أي سيناريو ينتظر الإسلاميين في تونس؟

قاطعوا انتخاباته التشريعية في كانون الأول/ديسمبر وكانون الثاني/يناير الماضيين ولم يشاركوا قبل ذلك لا في استشارته الإلكترونية ولا في استفتائه على دستور جديد للبلاد. وكانوا واثقين تماما ومتأكدين من صحة ما ردده كثيرون من أنه لا مكان على الاطلاق في حكم الرئيس التونسي لأي دور للأحزاب والمنظمات الأهلية بغض النظر عن أفكارها أو مواقفها أو توجهاتها. لكن كان هناك بعض الالتباس في أن يكون قيس سعيد قد اقتفى بالفعل خطى بورقيبة وبن علي وسعى لان يجرب بدوره ما فشلا في تحقيقه في عهديهما وهو اجتثاث حركة النهضة من الوجود. وهذا ما طرح سؤال الحاضر والمستقبل أيضا. فبأي شكل ستظهر غدا من ولدت جماعة إسلامية في الستينات ثم نمت اتجاها إسلاميا في السبعينات والثمانينات وكبرت ونضجت بعدها لتصير حزب حركة النهضة في التسعينات؟ وكيف سيكون موقعها داخل المشهد السياسي المقبل في تونس؟

لطالما قال القادة النهضويون للتونسيين في السنوات العشر الأخيرة كما فعل الشيخ راشد الغنوشي مثلا في إحدى حواراته في 2014 مع موقع «دويتشه فيله» الإخباري الألماني ان «لا خوف على تونس من عودة الاستبداد وان الشعب قادر على صنع ثورات أخرى ازاء من تحدثه نفسه بالعودة إلى نظام الاستبداد». لكن لطالما ردد الرئيس التونسي أيضا وفي أكثر من مناسبة بعد 2021 ان «لا عودة أبدا إلى الوراء» دون ان يكشف ما الذي كان يقصده بالوراء وهل أنه كان يعني استبداد تلك العقود التي سبقت رحيل بن علي؟ أم انه كان يعني بها شيئا آخر مختلفا عنها تماما؟ غير انه كان لافتا أيضا انه كلما أشار الرئيس التونسي في إحدى خطبه أو أحاديثه مع من يدعوهم إلى قصر قرطاج عن «الذين لفظهم الشعب والتاريخ» أو أعلن «بأن الشعب يريد المحاسبة وتطهير البلاد» فإن أذهان معظم التونسيين كانت تذهب مباشرة إلى حركة النهضة رغم أن الملاحقات أو التتبعات القانونية ضدها انحصرت حتى الآن على الأقل داخل حلقة محدودة جدا من قادة الصفين الأول والثاني منها بشكل خاص دون أن تشمل في العموم كل أعضائها أو منتسبيها.

ومن المؤكد أن عدة عوامل تعطي الانطباع بذلك رغم أن الفصل بين رموز وشخصيات أو زعامات إسلامية معروفة قد تختلف الآراء والتقييمات أو حتى المآخذ حول أدائها وبين حزب كان في الجزء الأكبر من العقود الأربعة من وجوده، واحدا من أكبر معارضي نظامي بورقيبة وبن علي قبل أن يقود فترة من فترات الانتقال الديمقراطي في المرحلة التي تلت سقوطهما مع ما رسخه ذلك من صورة نمطية مشوشة حوله يبدو أمرا صعبا للغاية. وفيما بدأت عجلة المحاسبة التي تحدث عنها قيس سعيد في الدوران في الأيام الأخيرة بشكل أسرع من السابق، وجد رئيس حركة النهضة وهو يدخل الثلاثاء الماضي مقر القطب القضائي لمكافحة الإرهاب في العاصمة تونس للاستماع إليه في واحدة من ست قضايا رفعت ضده في أقل من عام واحد، انه من المناسب أن يتحدث إلى الصحافيين ويقول لهم: رفضنا الإرهاب وقومناه بالفكر والساعد وبتأصيل الديمقراطية وبالثقافة الإسلامية بينما عجز خصومنا المرة تلو المرة عن مواجهتنا بالوسائل الديمقراطية فلجأوا إلى استخدام القضاء. ونحن لدينا ثقة في أن القضاء يتعافى وأنه لن يسير معهم في هذا الطريق. ان وجودنا هنا -أي أمام التحقيق- هو ثمرة من ثمار الانقلاب الذي هو ليس ضد النهضة فقط بل هو ضد كل الكيانات الوسيطة وضد كل الأحزاب وكل النقابات».

