الملة الإبراهيمية .... بين الحقيقة والتوظيف

وقولنا "الملة الإبراهيمية " مجاز . وإنما جُعل اللقاء على سيدنا إبراهيم عليه السلام عنوانا ورمزا لأتباع الأديان الثلاثة اليهودية والنصرانية والإسلام . وفي الحقيقة فإن المسلمين يجعلون الإيمان بالرسل جميعا أحد أركان إيمانهم ، وليس على أساس قومي أو عرقي، فكما يؤمنون بهود وصالح من أنبياء العرب يؤمنون بإبراهيم وبنيه إسماعيل وإسحق معا ثم بيعقوب ويوسف ثم بموسى وهرون ثم داود وسليمان وزكريا ويحيى ثم بالمسيح عيسى ابن مريم وبطهارة أمه العذراء البتول المطهرة المفضلة على نساء العالمين .

والحديث عن " الملة الإبراهيمية " إنما هو حديث عن بعض المشتركات الحقيقية على مستوى المصدر الأصلي " الوحي " وإن دخله عند بعضهم التحريف والتغيير ، وعلى مستوى الاعتقاد والتشريع .

وهذه الحقائق من المشركات العملية يمكن أن توظف لتكون جسرا للتعاون على البر والخير في المفهوم الملي الأوسع ، ويمكن أن تكون جسرا لمكر الماكرين ، وتسويل المسولين من أعداء الأديان الثلاثة أجمعين .

ثمة مسلمة تفرض نفسها في سياق الصراعات الكبرى هي أن الأقوى ماديا يبقى هو المستفيد الأول من كل الشراكات . حقيقة يجب أن نسلم بهذا على مستوى الثقافة والسياسة كما نسلم بها على مستوى السوق ...

ومن هنا يجب أنت نتفهم حق الضعيف أن يتقي ويخاف ، ويحكم تحصين الحصون وغلق الأبواب ..

ولا يكفي أن تكون في مثل هذه الشراكات " الدينية – والمذهبية " صاحب الحق الأنصع والأوضح ، فقوة الكلمة مع جمالها لا يكافئ قوة الطلقة أو المدفع أو قوة الأخضر أو الأصفر !!

ونعود للقول بأن الخصوصية الملية حقيقة واقعة على مستويين : العقيدة والشريعة ..

على مستوى العقيدة يؤسس لها قول الله تعالى في محكم كتابه ( وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)

الإيمان بالمصدر والإيمان بالمنزَّل ، ولا شك أن وراءه تفصيلا يجعل المسلم مسلما وغيره غيره حتى لنقول ( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ )

وعلى مستوى الشريعة فتتجلى هذه الشراكة في قوله تعالى ( آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ ) أي بتلك الحزمة الواسعة من القيم والوصايا والتعاليم الموحدة ، والتي ستظل موضع اتفاق ما التزم أصحاب هذه الأديان بأديانهم ..ويجمع الأديان الثلاثة وربما غيرها عنوان عريض " الوصايا العشر " لا تقتل .. لا تسرق .. لا تزنِ .. لا تشهد الزور .. وإذا شئنا قرأنا خواتيم سورة الفرقان ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ ) ..

وبالنسبة للمسلمين فإن أمر المشترك التشريعي مع أهل الكتاب أوسع ، وعنون له الأصوليون والفقهاء بأصل من أصول التشريع أطلقوا عليه عنوان " شرع من قبلنا " وميزوا فيه بين ما أقر لنا مثل قوله تعالى عن التوراة ( وكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ). أو قوله ( مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ) وبين ما حُطّ عنا كبعض المحرمات التي كانت إصرا عليهم ، أو النُسك ـ كنسك الإمساك عن الكلام على وجه ( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا ) .

وقد كان الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى من السباقين إلى إفراد عنوان للأخلاق الملية ، بنية التوظيف الإيجابي ، والتعاون على البر في أفقه العام .

هذه حقائق لا يمكن لباحث عن الحق والحقيقة أن ينكرها أو أن يتجاهلها، ويبقى التعامل معها رهن بالخلفيات العملية للمبشرين بها والجادين في توظيفها ..أي يبقى الحديث مرتبطا بالنوايا ، والله يعلم المفسد من المصلح . وإن كان قد غلب على المشهد العام الزغل والسفه والفساد ...

