أزمة حماس، ومفترق الطرق (قراءة في ضوء السنن الربانية، والمقاصد العمرانية)

haji1004.jpg

مما لا شكّ فيه أن حركة المقاومة الإسلامية حماس تمتلك تاريخًا نضاليًا مشرّفًا، فقد قدّمت الكثير من التضحيات، وكانت في مقدّمة الصفّ دائمًا، وكنّا نظّنها الطائفة المنصورة المؤيّدة، التي تعيش في أكناف بيت المقدس، وكنّا نعتبرها حركة رائدة في الأمة بل في مقدمة المؤسّسات التي تعمل للأمة، وكنا نضرب بها الأمثال، وكانت تبلغنا عنها الأحلام، وكانت تحظى بثقتنا الكاملة ودعمنا اللامتناهي! فهي بلا مراء تمتلك خبرة سياسيّة وعسكريّة كبيرة لم تتأتّى لأحد سواها وذلك بفضل نضالها الطويل ضدّ العدوّ الصهيوني الغاشم وضدّ أدواته وأذنابه ومشاريعه ومكائده!

وإذا بها اليوم تنسلخ من تاريخها النضالي المشرّف، وتتنصّل من مبادئها النبيلة، ومن قيمها الراقية والملهمة لتهبط إلى الحضيض حيث تخلّت عن مكانتها السامقة المرموقة، وخسرت الجمّ الغفير من محبيها، حين تحولّت من كونها حركة تعيش للأمّة وتتفاعل مع قضاياها وتقدّم النصح لكافة أبنائها إلى حركة متقوقعةً على نفسها ومنعزلةً عن أمّتها وعن عمقها الاستراتيجي الحقيقي المتمثّل في أبناء الأمة الأحرار في طول العالم الإسلامي وعرضه.

فلقد تلطّخ ثوبها القشيب الطاهر بأوساخ إيران، وأذناب إيران أدعياء المقاومة، فمن كان يظنّ في يوم من الأيام أن تلتقي حماس ذات التاريخ الناصع المشرق بنظام البراميل المعروف بحقده الأسود وتاريخه الفاسد الحافل بالجرائم والتنكيل بكافّة فئات شعبه بما فيهم الشعب الفلسطيني الذي لجأ إليه وعاش في ظلّ حكمه الجبري القهري الجائر؟!

ومن كان يظنّ بأنها ستترحّم على أكبر قاتل مسعور ارتكب الفظائع والمجازر في حق أبناء الأمة في العراق، واليمن، وسوريا، وغيرها؟!

ومن كان يظنّ بأنها ستتخلى عن مبادئها وقيمها وعن مسارها المشرّف؟!

فهل فقدت البوصلة حقًا؟

أم أنها سنّة الاستبدال الحضاري، يذهب الله بها ويأتي بآخرين؟

أم أنّه الإكراه السياسي وفقه الضرورة، والواقعية السياسية التي لا تلتفت إلى القيم والأخلاق، إنما تدور مع المصلحة القومية أينما دارت، وتوازن بين المصالح والمفاسد، وتقيم الأحلاف والمعاهدات للحفاظ على توازن القوى ومنع اختلالها؟!

فأي مصلحة تلك التي تزعمها حماس في إعادة إنتاج نظام متهالك لا يملك قراره ولا يتمتّع بأي سيادة وإنما هو بوق بل أداة رخيصة يتحكّم به جميع أسياده من روسيين وإيرانيين... وغيرهم. فأي مصلحة في مصالحة كيان ضعيف كليل متآكل ومتهالك لا يملك من أمره شيئا؟!

نعم إنّها مصلحة، لكنّها مصلحة المطبّعين، والساعين للتطّبيع مع الكيان الغاصب الذين دفعوا بحماس دفعًا للإقدام على هذه الخطوة بل الزلّة الحضارية.

إنها مصلحة هؤلاء الذين يخطِبون ودّ إسرائيل وما أكثرهم؟!!

إنها مصلحة متوهّمة ومزيّفة ومؤقّتة، بل إنّها مفسدة مؤكّدة ومحقّقة ومستمرّة، بل وصمة عار في حقّ حماس!

إنها الرهان الخاسر، الرهان على الأنظمة القمعية الجبرية الطاغوتية المتهالكة التي تتداعى يومًا بعد يوم، وتتساقط نظامًا بعد نظام!

إنها الكذبة المفضوحة والخديعة الكبيرة التي انطلت عليهم. فأي مقاومة هذه؟ وأي تحالف هذا؟!!! تحالفٌ مع نظام لم يطلق رصاصة واحدة على إسرائيل رغم استباحتها لأرضه ولسيادته، ورغم تدميرها لكل البنى التحتية في دولته!

ألم تسأل نفسها بأن بائع (الجولان) -والتي كانت تحت سلطانه وضمن حدود بلاده- أجدر به أن يبيع (حماس) عند أول فرصة، أو عند أول مساومة إقليمية أو دوليّة وخاصّة وهي التي تخلّت عنه في بداية الأحداث لتنحاز إلى الشعب الثائر؟!

