كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب ؟!

ما أن فرغت من قراءة كتاب " الحرب التي أنهت السلام " حتى بدا لي عنوان كتاب " كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب ؟! " لإليزابيث  طومسون شاهدا على التآمر ، ومتابعة بالصدفة لمضمون الكتاب الأول . ويدل العنوان الفرعي للكتاب الثاني " ... المؤتمر العربي السوري في 1920 وتدمير ائتلافه الليبرالي الإسلامي التاريخي " على مضمونه دلالة مركزة . ولب الكتاب هو القصة التي توضح كيف هزمت القوتان الاستعماريتان ، بريطانيا وفرنسا ، مبادىء الرئيس الأميركي وودرو ويلسون التي تشكلت وفقها عصبة الأمم . والأمر في بساطة أن استعمار الحقبة السابقة على الحرب العالمية الأولى  أعاد ترتيب أموره في الشرق الأوسط بعد تحطيم الإمبراطورية العثمانية رغبة منه في المحافظة على مجد هيمنته القديمة ، وفي السيطرة على الأجزاء العربية الحديثة التحرر من تلك الإمبراطورية ، والفوز كذلك بالثروة النفطية التي اكتشفت حديثا في المنطقة . وتتداخل في هذا الحيز التاريخي الضيق أحداث كثيرة ، هي أحداث الحرب العالمية الأولى ، والوعود العديدة التي منحتها دول متنوعة لكيانات متنوعة ، وأهمها ما كان سريا مثل اتفاقية سايكس بيكو ، ومنها ما كان علنيا مثل رسالة بلفور أو وعده . وأكبر الآمال والوعود هي التي قدمتها بريطانيا للعرب بأن تكون لهم دولة مستقلة ، والأهم من كل ذلك تطبيق مبادىء وودرو ويلسون خاصة المبدأ الذي يدعو إلى حق الشعوب في حكم نفسها بنفسها  . ولكن ما كان لهذا أن يتم ؛ لأن الرغبة الاستعمارية في الهيمنة نجحت في منع البلدان العربية من الاستقلال ، وتدخلت في هذا المنع عوامل كثيرة إلا أن أهمها مثلما بينا كان رغبة الاستعماريين الأوروبيين في الهيمنة ، وفي سوريا خاصة تسلمت فرنسا كامل المسئولية والصلاحية . وبعد الحرب ، بعد طرد القوات العثمانية من المنطقة ، شكل مندوبون عرب متنوعون لجانهم الخاصة ، وصنعوا في وقت وجيز إنجازا مرموقا هو بيان  استقلالهم ، وسن دستور يصلح لأن يكون مرشدا هاديا حتى للحكومات الغربية  في ذلك الزمان إلا أن قوى أخرى أكثرها سياسي وبعضها عسكري كانت لها الغلبة  ؛ إذ استمر البريطانيون في احتلال الجزء الجنوبي من سوريا العثمانية ، أي الأراضي الفلسطينية ، وطالبوا بحصولهم على انتداب فيها زاعمين أنه سيستمر حتى يصبح الفلسطينيون قادرين على حكم أنفسهم ، وكان الهدف الحقيقي  لمطالبتهم أن يتمكنوا من إقامة الوطن اليهودي الموعود في فلسطين ، وأن يجدوا  سبيلا توصلهم إلى النفط وإيران والهند . وكان للفرنسيين قوة قليلة  في المنطقة إلا أنهم ما لبثوا أن ثبتوا وجودهم فيها اعتمادا على اتفاقية سايكس بيكو .

ومن الشخصيات الفرنسية الرئيسة في ذلك الحين روبير  دوكيه " الزعيم القوي في اللوبي الاستعماري الفرنسي " الذي رأى في مبادىء ويلسون وباء وخيما  ، وقال مستعملا اللغة الاستعمارية المأثورة إنه : " بتوظيفه للشبكات الاستعمارية خلال عشرين عاما مستعينا بالدبلوماسية الفرنسية وحدها في الشرق الأوسط ؛ دمر كل أسس الديمقراطية الليبرالية العربية لمنع ازدهارها ثانية " . وكان استعماله للمادة الثانية والعشرين من ميثاق عصبة الأمم  " فرضا للحكم الفرنسي المباشر بالقوة " .

