غرب بوصفه صانعاً للإبادة

ما عاد الغرب بعد الآن قادراً على إغراء بقية العالم، لا بنموذجه، ولا بقيمه، ولا بأفكاره، فقد استنفد كل ما يملكه، واستهلك كل طاقته، وبلغ الحدود القصوى في إنتاجه للشر، حيث الموت والخراب والنفاق والكذب، لقد صدّق الضعفاء كلامه عن الحرية والديمقراطية والعيش المشترك، صدّقوا قانونه الإنساني والمواثيق التي تربط بين دول العالم، صدّقوا ميثاقه لحقوق الإنسان العالمي، وحقوق المرأة والطفل والأقليات، صدّقوا حديثه عن حرية المعتقد وحرية الرأي والتعبير، صدّقوا أن هناك مؤسسات دولية ترافع لحق الدول في الاستقلال، واحترام سيادتها، وحق الشعوب في تقرير مصيرها.

لقد كشف الغرب عن وجهه الحقيقي، بلا مساحيق تزينه، ولا مواد تجميل تزوّقه، وجهه الأول، وبدايته الأصلية، الغرب العنصري الذي لا يعترف بالآخر، أي آخر، الغرب الشره للثروة، المحب للمغامرة والصيد ومصّ دماء البشر، لكي يقذف الحياة في دوله، فتستمر سيطرته وهيمنته على كل شيء، مشروعه منذ البدايات لم يكن إنسانياً، ولم يحمل همّ الإنسان، ولا قداسته، كان مشروعاً عنصرياً بامتياز، يسعى إلى سيطرة الرجل الأبيض على الأجناس الأخرى، وفي سبيل ذلك يجوز كل شيء، الحرب، الإبادة، السلب، النهب، التدمير، الإحراق، هي الحرب من أجل ذاته، وإنكار حياة الآخرين لأجل حياته، وسلب ثرواتهم ونهب أموالهم من أجل أن يغتني هو أكثر، وتدمير بيوتهم وإحراق ممتلكاتهم من أجل أن تزيد ممتلكاته وتتوسع إمبراطوريته. الغرب قتل في كل القارات، وامتص دماء كل الشعوب، ونهب ثروات كل الأجناس، من أجل ذلك قاد جنوده في البحار، منطلقاً إلى عوالم بعيدة ومجهولة، فكان الموت مصير من قاومه، والإبادة عنوان من تصدى له وتحداه، فطوى النسيان أقواماً، وسجل التاريخ أجناساً في هوامشه كذكرى عابرة في شريط ذاكرته، وما تبقي منها اليوم، تعيش كأقلية في أرضها، كالهنود الحمر مثلا، إذ ظلت هذه الأجيال تحمل ندوب السنوات الماضية، التي خلفتها معاناة الأجداد والآباء.

في معنى الإبادة

تعرف الإبادة بأنها فعل «ارتكب بقصد التدمير الكلي، أو الجزئي لجماعة قومية، أو إثنية أو عرقية أو دينية». وتحدد اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها خمسة أشكال مختلفة من الأفعال تتميز بها الإبادة الجماعية وهي:

*قتل أعضاء جماعة معينة؛

*إلحاق ضرر جسديّ أو عقلي جسيم بأعضاء الجماعة؛

*إخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشة يراد تدميرها المادي كلياً أو جزئياً؛

*فرض تدابير تهدف الحؤول دون الإنجاب داخل الجماعة؛

*نقل أطفال تلك المجموعة إلى مجموعة أخرى بالقوة.