موجة الاعتقالات

ورغم ان موجة الاعتقالات التي تعيش على وقعها تونس الآن على خلفية ما وصفها الرئيس قيس سعيد بـ «حرب تحرير وطني  لتطهير البلاد ممن عاثوا فيها فسادا على مدى عقود وعقود» والذين اعتبرهم «متورطين في التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي» كانت متعددة الأوجه ولم تفرق بين إسلامي وعلماني، أو بين سياسي ورجل إعلام أو رجل أعمال أو حتى نقابي، إلا انها عكست بصورة من الصور على الأقل جانبا من جدل جديد قديم في الوقت نفسه حول مكانة ما يعرف بـ«الإسلام السياسي» داخل بلد لم يعترف بحق من يوصفون بالإسلاميين المعتدلين في العمل العلني والقانوني سوى في العقد الأخير فقط، أي مع رحيل نظام الرئيس المخلوع بن علي. لقد كان الأسلوب الذي تعامل به قادة الحركة ومنذ تموز/يوليو 2021 أي مع إعلان الرئيس قيس سعيد عن إجراءاته الاستثنائية التي أقصتهم فعليا عن صدارة المشهد السياسي بعد تعليق عمل البرلمان في مرحلة أولى ثم الإعلان عن حله في ثانية وإقالة الحكومة واستئثار الرئيس التونسي بكل الصلاحيات التشريعية والتنفيدية، يعطي الانطباع على انهم لم ينظروا لتحركات سعيد التي لم يترددوا ومنذ الساعات الأولى في وصفها بالانقلاب، على انها ضربة مباشرة موجهة ضدهم بالأساس هدفها إخراجهم بطريقة غير ديمقراطية من مواقع في السلطة وصلوها بوسائل ديمقراطية، أي عبر الانتخابات بل على انها نكوص وانقلاب عن الشرعية الدستورية وان المستهدف الحقيقي منها هو الانتقال الديمقراطي الهش في تونس وليس حركة أو حزبا أو حتى شخصا في حد ذاته.

إلا ان ذلك لم يحجب حقيقة أنهم كانوا أكثر طرف تضررا وعلى أكثر من مستوى جراء إقدام قيس سعيد على قلب الطاولة صيف العام قبل الماضي وإعادة خلط الأوراق السياسية في البلاد. لقد كان جزء واسع من الذين  وقفوا مع سعيد في 25 تموز/يوليو 2021 وباركوا ما أقدم على إعلانه مساء ذلك اليوم مدفوعين فقط بالرغبة في إقصاء حركة النهضة من المشهد السياسي بعد ان حملوها أوزار ما بات الإعلام المحلي يطلق عليها «عشرية سوداء» وذلك في اشارة إلى السنوات العشر التي تلت سقوط نظام بن علي وقادت فيها الحركة ائتلافا حزبيا حكم لثلاث سنوات قبل أن تشارك بعدها وبنسب متفاوتة في معظم الحكومات التي تلت ذلك. لكن السيناريو الذي توقعه هؤلاء وهو ان تتم محاكاة ما حصل في مصر في 2013 مع الإخوان وتطبيقه حرفيا في تونس لم يحدث ربما لعدة اعتبارات وتعقيدات داخلية وخارجية.  لقد كان واضحا أن هناك من كان ينتظر نصب المشانق واقتياد كل أعضاء وأنصار الحركة إلى المحاكم بالجملة وتنظيم حملات اعتقال عشوائية في استنساخ لما حصل في حقبة التسعينات حين شن نظام بن علي حملة شرسة لاجتثاث الإسلاميين عرفت وقتها بتجفيف المنابع، وأطلقت فيها أيدي الأجهزة الأمنية للقيام بكل الخروقات والتجاوزات سعيا وراء ذلك الهدف.

صعوبات وتحديات

لكن وبغض النظر عما إذا كانت السلطات قد أخذت مثل تلك الفرضية بالاعتبار أم لا فان هناك جملة من العوائق والصعوبات والتحديات المحلية والخارجية تجعلها الآن غير عملية أو ممكنة. ولأجل ذلك فإن ملء الفراغ الذي قد يتركه غياب مكون هام من مكونات الساحة السياسية التونسية أي الإسلاميين لن يكون بالسهولة التي قد يتوقعها البعض. ولأجل ذلك تبدو إعادة استيعابهم من جديد داخل تلك الساحة هي الأكثر ترجيحا. كما ان الخط الذي اعتمدته حركة النهضة حتى الآن وهو معارضة الرئيس سعيد لا بشكل فردي بل داخل تكتل معارض ممثل بجبهة الخلاص الوطني التي يترأسها الآن وجه نضالي وسياسي معروف هو المحامي أحمد نجيب الشابي، تعني ان النهضويين سيكونون على استعداد بعد ان دخلوا مجددا في صف المعارضة لتوافقات مقبلة وربما حتى أيضا لتقديم تنازلات. وقد سبق للشيخ الغنوشي ان صرح وفي أكثر من مناسبة إلى استعداده للتنازل عن رئاسة البرلمان أو حتى الحركة ان كان ذلك سيساعد على عودة الديمقراطية كما قال.

يبقى كم من الوقت ستستغرقه تونس للوصول إلى تلك المرحلة؟ ومالذي سيحصل في أثنائها؟ كل التجارب تدل على أن من ناضلوا ضد بورقيبة وبن علي كانت لهم قدرة كبيرة على الصمود. لكن هل سيكون للأجيال الشابة من طول النفس  والعزيمة ما يوازي أو يعادل ما كان في العهود التي سبقتها؟ ثم الأهم من ذلك هل سيكون للشارع التونسي المنهك والمكتوي بنيران الغلاء وصعوبات المعيشة طاقة الصبر والمكابدة للحفاظ على حرياته والقدرة على حسم مصيره وتحديد خياراته؟ ان ذلك هو أكبر تحد يواجهه التونسيون اليوم من معارضة ونظام وإسلاميين وعلمانيين على حد سواء.

وسوم: العدد 1021