ولم يسلم من هذه السياسة الاستعمارية أحد بما أن لاعبين آخرين كثيرين لم يرغبوا في وجود أي حكومة عربية مستقلة في الشرق الأوسط ( أو في كل الإمبراطورية العثمانية الآفلة ) . وتنحت الولايات المتحدة جانبا تاركة مبادىء ويلسون حطاما في حطام ، ورافضة باستهزاء معاهدة فرساي للسلام " لخشيتها من أن تفضي إلى التوسع الاستعماري " . وكانت البقية الباقية من الدولة التركية لا تزال تحتفظ بجيش كبير ، وقادرة على الوصول إلى نتيجة لنفسها أفضل كثيرا من الأقطار العربية ،  فقاتلت قواتها القوات الفرنسية وأوقفتها عند  حدودها الجنوبية ، وفرضت التطهير العرقي الخاص بها على مختلف القوميات في ما سيصبح تاليا تركيا الحالية .

وكان المنتظر من الهيئات التشريعية العربية التي تسمح للشعب بممارسة سلطته السيادية أن تمنع الملوك الفاسدين من بيع بلدانهم للأوروبيين مثلما باع شاه إيران وخديوي مصر بلديهما لهم . زد على هذا " أن الحرية الدستورية تعبير أصيل عن القيم الإسلامية لا الفساد الغربي " . وتقدم قراءتنا لكتاب طومسون البرهان على أن تلك القيم لا تحوي مبادىء الحرية الدستورية فحسب ، ولكنها أيضا تستطيع تنظيم الحكومة إداريا وإقامة بنيانها إقامة سليمة بخلاف الخرافات الاستعمارية لبريطانيا وفرنسا .

لقد انهزم الليبراليون الغربيون أمام منافسيهم الاستعماريين ، وهزيمتهم  تؤلف  الكثير من قصة فرصة العرب للحكم الديمقراطي التي سرقها الغرب . كانت الهزيمة عسكرية وسياسية ، ويقع نصيب يسير منها على القيادات  العربية التي " لم يكن لديها وقت كافٍ لحيازة الخبرة الضرورية للتصدي للأساليب الحازمة للدبلوماسيين الأوروبيين الاستعماريين " ، ويجب أن نضيف أنه لم تكن لتلك القيادات قوة عسكرية ذات فعالية قتالية غلابة ؛ إذ لم تملك وقتا لتسليح نفسها . والحقيقة أنها واجهت حظرا دوليا على إمدادها بالسلاح . وأفضت هزيمة الليبراليين الغربيين   إلى تفرقهم  واختفائهم في النهاية . وتقول الكاتبة : " إن جهاز فرنسا القمعي ، وحمايتها للنخبة المعارضة للديمقراطية أقاما حواجز جديدة مضادة للسياسة الديمقراطية فأنبت هذا بذور الحكم الفردي والنزعة الإسلامية المناوئة لليبرالية " .

أسلوب الكتاب حسن الصياغة ، ومراجعه جيدة ، ويضم في متنه بيان الاستقلال العربي ، ونص الدستور إلا أن من شأن خلفية تاريخية أرحب أن تعين القارىء على فهم السياق الأوسع للأحداث التي عرضها  . والحق أن إليزابيث طومسون تقدم لنا كتابا يفتح الطريق لتفصيل كثير من الجوانب الصغيرة لهذا الموضوع ، جوانب إمبراطوريات كبرى ذات غايات كبرى . الموضوع في لبابه هو الفترة التي أسست لمشكلاتنا الحالية في المنطقة ، ومن ثم لا يمكن فهم الوضع القائم فيها فهما صحيحا دون قراءة كتب من صنف " كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب ؟! " .

وسوم: العدد 888