في الحديث عن التوظيف الخيّر الإيجابي لحقيقة المشترك الإبراهيمي يمكن أن نذكر عدة مجالات منها :

أنّ من شأن هذا الاشتراك أن يخفف ظاهرة الغلو عن نفوس بني البشر . وشيوع هذه الظاهرة عند غير المسلمين أشد وأنكى ..

نذكر أن المسلمين تاريخيا لم يكرهوا قوما على دين . لم يؤسسوا محاكم للتفتيش عن العقائد والتنقيب عن القلوب ، حتى مع غير الكتابيين ، وكانت قاعدتهم في كل المخالفين " سنوا فيهم سنة أهل الكتاب " ، فكان ذلك شأنهم مع كل من هم وراء أهل الكتاب.. كان عند المسلمين سعة في الشريعة كما في العقول والصدور .. نرجو اليوم لمثلها أن يكون !!

وكف ظاهرة الغلو ، وإطفاء جذوته ، مطلب ديني شرعي قويم .. والنهي عن الغلو في الدين موجه دائما لكل الغلاة مهما تكن هويتهم الدينية . هو موقف تغذيه الآية الأولى من القرآن الكريم ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ورب العالمين تعني خالقهم وحافظهم ومدبرهم ورازقهم وكافلهم وما شئت من مجالي الربوبية بعد ..

التوظيف الإيجابي الثاني لحقيقة المشترك الإبراهيمي

التوظيف في مواجهة هذه الحرب الشعواء التي يشنها دعاة الإلحاد والإباحة والانحلال تحت مسمى " ثقافة الألفية الثالثة "..

هي حرب شعواء بأبعاد كثيرة على الإيمان والقيم والأخلاق معا . فمن المطالبة بتحطيم الأسرة كبنية أساسية للحياة الاجتماعية ، والتبشير بمجتمعات بلا أسر ، وأطفال بلا نسب ، إلى الدعوة إلى إباحة القتل ، في ان يقتل الفرد نفسه تحت عناوين .. أو أن تقتل الأم جنينها تحت عناوين أخرى ، وتسخير السلطتين الاقتصادية والسياسية لتشويه لكل ما تعارف عليه البشر أنه حق وخير وجمال ..

نعم المشهد يحتاج إلى نوع من التوحد والتعاون والتنسيق ، وقد جُرب هذا مؤتمرات إنسانية عديدة فنجح. وعلى مثله يُنصح بأن يعمل العاملون.

والتوظيف الإيجابي الثالث ..

هو التأسيس العملي لقواعد العيش المشترك على مستوى " المسكونة " التي بتنا نسميها القرية العالمية بحق .

إن إشاعة روح "الأنسنة " في العقائد والشرائع ، على النحو الذي بشر به الرسل الكرام مطلب مهم وضروري . في عصر أصبح التقارب والتعايش والتجاور حقيقة واقعة ،لا يستطيع أن يقفز عليها إنسان متدينا كان أو غير متدين . ويبقى الغلو غولا يهدد الجميع ..في عصر توارت فيها عناوين مثل " لا تتراءى نيرانهما " " ودار الحرب ودار الإسلام "

إيماننا بأن الدين عند الله هو الإسلام ..

وأن الإسلام هو وحده الدين الحق على مستوى التصور – الاعتقاد – وعلى مستوى السلوك الفردي والجماعي – الشريعة – كل أولئك لا يلغي حقيقة أن ننهي لجميع المخالفين حقيقة ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ )

ويبقى التعاون على البر والقسط والعدل مطلبا ...كل هذا وأكثر منه يمكن أن يقال في الحديث عن المشترك الإبراهيمي ، والحوارات الملية في آفاقها ..

دون أن ننسى مكر السيء الذي يمكن أن يمكره أصحاب النوايا الخبيثة من أجل : الاختراق .. والتمييع .. والسيطرة .. والاستحواذ .. وهي الحرب وهو الصراع ..

كل ما سبق ليس له علاقة ببنى الكيانات العدوانية وأحاديث الأنصاف والأرباع والأخماس والأسداس والحساسين والنسانيس ..

( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ )

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 893