين الشعوب العربية وأنظمتها. وهذا التحدي واجهته بالطبع دول العالم بأسره بما فيها دول العالم الغربي ذات الأنظمة الديمقراطية. لكن معظم هذه الدول انحاز إلى الأنظمة الشمولية إيثاراً للمصالح الاقتصادية والهيمنة السياسية على المنطقة.

لا بد من الإشارة هنا إلى أن اليونان لها خصوصيات تراعيها دوماً في العالم العربي، وأهمها وجود بطريركيات ثلاث تتبعها، وهي بطريركيات القدس وأنطاكية والاسكندرية. وتتجاوز هذه البطريركيات البعد الديني لتصل إلى النفوذ السياسي والثقافي. وتحرص أثينا على عدم حدوث أي تغيرات سياسية قد تُضعف أو تلغي هيمنتها على تلك البطريركيات.

اختارت أثينا – شأن أغلب دول الغرب - الانحياز إلى الأنظمة على مناصرة حركة الشعوب العربية، خاصة بعد دخول حركات العنف التي تسمت بمسميات جهادية الى ميدان الثورات، وقد تسبب دخول هذه الحركات مع التضخيم الإعلامي الغربي في تشويه صورة الربيع العربي ليتمّ وصمه ب "الخريف الإسلامي". 

وقد انحازت اليونان إلى الانقلاب في مصر، واستقبلت عدلي منصور، أول رئيس عيّنه الانقلاب في أثينا بتاريخ 20 يناير 2014، وكانت أول زيارة يقوم بها إلى أوروبا. وقد روجت أثينا للانقلاب في مؤسسات الاتحاد الأوروبي ودعت للقبول به ك "أمر واقع وعامل استقرار" في المنطقة أزاح "حكماً متطرفاً". وكتب وزير الخارجية السابق نيكولاس كوتزياس مقالاً في صحيفة كاثيميريني المحلية دعا فيه أوروبا بكل صراحة إلى التغاضي عن ملف حقوق الإنسان في مصر لأجل الاستقرار في المنطقة..

القرار اليوناني كان مدفوعاً بمخاوف يونانية- قبرصية من فتح ملفات حقول الغاز التي قالت أكثر من جهة مصرية إنه تمّ منحها دون حق إلى قبرص. وكان مصريون قدموا طعوناتٍ لدى القضاء المصري يطالبون فيها بإعادة ترسيم الحدود البحرية بين قبرص ومصر، فيما بدا الانقلاب مستعداً لتقديم تلك الحقول لقبرص دون أي نقاش.

اليونان منذ عام 2010 اختارت – كما ذكرنا- التحالف بشكل كامل مع الكيان متناسية تاريخاً طويلاً من التعاون السياسي والاقتصادي مع العرب. وهذا الخيار ليس خالياً من محاولة كيد تركيا ومشاكستها في بحر إيجه وقبرص.  ثم اختارت لاحقا الانضمام – وأحياناً محاولة تشكيل – حلف يواجه تركيا، من دول خليجية ومتوسطية. بدأت تلك المحاولات بالتحالف الثلاثي اليوناني القبرصي مع الكيان، والتحالف اليوناني القبرصي المصري. وظهرت هذه المساعي بشكل واضح بعد توقيع الاتفاقية التركية – الليبية، حيث قام وزير الخارجية اليوناني بجولة على كل الدول المعادية لتركيا لحشدها ضد الاتفاقية المذكورة، بل وصل الأمر باليونان لاستقبال الجنرال الليبي حفتر في أثينا قبل قمة ألمانيا الأخيرة حول المسألة الليبية، وهو ما يعتبر تبنياً لمساعيه.

بين الإسلام السني وإسلام الأقليات:

هناك مقولات رائجة في اليونان تتهم الإسلام السني بالتشدد والتطرف مقابل الأقليات مثل العلويين وغيرهم. وتعتبر أن وجود الإسلام السني في الحكم في العالم العربي لن يكون في مصلحة اليونان ولا الأقليات الدينية في المنطقة.

ومن هذا المنظور ترى اليونان أن حكم الأسد في سوريا هو أقرب إلى جلب الاستقرار للمنطقة، وأن مسيحيي سوريا، الذين تضفي عليهم صفة اعتبارية هي " يونانيو سوريا" سيكونون بخير طالما استمر حكم الأسد "حامي الأقليات". في المقابل تجري منذ سنوات عملية شيطنة للعنصر المسلم السني بشكل عام، وتتم عملية شيطنة للثورة السورية، كما يجري في معظم وسائل الإعلام العالمية.

لهذا لم يكن مستغرباً قيام وزير الخارجية اليونانية نيكولاس ذيندياس قبل أيامٍ بتعيين مبعوثة خاصة في دمشق، تمهيداً لإعادة العلاقات مع نظام الأسد، وهذه الخطوة ليست الأولى، بل كانت هناك زيارة أو أكثر من رجال أعمال يونانيين إلى دمشق، إضافة إلى وجود تيار من قدامى اليساريين ومن اليمين يطالب بإعادة هذه العلاقات ويزعم أن قطعها لم يكن صحيحاً.  

والواقع أن إغلاق السفارة السورية في أثينا لم يكن خيار اليونان، بل جاء ضمن قرار أوروبي شامل، لم يترك مجالاً لأثينا، خاصة في تلك الفترة التي بدا فيها وجود نظام الأسد محل نقاش.

خلاصة الموضوع أن اليونان ترى أن وجودها الديني السياسي في العالم العربي مرهون باستقرار الوضع الأمني الذي تضمنه الأنظمة الشمولية، وأن بروز العامل السني الى السطح يشكل عامل تهديد لمصالحها .

وتعتبر قبرص أكثر تقدماً في هذه المواقف تجاه الأنظمة الشمولية وتجاه الكيان، بل إن يونانيين موالين للكيان يضربون المثل ب " النموذج القبرصي الشجاع " المتقدم في علاقاته مع الكيان والذي قام باتفاقيات مع شركات تنقيب عالمية للبحث عن مصادر للطاقة في المياه القبرصية، لم تثمر عن أي نتيجة بسبب الاعتراضات التركية.

وسوم: العدد 876