صحيح كل الناس خير وبركة، ولكن الأصح أن الناس كإبلٍ مائة لا تكاد تجد فيها راحلة

تدمر الثقافات الخاطئة الأمم والمجتمعات والجماعات . ويتردد في حياتنا العامة الكثير من المقولات الخاطئة التي تتحول بفعل التكرار والسيرورة إلى خلفية ثقافية فكرية ونفسية تتحكم في العقول وتشارك في صنع القرارات ، وتحسم الاختيارات ، وتدفع إلى الطريق التي لا تجمل، ولا تُرضى ولا تُختار .

يكرر الناس في مجتمعنا ، وعلى مستويات مختلفة منه ، عبارة ( كل الناس خير وبركة ) ، وهي عبارة صحيحة في إطار الاعتراف بوحدة الجوهر الإنساني ، وحقيقة أن الناس كلهم لآدم وآدم من تراب . وأن الناس مفطورون بجملتهم على حب الخير والسير في رحابه . 

ولكن الحقيقة الموازية لهذه الحقيقة بل المتقدمة عليها ، أن التاريخ إنما يصنعه القادة الأبطال ، من الأفراد والنخب المتقدمة على كل المستويات. يضطرب الفلاسفة والمفكرون كثيرا في موضوع صناعة التاريخ ، ويتوقفون طويلا عند دور ( البطل ) و( الجماعة ) فيه . ويوازنون بين دور النخب والقيادات ومؤهلاتهم الإبداعية التي كثيرا ما تكون وهبية أو فطرية ، وبين دور العامة والجند وما يقدمونه من تضحيات ، وما يتحملونه من تبعات وآلام ؛ ليظل لسان الميزان في صناعة التاريخ مؤشرا دائما لرجحان دور الأولين.

كل الناس تحفظ اسم السيد المسيح عليه السلام ، ولكن القلة تتعرف على واحد من الحواريين ، الذين رُفعوا على الصلب ونشروا بالمناشير فما ردهم ذلك عن دين الله .

 وكذلك يصلي الكثيرون على محمد رسول الله ، ويترضون على النخبة من صحبه الأولين ، ولكن أقل القليل يحيط بجيل الصحابة الذين بلغ عديدهم يوم حجة الوداع عشرة آلاف من المسلمين.

ويعتذر عمر لأبي بكر رضي الله عنه عن نظريته في خالد . عمر الذي كان يكثر على أبي بكر في خالد ، والذي أقدم على عزله يوم صار الأمر إليه ، لأنه كان يرى في سيفه رهقا على قول ، أو لأنه خشي أن يفتتن الناس به على قول آخر ، يعتذر عمر عن موقفه ذاك بقوله ( رحم الله أبا بكر فقد كان أعلم مني بالرجال ) . ذاك خالد القائد الموهوب المتميز الذي اجتاز المسافة بين العراق والشام بطريقة ما تزال موضع دراسة الاستراتيجيين والعلماء . وهو نفسه خالد المميز الذي كان نعم القائد والجندي.

 يقول المؤرخون لولا المعتصم ما كانت عمورية ، ولولا ألب أرسلان ما كانت ملاذكرد ، ولولا المعتمد وابن تاشفين ما كانت الزلاقة ، ولولا قطز وبيبرس ما كانت عين جالوت، وكتب الكتّاب عن جيل صلاح الدين ، الجيل الذي مهما كتبنا عنه ونوهنا به ، سيظل المضاف وسيبقى صلاح الدين بطل حطين هو ( المضاف إليه ) في كل حين وآن .

وفي عام النكبة 1948، نكبة فلسطين ، تحرك الإخوان المسلمون في سورية لنجدة فلسطين ، ولبس الدكتور العالم الفقيه مصطفى السباعي المراقب العام للجماعة لأمته وانطلق بإخوانه من أجل حيفا ويافا والقدس ، الأمر الذي لم يصنعه مراقب عام منهم من بعده لا من أجل حماة ولا من أجل دمشق ولا حلب ولا دير الزور ..!!