إن هذه الخطوة الخاطئة؛ هي الخطّ الفاصل بين عهدين مختلفين، عهد (حماس الثورة)، وعهد (حماس النظام)، أو عهد (حماس الأمة)، وعهد (حماس القومية الفلسطينية)، أو كما يقول الأستاذ برهان غليون: عهد "الدولة ضدّ الأمة". وهذه الخطوة وإنّ سلّمنا جدلًا أنها في صالح حماس كحركة، لكنها بلا مراء هيّ ضدّ الأمة ومشاعر الأمة...! بل هي خطوة خائبة ومصادمة لسنن الله في الأمم والجماعات! فالانحياز للباطل هو بداية السقوط. والنهايات يحتكرها الصادقون الصابرون المصلحون، ولن تفلح أمّةٌ تخلّت عن رسالتها وقضيتها واستقامتها وعن طريق الحق لتقف في معسكر الباطل. ونهاية الباطل معروفة حسب السنن الربانية؛ (سنة التدافع بين الحق والباطل)، القاضية: بانحسار الباطل في مواجهة الحق. قال تعالى: (وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَٰطِلُ ۚ إِنَّ ٱلْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (الإسراء – 81).

وهذه الخطوة الخاطئة؛ كذلك مصادمة لنواميس التاريخ وسننه، لأن هذه المرحلة التاريخية التي نعيشها تشهد توقًا إلى الحرية وشغفًا بها واستماتة في سبيل تحصيلها، وإن مصادمة هذه السنّة القاهرة والغالبة والمهيمنة إنما هو بداية الهزيمة أو هو الهزيمة ذاتها! والهزيمة قد وقعت فعلًا حين تخلّت الحركة عن المبادئ التي قامت عليها وتأسّست من أجل حفظها والذود عنها، والهزيمة الحقيقية تبدأ بالتخلي عن القيم الدافعة، والعقيدة الرافعة، ومسار الأمة الجامعة، والمقاصد الحافظة، وسنن التاريخ القاضية والحاكمة والمضطّردة!

فلقد سقطت حماس حقًا، حيث اصطفّـت في محور إيران، -محور الشرّ- أو على أقل تقدير كثّرت سواد هذا المحور الساعي في الأرض فسادًا، وحاولت تلميعه وإنتاجه! وهذا السقوط المدوّي ستكون آثاره كارثية على حماس في المدى القريب والبعيد، حتى ولو حاولت الاستدراك والتوبة السياسية فإنها لن تفلح أبدًا في استعادة مكانتها السابقة أو بعضا منها، وذلك لأن هذا السقوط هو سقوط أخلاقي وقيمي بالدرجة الأولى، وسقوط استراتيجي بالدرجة الثانية، وسقوط سياسي حتى في تقدير أصحاب الواقعية السياسية وأساتذة العلاقات الدولية... فالشعوب تحصي السقطات ولا تنساها، بينما تنسى بسرعة التاريخ المشرق والماضي العريق عند أول زلّة وعند أول انتكاسة! وكان يليق بها أن تفتش عن طريق آخر رغم الحصار ورغم الضغوطات الخارجية والتحديات الداخلية. فالعاجز هو الذي يستسلم للإملاءات الخارجية ويعجز عن إيجاد البديل الذي لا يصادر سيادته وكرامته.

وأما عن التبريرات التي ساقتها حين إقدامها على هذه الخطوة، رغم كثرتها لكنها كلها تبريرات واهية، والمصالح التي تحدّثوا عنها إنّما هي مصالح وهمية غير مبرّرة وغير معتبرة! والمصالح التي كان أجدر بهم أن يفكّروا بها هي الحفاظ على مبادئهم وقيمهم وبالتالي الحفاظ على قاعدتهم الشعبية. وهذا الحفظ الذي أتحدث عنه إنما هو درجات ومراتب بل هو نظرية متكاملة في المجال السياسي: (حفظ ابتداء، وحفظ بقاء، وحفظ نماء وارتقاء، وحفظ انتهاء).

فحفظ الابتداء يقتضي استلهام قيم التأسيس التي كانت سببًا لنشوء الحركة.

والسعي الحثيث للحفاظ على مسارها المعروف والحفاظ على شعبيتها ومكانتها وعدم الركون لإرادة الداعمين وإملاءاتهم، هو حفظ بقاء.

وفتح العلاقات مع الأحرار والثوار والبحث عن البدائل المشروعة والمقبولة والمنسجمة مع مبادئها وتوسيع دائرة المحبين والداعمين والمؤيدين والاستفادة من التحولات الكبرى في السياسة الدولية والصراعات المستمرة هنا وهناك، كفيل بإيجاد البدائل وفي تقديري البدائل كثيرة وإن كانت بعيدة عن التخوم لكنها موجودة، وهذا حفظ الارتقاء.

ثمّ عليها إنّ تعترف بعجزها إن اضطرت لذلك، وتمتثّل أمر الناصحين من العلماء الثقات - (علماء الأمّة) – ولو أدّى إلى الموت دون مبادئها، وهذا حفظ انتهاء!

وختامًا أقول: تبقى القضية الفلسطينية أكبر من حماس، ويبقى بيت المقدس هو بيت للمسلمين جميعًا، ويبقى الحقّ أحقّ أن يتبع، (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام:153].

وسوم: العدد 1004