والإبادة شأنها شأن الكلمات الأخرى، التي تحمل دلالات القتل والترهيب والتدمير، كالعنف والإرهاب، لكنها كلمة حديثة العهد في القاموس اللساني، ويعتبر رافائيل ليمكين (1900-1959) المحامي البولندي أول من صاغ هذا المصطلح في كتابه «حكم المحور في أوروبا المحتلة» في عام 1944، لذلك يعتقد البعض، أن ظهورها كان بسبب المحرقة اليهودية في ألمانيا، مع أن هذا الاعتقاد مجانب للصواب، فالمصطلح «لم ينحت بناء على كارثة الهولوكوست، بل بناء على تصرفات قوات الاحتلال الألمانية في الدول الأوروبية عموما؛ أي بما في ذلك جرائم أقل من المحرقة النازية ليهود أوروبا».

الإبادة متأصلة في سلوك الغرب: ما يقوم به الكيان الصهيوني الغاصب من إبادة في غزة بدعم أمريكي وغربي مفضوح، يؤكد أن الإبادة متأصلة في سلوك الغرب المتغطرس، وأنها أمر طبيعي في فكره، ومبررة في ثقافته المشوّهة، فالغرب عرض، كما يقول روجيه غارودي، وثقافته مشوّهة، وأن أمريكا، وفقاً للمهدي المنجرة، «لا تاريخ لها يذكر، ووجودها لا يتعدى 300 سنة، والجزء الأكبر من تاريخها القصير أتاها من أوروبا»، وعندما تلتقي الثقافة المشوّهة بالذاكرة القصيرة، تنتج، في نهاية المطاف، الكوارث والإبادات، هنا يجب، كما يستنتج المنجرة، «ألا ننسى أن الولايات المتحدة الأمريكية عمدت من قبل إلى محو حضارة 20 مليون هندي محلي في حرب إبادة»، كما أنها قامت، في الوقت نفسه، باجتثاث «ما بين ثلاثة أو أربعة ملايين من الأشخاص من افريقيا»، ولعل السبب في ذلك يرجع، حسبه، إلى «أن أمة بلا تاريخ لا تستطيع امتلاك نفسها أمام حضارات لها ستة أو سبعة آلاف سنة»، إذن، هو الشعور بالنقص أمام أمم أخرى لها تاريخ ممتد في أغوار الزمن، ولها ذاكرة مرسومة في جدرانه، ولهذا السبب «تحاول قتل ذاكرة تلك الحضارات، لأنه عندما يتم القضاء على تلك الذاكرة يعتقد أن المغلوب انهزم». إن الغرب الذي أباد الهنود الحمر في أمريكا هو نفسه الذي انتشرت جيوشه في الأراضي الأخرى، فاستعمرت شعوبها ونهبت ثرواتها، فأعاد فعل الابادة مجدداً، وبصور مختلفة، من أجل توطين الجنس الأبيض في هذه الأراضي البعيدة، ولعل حضوره اليوم في أستراليا، أو في العديد من دول افريقيا، لأفضل دليل على محاولته محو السكان الأصليين، واجتثاث وجودهم، حيث نجح في بعضها، ولم يوفق في بعضها الآخر. لم تكن دول القارة الأوروبية في منأى عن فعل الإبادة، فقد كانت مسرحاً لعمليات محوٍّ قاسية، خاصة في الحربين العالميتين، الأولى والثانية، وإن غطت المحرقة النازية لليهود على الإبادات الأخرى، ذلك أن تسليط الضوء على هذه المحرقة دون غيرها من المحارق الأخرى، التي قام بها الاستعمار الغربي في العديد من القارات، افريقيا، آسيا، أمريكا.. وغيرها، ليس عملا بريئاً، إنما هو وسيلة من وسائل الغرب للتغطية على جرائمه الوحشية الأخرى، بتوجيه الأنظار إلى قضية واحدة دون غيرها، لكي يحقق المكاسب المراد تحقيقها، من بينها نقل اليهود إلى أرضهم الموعودة، فيتم التخلص منهم، وإقامة دولتهم (إسرائيل) في أرض فلسطين، فيؤدي ذلك إلى اختراق الأمة.