لتبقى نظرية المتنبي : ( وإنما الناس بالملوك ) ، ولتبقى حقيقة أن قائدا واحدا يرفع وآخر يحط ويضع هي الحقيقة الباقية . وقد عرفت العرب الحق المطلوب من حامل اللواء : 

 إنّ على حامل اللواء حقا ... أن يخضب الصعدة أو تندقا

وفي يوم فتح الفتوح بكى عمر للمستضعفين من المسلمين حين قيل له ( إن جلّ الشهداء – غير النعمان بن مقرن رضي الله عنه – كانوا من الجنود المجهولين الذين لا يعرفهم أحد !! بكى عمر وقال : وما يفعلون بمعرفة عمر بهم ألا يكفي أن يعرفهم من رزقهم الشهادة . 

دور القائد الباطل لا يقلل من أهمية دور الجنود معلومين أو مجهولين . كان أبو دجانة جنديا مجهولا في الصف يوم بدر ، فعلم نفسه بعلامة ، وخطر بين الصفين بطريقة عُرف بها على مدى التاريخ . ولا يشك أحد أن دور الجنود هو دور أساسي في صناعة التاريخ ، وعامل لا بد منه في صناعة النصر، ولكن هذه الحقيقة لا تلغي حاجة الناس إلى قائد متميز متفرد يكون قدوة وأسوة ليس بنفسه فقط ، ولكن بما يقدمه من أفكار ، ويقترحه من إبداعات .

ويبقى تجاوز ثنائية ( القائد والجندي ) من بعض مهام القائد المبدع القادر على تذليلها وتذويبها ليصير بجنوده إلى حال الذين قالوا : ( والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ) . أو حال الذي قال : ( ما أحب أنني معافى في أهلي ومحمد يشاك بشوكة في موضعه الذي هو فيه ) .

وفي حين يجعل البعض من الاعتذار بالعُدم ، والقلة ، ومحدودية الوسائل غطاء لمحدوديتهم هم ، أضاف القادة الأبطال الحقيقيون إلى مهامهم منذ فجر التاريخ نظرية تفجير وتوظيف الكامن من الطاقات قبل أن يكتشف علماء الفيزياء نظرية تفجير الذرة المادية بقرون . 

وانطلاقا من هذا المعطى وضع القرآن الكريم قاعدته الخالدة على لسان المؤمنين من بني إسرائيل (( كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ )) ليبقى للقلة دلالاتها الرمزية المفتوحة على أكثر من العدد الكمي المحدود.

وقرر العلماء بسيرورة التاريخ ، وقوانينه ، وسننه ونواميسه ، أن القائد الحق هو الذي يجمع ، وهو الذي يؤلف ، وهو الذي ينظم ، وهو الذي يكتشف الطاقات ويفجرها ، ويوظفها فيحول البخار المنتشر في الهواء إلى قوة فاعلة مؤثرة منجزة . ويجعل من القلة القليلة من أهل بدر المنتصرين والباقين

وأدرك العرب بفطرتهم الأولية أنه :

لايصلح الناس فوضى لا سراة لهم .. ولا سراة إذا جهالهم سادوا

ولكن النظرية الماركسية في قيادة ( البروليتاريا ) ، أو ما سمي في عصر الجماهير ( القيادة الجماعية ) تقدمت فاقتحمت في هذا الزمان الكثير من العقول والقلوب وتكرست في خلفيات النفوس ، ورغم تنحي الماركسية نظريا ، وانهيار اللينينية الستالينية عمليا ، فقد تسللت الأفكار البروليتارية إلى حيث لا ينبغي لها ؛ لنراها ناصبة عاملة في نظم وقواعد وعلى ألسن وشفاه لم يكن لها أن ترد هذا المورد ولا أن تصدر هذا المصدر .

نبه الرسول الكريم هؤلاء الذين يتبنون نظرية كل إنسان يصلح لكل موقع ، ويصوتون بالعدد الكمي على صحة الحقائق العلمية ، فيحسمون بالتصويت الكمي أمرا مثل كروية الأرض ، أو تركيب الهواء، ويختارون بطريقة التصويت الكمي نفسها مهندسهم وطبيبهم وقاضيهم !! الرسول الكريم حسم هذه المعادلة منذ قرون بحديثه الواضح : الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة. حقيقة نبوية خالدة تسقط نظرية التغيير للتغيير . وعناوين مثل كيف تصبح قائدا في ثلاثة أيام ...

وقال الحكماء : تمسك إن ظفرت بذيل حر ...

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 670