الأحزاب لا تتشظى في حالات الصعود.. تتشظى في حالات التعثر والانحدار

شخصيا لا أعتبر نفسي مخولا للحديث في شؤون الآخرين. ولكن حين أسمع بعض العنصريين يتحدث بلغة عنصرية، يخيل إلي، أن الرد عليه يصبح قضية إنسانية فكرية لا قضية سياسية.

ولقد كان للنظريات العنصرية البغيضة تجليات سلبية خطيرة ومدمرة في التاريخ البشري، وكان أشدها سوء تجليها النازي القريب، بعصرنا، والذي أثمر للإنسانية العديد من المحارق والهلكوستات.. وربما كان الهلكوست اليهودي واحدا منها ومن أفظعها..!!

يقول بعض المحللين النفسيين إن كثيرا من الناجين من المحارق يصنعون مثلها!! وعلى هذا تشتغل أفلام السينما التي تحلل نفسيات المجرمين وتتبع آثارها.

وهكذا نتساءل: ما حجم مشاركة الناجين من الهلوكست النازي، في الهلكوست الذي ما زال ينفذ على الشعب السوري ظرفه الراهن!!

دائما أسجل عجبي واستنكاري للفيف من أبناء أمتنا يظلون يستهينون بالهلكوست النازي ضد اليهود!! بعضهم إنكارا، وبعضهم استهتارا! وأعتقد أن موقفهم هذا ليس بالموقف الرشيد.

في كل موقف ملي أو قومي لا يجوز أن نفقد إنسانيتنا، ويجب ان نظل نستنكر كل المآسي التي تقع على بني الإنسان، بل على جميع الأحياء. ففي شريعتنا أدخل الله امرأة النار لأنها حبست هرة، وغفر لمومس أو لصاحب مكس في سقيا كلب.

للذين لا يدركون جيدا معايير شريعة الإسلام صاحب المكس فيها شرٌ مكانا من المومس، لأن صاحب الشريعة، قال في الغامدية: لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له. فعلمنا يقينا أن صاحب المكس شر مكانا، وأضل سبيلا..

النازية نهج عنصري مقيت، وليست حزبا أو مؤسسة أومدرسة، وهكذا يجب ان يكون الموقف الانساني من النهج أبلغ..

أقدم كل هذا لأعلق على تصريح ساخن لأحدهم يقول: إنه لو ترك الأمر على ما هو عليه في تركية، فإن نسبة السوريين في استنبول ستكون سنة ٢٠٥٠ واحد لخمسة من سكانها الأتراك!!

أنقل هذا وأعود لأتساءل عن أي حملة تطهير عرقي ارتكبها الأتراك السلاجقة أو العثمانيون عندما نزلوا الأناضول واستوطنوها وبنوا فيها ممالكهم أو دولتهم؟؟

يذكرني التراكم الديمغرافي الحضاري في منطقة مثل متطقتنا المفعمة بالحياة والحيوية والخصب؛ بصاحب مطعم قبل عصر الثلاجات..

كان يقدم لزبائنه كل يوم طبقا مختلفا من الطعام..

وفي كل يوم يبقى لديه من الطعام بقية، فيضيفه إلى حلة اليوم التالي، دون أن يعني ذلك أن يفقد طبق التالي خصوصيته ومذاقه ورونقه..

الأتراك الذين استوطنوا الأناضول مهما كان وصفهم، لم يخطر ببالهم ما خطر ببال هذا الفهلوي اليوم، فلم يقتلوا لم يطردوا لم يهجروا..بل طل شعار إن أرض الله واسعة شعارهم.

ثم عندما فتح محمد الفاتح القسطنطينة، لم يشهد التاريخ انه قتل وهجر، نعم حصلت هجرة صاحبت الفتح، ولكنها كانت هجرة طوعية، فهاجر رهبان وعلماء من رومية البيزنطية إلى رومية الرومانية، ولكنها كانت طوعية..

بإمكان السيد….

قبل أن يفكر في حساب ما سيكون عليه الأمر الديمغرافي في اسطنبول في سنة ٢٠٥٠، أن يعود إلى مقبرة جناق قلعة ليحصي جيدا انتماءات الشهداء في ١٩١٥- ١٩١٦ وكيف كان عليه العدد هناك. فهناك صنع تاريخ استتبول الحديثة، بذلك الدم ، وبتلك التضحيات..

يفتخر الأتراك عموما في تاريخهم المجيد انهم فتحوا ابواب امبراطوريتهم لكل الهاربين من هولكست محاكم التفتيش، يبدو أنهم كانوا في ذلك العصر أكثر ثقة بذاتهم من محموم يرتجف فزعا من السيمرغ يجد على ضفاف البسفور ملاذا..

من بلخ في أفغانستان وجد جلال الدين البلخي ملاذه في قونية، في قلب الأناضول، وفيها كتب المثنوي، وأطلق أنين الناي:

"أنين الناي نار لا هواء..

وحديث العين لا تدركه الأذن!!

وكل من قطع عن أصله يظل يحن لزمان وصله.." فإلامّ يحن قوم لا أصول لهم..

وما زالت الدولة التركية تناضل، بكل طاقتها لتنفي عن نفسها ما يدعوها هؤلاء العنصريون إليه، من أنها نفذت هولكستا تركيا ضد الأرمن!! وأنا أشهد أن الأرمن الذين هربوا من رحى المعارك، هربوا إلى مناطق تسيطر عليها الدولة نفسها..

ولأن سمعة تركية والأتراك تهمني، أكثر مما تهم هؤلاء العنصريين الممسوسين أكتب دفاعا عن تركية وعن إنسانها وعن تاريخها المجيد..

انفوا الزيف عن انفسكم وعودوا إلى أصالتكم. النقاء في الأصالة وليس فيما يلوكه هؤلاء الممسوسون.

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1033