يقدم البعض تفسيراً آخر للتسويق الكبير للمحرقة اليهودية بمثل هذه الصورة، إذ يراه عائداً بالأساس إلى أنها حدثت في أرض أوروبية، واستهدفت جنساً أوروبياً، وإن كان يحمل عرقاً مختلفاً، غير أن السبب الحقيقي وراء ذلك يكمن في إبقاء مظلومية اليهود حية في وجدان العالم، وجعلها نموذجا أو مقياسا يقاس عليه، لكي يفعل كيانهم المغروس في أرض فلسطين ما يريد، وتبقى أفعاله فوق النقد والمحاسبة. والصهيونية، في الحقيقة، هي امتداد لهذه الرؤية، فهي نتاج للغرب، وأفكاره المبنية على العنصرية والإقصاء، ترى في الآخر الفلسطيني عدواً يجب قتله أو إبادته أو تهجيره، وبالنظر إلى الأفكار التي تعتمدها الصهيونية في نظرتها للعربي أو بالأحرى الفلسطيني، نجدها، في نهاية الأمر، تساهم في صناعة الإبادة، كوسيلة من وسائل التخلص من الفلسطينيين، وإنهاء وجودهم، قد حددها إدوارد سعيد في ثلاث أفكار هي:

*السكان العرب غير الموجودين.

*الموقف الغربي اليهودي المكمل نحو أرض (فارغة).

*المشروع الصهيوني المجدد، الذي سيتكرر بإعادة بناء دولة يهودية زائلة ودمجها مع عناصر حديثة مثل مستعمرات منفصلة منضبطة، وكالة خاصة لاستملاك الأراضي، إلخ.

ومعنى السكان العرب غير الموجودين، وفقاً لعقيدة الصهيونية، أن أرض فلسطين فارغة، أي هي أرض بلا شعب، وبالتالي، فهي في حاجة إلى شعب بلا أرض، وعلى هذه السردية المزيفة، قامت دولة إسرائيل المزعومة، على أن وجود المقاومة الفلسطينية وصمودها، وتشبث الفلسطيني بأرضه وحقه في الوجود، على الرغم من المعاناة والآلام من شأنه، أن يقوّض الفكرة الصهيونية.

إن ما يحدث في غزة اليوم هو إبادة بأتم معنى الكلمة، إذ تفنن الكيان الصهيوني في ارتكاب المجازر، غير آبه لشريعة تكبحه أو قانون يردعه، هو كالوحش الهائج أفرغ كل أحقاده وأمراضه، وهو كالسادي يتمتع في تعذيب ضحاياه، ويفرح لمرأى دماء الأطفال والنساء والعجائز التي تجري، هو كيان مولع بألعاب الموت والقتل والتدمير والتجويع، وهو كيان ولد في أحضان الغرب ونما، إذ يدعمه بكل ما يحتاج، ويقذف في شرايينه ماء الحياة، حتى لا يموت. لقد فعل هذا الكيان كل الشرور والموبقات في غزة، قتل الأطفال والنساء والعجائز، هجّر الناس من منطقة إلى أخرى، استهدف المستشفيات وأخرج معظمها عن الخدمة، قصف سيارات الإسعاف، قتل الأطباء والصحافيين وعناصر الدفاع الوطني، دمّر المدارس والجامعات والمساجد والكنائس، منع دخول المساعدات من غذاء وماء وأدوية. وفي المحصلة، هي حرب إبادة، وهولوكوست جديدة، استهدفت الشعب الفلسطيني، تمت تحت مرأى ومسمع العالم، قام بها كيان متوحش، بشراكة غربية مفضوحة؛ وبصمت عربي وإسلامي رسمي مخجل، وهذا الأخير إذا لم يكن متآمراً، في معظمه، فهو عاجز متخاذل. هي محرقة أخرى تضاف إلى سلسلة المحارق التي قام بها الغرب في تاريخه البربري المتوحش.

وسوم: العدد 1124