عليّ ومعاوية: جهالة باريس وشعرة واشنطن

طبقاً للمرجع الذي يعتمده المرء، «مطالب السَؤول» للشافعي، أو «كشف الغمة» للإربلي، أو «الأمالي» للطوسي؛ فإنّ مقولة متشابهة المعنى متغيّرة الصياغة تُنسب إلى الإمام علي بن أبي طالب، وتسير هكذا: «الناس أعداء ما جهلوه»، أو «مَنْ جهل شيئاً عابه»، أو «مَنْ جهل شيئاً عاداه». وفي كلّ حال، كانت الفحوى التي تفيد بأنّ المرء عدوّ ما يجهل، هي التي ساقها عمدة مدينة باريس الأسبق برتران دولانوي، مخاطباً ضيف فرنسا الرسمي بشار الأسد أثناء المأدبة الرسمية التي أقامها على شرف الأخير في سنة 2001. وكان الغرض الظاهر هو حثّ الأسد على «الاحترام المطلق للكرامة الإنسانية»، و»شجب «العنصرية، والعداء للسامية، والإقصاء، ونقض التاريخ».

المضيف كان مضطراً لإقامة المأدبة؛ لأنّ الأعراف الدبلوماسية تقتضي هذا، ولكنه على الأرجح لم يكن مرغماً على اقتباس الإمام علي بسبب تضامنه مع الشعب السوري، أو يقينه بأنّ الأسد يجهل معنى الديمقراطية، وليس في المقام الأول على وجه التحديد؛ حين كان الأسد قد بدأ سنة أولى من منظومة التوريث، كانت في الآن ذاته السنة 31 من نظام الاستبداد والفساد الذي بدأه الأب حافظ الأسد عبر انقلابه على رفاقه البعثيين في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970.

كان دولانوي يمارس طرازاً دبلوماسياً، مخففاً ولبقاً ومهذباً، من معارضة الأسد على تصريحات لا تخصّ الشعب السوري أو الصفة الدكتاتورية للنظام السوري أو حتى أيّ شأن فرنسي؛ بل على أقوال أمام البابا يوحنا بولس الثاني خلال زيارة الأخير إلى سوريا، انقضّت عليها مجموعات الضغط اليهودية في فرنسا، وألزمت دولانوي باتقاء شرورهم التي لا ترحم. وكان الأسد قد تحدث عن «معاناة السيد المسيح على يد الذين وقفوا ضدّ المبادئ الإلهية والإنسانية التي نادى بها»، وعن الذين تآمروا «للغدر» بالنبيّ محمد، ولم تنفع «ترقيعات» لاحقة لهذه الأقوال في تبديد الجهة التي قصدها، أي اليهود.

هذه حكاية تلحّ على البال حين يقرأ المرء تغريدة توماس باراك، السفير الأمريكي لدى تركيا ومبعوث البيت الأبيض الخاصّ إلى سوريا ورجل الأعمال المقرّب من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ التي تقتبس الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان، هكذا: «لا أسحب سيفي حيث يَكفي سوطي، ولا سوطي حيث يَكفي لساني. ولو كانت هناك شعرة واحدة تربطني بقومي، لما انقطعت.. الخلافة الأموية.. حتى في أوقات التوتر، هناك دائماً لحظة للحوار لنسج السلام».

الترجمة الإنكليزية التي يُدرجها المبعوث الأمريكي (المستقاة من سايمون صباغ مونتيفيوري، مؤلف كتاب «سيرة أورشليم») أكثر أمانة للاقتباس الأصلي، والحق يُقال، وبالتالي أقلّ «فذلكة» في حشر مفردات القوم والحوار والسلام؛ ولكنّ باراك (عن سابق تعمّد؟) حذف تتمة العبارة الشهيرة، التي تكفلت بإرساء مبدأ «شعرة معاوية» ذائع الصيت: «… كانوا إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها»، حتى إذا كان الحذف هنا لا يُبطل شيئاً من مغزى استدعاء معاوية إلى سوريا 2025، ما بعد انحلال نظام «الحركة التصحيحية».

إذْ، في قراءة سلوك باراك على مستوى تأويلي أوّل، ليس زملاء الرجل في البيت الأبيض والخارجية والمخابرات المركزية على جهل بأكثر من «شعرة معاوية» يمسك بها الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع في تعامله مع الناس، أو بالأحرى مع «مكوّنات» سوريا المختلفة، حسب التعبير الرائج هذه الأيام. وأمّا في قراءة ثانية، إذا كان المعنى يخصّ السلام الإقليمي، مع دولة الاحتلال الإسرائيلي تحديداً، فإنّ الشعرة هنا لا معنى لها، ومفردة «قومي» منعدمة الدلالة، وبالتالي خاب فأل باراك!

في المقابل، ثمة «شعرة» أخرى إذا جاز التعبير هنا، من طراز خاصّ يربط بين عمدة باريس الأسبق والمبعوث الأمريكي الحالي؛ على صلة بحقيقة في السيرة الشخصية للرجلين: الأوّل من مواليد بنزرت في تونس؛ والثاني أجداده هاجروا إلى الولايات المتحدة من زحلة اللبنانية. وليس المرء بحاجة إلى تقليب فصول «الاستشراق»، كتاب إدوارد سعيد الرائد في مضماره، كي يعثر على جذور هاتين العودتَين إلى الإمام عليّ والخليفة معاوية، لاستقراء مشهد مرحّل أصلاً خارج سياقاته الفعلية، السياسية والثقافية، النفسية والسلوكية، بمنأى عن وطأة العلاقة بين الحاضر والماضي في غمرة الرياضة بأسرها.

وفي مناسبة العدوان الإسرائيلي الراهن ضدّ إيران ومنشآتها النووية، لعلّ الذاكرة تبيح العودة إلى برنارد لويس «بطريرك الاستشراق» وكبيرهم الذي علّمهم اختزال الشرق والإسلام والمسلمين والعرب إلى «برشام» يُبتلع بيُسْرٍ، من دون جرعة ماء. ففي سنة 2006 نشر مقالة أثارت ضجة عالمية لأنها تنبأت بأنّ إيران سوف تشنّ هجوماً نووياً على دولة الاحتلال، وربما ضدّ بعض البلدان الأخرى في الغرب، في يوم 22 آب (أغسطس) تحديداً. لماذا؟ لأنّ ذلك اليوم يصادف 27 من رجب، سنة 1427 للهجرة، أي يوم الإسراء والمعراج، الذي قد يكون مناسباً أيضاً لعودة الإمام الشيعي الثاني عشر من غيبته!

وكما اقتُبس الإمام علي في مبنى بلدية باريس، والخليفة معاوية على منصة X، فإنّ نبوءة الضربة النووية الإيرانية نُشرت في «وول ستريت جورنال» دون سواها؛ ولا حرج، استطراداً، في أن تُرفع عقيرة ما، بهتاف صارخ: ألا لا يجهلن أحدٌ علينا…!

وسوم: العدد 1128