هل ترضى يا من تزعم أنك مسلم، أن يكون الله سبحانه، ملكاً صورياً؟!

لنفرض أنك ملك على بلد من بلاد هذه الدنيا، ووضعت قوانيناً وتشريعاً ودستوراً، وطلبت من الشعب أن يتبعوها، ويطبقوها بحذافيرها، فهل تقبل من أحد أن يرفض طاعة هذه القوانين، أو يطيع بعضها، وينبذ بعضها الآخر؟ 

 إذا كنت ملكاً قوياً وحازماً، وذا هيبة، وهيمنة كاملة، وسيطرة شاملة على البلد، فلن تقبل أحداً من الرعية، أن يرفض طاعة أوامرك، أو أن يعصيك في أمر واحد! علماً بأنه ليس لك أي فضل عليهم! 

فأنت لم تخلقهم، ولم ترزقهم، ولم تعطهم السمع والبصر، والقدرة على التفكير!!! 

ولن تقبل أن تكون ملكاً صورياً.. يدوس الناس بأقدامهم على قانونك، أو على بعض منه؟ 

فإذا كنت أنت مخلوقاً من نطفة، ثم بعد ذلك ستموت، وتبعث مرة ثانية، لتحاسب على كل شيء، ومع ذلك لم ترض أن تكون ملكاً طرطوراً.. تُعصى أوامرك، أو يُطبق منها جزء، ويُنبذ منها أجزاء أخرى!! 

  

فكيف تقبل بأن يكون الله تعالى، الذي خلقك من نطفة، وأعطاك نعماً لا تعد ولا تحصى! 

 (وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ).(1). 

أن يكون ملكاً طرطوراً؟! سبحانه وتعالى عما يصفون. 

فالملك الطرطور هو: الذي تُطاع بعض أوامره، وتُعصى أوامره الأخرى! ويقبل بذلك! 

ولا يوجد ملك أو حاكم بشري على وجه الأرض، يرضى بأن يكون ملكاً أو حاكماً صورياً منزوع الصلاحيات! 

فالله أولى، وهو الخالق والرازق، ألا يقبل، بأن تُطاع بعض أوامره، وتُعصى أوامره الأخرى! ويكون ملكاً صورياً بدون صلاحيات! سبحان الله عما يصفون.  

 فالله هو الذي: وضع لك، وهو الخبير بعباده (إِنَّهُۥ كَانَ بِعِبَادِهِۦ خَبِیرَۢا بَصِیرࣰا)(2). 

قانوناً وتشريعاً مفصلاً، ومتلائماً مع خلقتك، ومع فطرتك، ومناسباً لحاجياتك ورغباتك الطبيعية، وتطلعاتك الروحية والنفسية والمادية، وفيه كل العدل والمساواة بين كل البشر، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أبيض على أسود.  

كما جاء في الحديث عن جابر بن عبدالله.. 

(يا أيها الناسُ ! إنَّ ربَّكم واحدٌ، و إنَّ أباكم واحدٌ، ألا لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، و لا لعجميٍّ على عربيٍّ، و لا لأحمرَ على أسودَ، و لا لأسودَ على أحمرَ إلا بالتقوى إنَّ أكرمَكم عند اللهِ أتقاكُم، ألا هل بلَّغتُ؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ قال: فيُبَلِّغُ الشاهدُ الغائبَ).(3). 

وقال لرسولك، وبالتالي هو لك أيضاً: 

(وَٱتَّبِعۡ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا)(4). 

وأمرك بأن تطبقه في كل صغيرة وكبيرة من حياتك الشخصية، والعامة، والسياسية، والدولية!! 

وإذا بك، تطيعه في الصلاة والصيام، وبعض الطقوس الشعائرية، وتعصيه في التجارة، والمحاكم، والقضاء، والسياسة، وتطيع ملكاً أخر غيره في تلك الأمور! 

وهو الذي قال لك:  

(وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ)(5). 

فوظيفتك، وهدفك الأول في الحياة، هو عبادة الله وحده، فما خلقك الله إلا لهذه الوظيفة فقط. 

  

والعبادة تعني الطاعة بدليل قوله تعالى: 

 ( أَلَمۡ أَعۡهَدۡ إِلَیۡكُمۡ یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ أَن لَّا تَعۡبُدُوا۟ ٱلشَّیۡطَـٰنَۖ)(6). 

فطاعة الشيطان هي عبادته.. لأنه لا أحد من البشر، يسجد ويركع للشيطان ظاهرياً.. ولكنهم يطيعون أوامره، وما يوسوس لهم به، ويزينه في نفوسهم، فهذه هي عبادته. 

ودليل آخر ما ورد في الحديث عن عدي بن حاتم الطائي: 

( قدمَ [ عديُّ بنُ حاتمٍ ] على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وهو نصرانيٌّ فسمعه يقرأُ هذه الآيةَ : اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ قال : فقلتُ له : إنَّا لسنا نعبدُهم ، قال : أليسَ يحرمونَ ما أحلَّ اللهُ فتحرِّمونَه ، ويحلُّونَ ما حرَّمَ اللهُ فتحلُّونَه ، قال : قلتُ : بلى ، قال : فتلك عبادتُهم )(7). 

إذن الطاعة هي العبادة.. 

فالذي يطيع حاكماً أو ملكاً أو رئيساً، في أمور تخالف شرع الله، فإنما هو يعبده من دون الله!! 

وهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن عمران بن الحصين (لا طاعةَ لِمخلوقٍ في معصيةِ اللَّهِ].(8). 

هذا قول فصل من الله ورسوله.. وليس كلام العبيد!! 

فالسؤال الآخر والأهم:  

هل يليق بالله تعالى، وهو الخالق، والرازق، والمحي، والمميت، والمنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم قرآناً، وهو عبارة عن دستور للحياة، فيه كل شيء، كما يقول مُنزله: 

(وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ)(9).  

وهو أفضل من أي دستور، أو قانون وضعه، أو صنعه أي ملك، أو أي حاكم على وجه الأرض، حتى الآن وإلى قيام الساعة! فهل يليق به، أن يكون ملكاً صورياً لا صلاحيات له على البشر؟!  

وهل يليق به، أن يُترك حكمه وقانونه، في الأمور السياسية، والحكومية الهامة، ثم يُحكم الناس بقانون ودستور غيره من العبيد، كالملك الطرطور، الذي لا يأبه الناس لأوامره، فيعصونه على هواهم، وعلى حسب مزاجهم! 

 وهو الذي قال لرسوله:  

(وَأَنِ ٱحۡكُم بَیۡنَهُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَاۤءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن یَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَیۡكَۖ).(10). 

إذن هذا ملك صوري! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، إذا أطاعوه في بعض الأمور، وعصوه في أمور أخرى!  

وبما أنه هو الله الملك، والخالق والسيد على الكون، وعلى الناس.. فيجب أن يكون هو الحاكم، والآمر، والناهي. 

وإلا.. فإذن لا قيمة لهذا الرب، ولهذا الملك عند من يطيعه في أمور، ويعصيه في أمور أخرى، أكثر أهمية من الأولى، وهي الحكم! سبحانه وتعالى عما يشركون. 

  

فالذي يرضى ويقبل بحكم غير حكم الله.. فهو غير مسلم، وإنما هو مشرك وكافر، بإقرار من الله، وليس من العبيد. 

(وَمَن لَّمۡ یَحۡكُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ)(11).  

﴿أَلَیۡسَ ٱللَّهُ بِأَحۡكَمِ ٱلۡحَـٰكِمِینَ﴾(12).  

رفعت الأقلام، وجفت الصحف. 

فهل ترضى أخيراً يا أيها المسلم، أن يكون الله سبحانه، ملكاً صورياً، تطيعه في الطقوس الشعائرية، وتعصيه في الأمور المنظمة لحياتك، وحياة الناس العامة، وشؤونهم الإدارية والسياسية؟! 

هل تقبل أن يكون الله جل جلاله، بهذه الصفة المهينة، حينما ترفض أن تجعل قانون الله، هو القانون العام الذي يحكم حياة الفرد والمجتمع والدولة، وجميع شؤون الحياة؟! 

إنه بمجرد اعتقادك، بأن شرع الله، ونظامه، وقانونه غير مؤهل، ولا جدير لأن يحكم البشر.. وأنه ما أنزل هذا القرآن، ليحكم البشر، فقد جعلت الله سبحانه، ملكاً صورياً!! وكنت من الآثمين. 

وإذا جعلت الله جل جلاله، ملكاً طرطوراً، فأنت كافر به.. لن تنفعك صلاتك ولا صيامك، لأنك أشركت مع الله ملكاً آخر، أو حاكماً آخر، وجعلته هو الذي ينظم لك شؤون حياتك، وفضلته على حكم الله، وهذا هو الشرك الذي لا يغتفر. حسب قوله تعالى: 

(إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا)(13).  

فمن يؤمن ويعتقد أن حكمه ونظامه وقانونه، أفضل من حكم ونظام وقانون الله، فقد جعل نفسه إلهاً من دون الله، واغتصب خاصية من خصائص الله، وهي الحكم، كما ذكرنا آنفاً.. وسيكون جزاؤه جهنم خالداً فيها.  

﴿وَمَن یَقُلۡ مِنۡهُمۡ إِنِّیۤ إِلَـٰهࣱ مِّن دُونِهِۦ فَذَ ٰلِكَ نَجۡزِیهِ جَهَنَّمَۚ كَذَ ٰلِكَ نَجۡزِی ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾(14). 

علماً بأن الله سبحانه، لا يجبر أحداً من عباده على طاعته، أو على معصيته، ولا يجبر أحداً على الإيمان به، أو الكفر به.. 

(فَمَن شَاۤءَ فَلۡیُؤۡمِن وَمَن شَاۤءَ فَلۡیَكۡفُرۡۚ).(15). 

وقد يعاقب الله تعالى من يكفر به، ويعصي أوامره في الدنيا، وقد يؤخر عقابه إلى الآخرة. 

(فَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمۡ عَذَابٗا شَدِيدٗا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ﴾(16).   

ولكن يقيناً له عذاب أليم. 

(وَمَن لَّمۡ يُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ فَإِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ سَعِيرٗا).(17). 

المصادر : 

  1. النحل 18  
  2. الإسراء 30  
  3. الدرر السنية  
  4. الأحزاب 2  
  5. الذاريات 56 . 
  6. يس 60. 
  7. الدرر السنية  
  8. الدرر السنية  
  9. النحل 89  
  10. المائدة 49 
  11. المائدة 44  
  12. [التين ٨]. 
  13. النساء 48  
  14. الأنبياء ٢٩ 
  15. الكهف 29  
  16. آل عمران 56   
  17. الفتح 13   

وسوم: العدد 892