مرآة في القلب

بمناسبة يوم الأم

زهير كحالة

(يزاح الستار عن غرفة تتوسطها طاولة عليها هاتف ، وعلى الجانب الأيسر من المسرح مرآة طويلة وبقربها مشجب)

الزوجة : (وهي تشيع زوجها إلى الباب) مع السلامة يا سليم .

الزوج : سلمك الله يا صفاء ..

الزوجة : سأنتظرك اليوم على الغداء ..

الزوج : لن أتأخر يا زوجة الهناء ..

الزوجة : سأعد لك طعاماً شهياً أسعدك به يا زوجي الحبيب ..

الزوج : أمدّ الله في عمرك يا صفاء ، يا شريكة الحياة ..

(يخرج)

الزوجة : ما أسعدني بزوجي ، وما أسعدني في حياتي .. إن مركبة الهناء تحلق بي في عالم الخيال وتسبح بي في عالم الواقع .. وكل أحلامي تكاد أن تتحقق .. لولا حماتي ..

الأم : (داخلة) هيا قوليها بصراحة .. إنك تتمنين موتي .. لكي تستفردي بابني .. وترتاحي من وجودي .

الزوجة : سامحك الله يا أمي ..

الأم : اسمعي يا صفاء .. أنا أعلم أن الحماة ثقيلة على الكنّة .. ولكنني أحذرك يا ابنتي .. إن الحياة دين ووفاء .. يوم لك ويوم عليك .. وبقدر ما تكونين طيبة مع حماتك ، تكون كنّتك طيبة معك .. مِثلاً بمثل ..

الزوجة : ما لزوم هذا الحديث يا أمي ؟ ماذا بدر مني لتوجهي لي تهديدك المبطن .. وتسلخي جلدي بكلامك المؤلم ..

الأم : إني لك ناصحة لا لائمة .. وعليك مشفقة لا ناقمة .. ويشهد الله أني لم أقل ما قلت إلا خوفاً عليك يا ابنتي ، وحرصاً على سعادتك مع ابني ، فما من بيت إلا وتشكو فيه الكنة من حماتها ، وتتبرم من مشاركتها لها في بيتها وبعلها(3) . ولكن لو أن كل كنة فكرت بعمق ، لرأت أن وجود حماتها بقربها نعمة وأي نعمة .. ووجود امرأة معها بمثابة أمها عون وأي عون لها في تربية أولادها ، وتنظيم شؤون حياتها ، وبلوغ المدى في رعاية زوجها وولدها ، وفي هذا سر سعادة الدنيا والآخرة .

الزوجة : ولكن الزمان يتغير يا أماه .. وما كان يصلح للآباء والأمهات لم يعد يصلح للأبناء والبنات ..

الأم : أفهم هذا يا صفاء .. ولكن ..

الزوجة : (بنفاذ صبر) إني ماضية إلى المطبخ لإعداد طعام زوجي سليم .

(تتجه إلى الجانب الأيمن من المسرح بعصبية وتخرج) .

الأم : هداك الله يا ابنتي .. غداً تصبحين حماة .. وتدركين عمق الجرح الذي ينزف من سويداء القلب حين تأتي عروس لن تضحّ في سبيل ابنك قيد أنملة(4) لتخطف من حضنك الدافيء ولدك الذي ربيته العمر كله .. ومحضته(5) الحب كله .. وعقدت عليه الأمل كله ..

(يرن جرس الهاتف ، فتهم الأم برفع السماعة أمامها ولكن الزوجة تبادر بالرد على فرع الهاتف الموجود في الداخل)

الزوجة : (من الداخل) آلو ؟ .. سليم ؟ .. أهلاً يا حبيبي .. طبعاً طبعاً .. وهل أعدّ الطعام إلا لأسعدك .. نعم (تضحك) .. وأنا أكثر شوقاً إليك .. اطمئن .. سيكون كل شيء جاهزاً عندما تعود بإذن الله .

الأم : (تتنهد).

الزوجة : (من الداخل) ماذا تقول ؟

الأم : (بقلق) خيراً يا ولدي ؟

الزوجة : (من الداخل) لا لا .. أنا أفضل أن نأكل وحدنا .

الأم : (تمسح دموعها) .

الزوجة : (من الداخل) كما تريد يا حبيبي .. ولكن ستكون هذه آخر مرة .. إن وجودها يحرمني من حرية الكلام .

الأم : (بصوت حفيض) اطمئني يا ابنتي .. إنني أنا التي سأجعلها آخر مرة أتناول معكما فيها الطعام .

الزوجة : (من الداخل) مع السلامة يا حبيبي .

(صوت إطباق السماعة)

الأم : (متجهة إلى الجانب الأيسر) غفر الله لي .. لابد أنني كنت مقصرة في مع حماتي في أول عمري حتى رزقني الله كنة تريد التخلص مني في آخر عمري ..

(تخرج)

الزوجة : (داخلة من الجانب الأيمن مرتدية ثوب المطبخ ومعتمرة طاقية الطهاة) لقد نفدت كمية السمن .. سأذهب لأشتري علبة جديدة (تتجه إلى الجانب الأيسر فتحين منها التفاتة إلىة المرآة فترى نفسها في ثياب المطبخ) أوه .. نسيت .. سأعود لأخلع ثياب المطبخ ..

(تخرج من الجانب الأيمن)

الأم : (داخلة من الجانب الأيسر ويدها على رأسها كمن تذكرت شيئاً مفاجئاً) نسيت أن أوصي ولدي بأن يحضر لنا علبة سمن .

(تضع يدها على السماعة لترفعها)

الزوجة : (تدخل من الجانب الأيمن بسرعة وقد خلعت ثوب المطبخ) إني ذاهبة لشراء علبة سمن ..

الأم : (باستغراب) ماذا تقولين يا صفاء ؟ أنت تخرجين إلى السوق لشراء علبة سمن ؟

الزوجة : وما العيب في ذلك يا حماتي ؟

الأم : حرام أن تختلطي بالرجال يا صفاء .. لو كان عمك أبو سليم حياً لخسف بنا الأرض ..

الزوجة : أرأيت كيف تغير الزمان وتبدل الحال يا أمي ؟ .. إن زمانك ولّى ولن يعود .. وما كان يصلح لكم بالأمس لم يعد يصلح لنا اليوم .

الأم : ولكن الحلال والحرام لا يتغيران ، ولو تغير الزمان والمكان يا ابنتي .

الزوجة : (بانزعاج ونفاد صبر) أوه .. إني ماضية لارتداء ثيابي .

(تخرج من الجانب الأيسر بسرعة)

الأم : سبحان الله .. كم تغيرت بنات اليوم .. الحمد لله أنك متّ يا أبا سليم قبل أن ترى حال بنات هذا العصر ..

الزوجة : (تدخل من الجانب الأيسر وقد ارتدت فوق ثيابها جاكيتة وبيدها مفاتيح سيارة) .

الأم : أهكذا تخرجين يا صفاء ؟ رأس حاسرة ودون غطاء ؟ ..

الزوجة : لماذا تتدخلين في شؤوني الخاصة يا حماتي ؟.. ألست أنا وزوجي متفاهمين ؟

الأم : ولكن أعلم أن ولدي لا يوافق على خروجك سافرة الوجه حاسرة الرأس .. وكأنك ..

الزوجة : وكأني ساقطة .. هيا قوليها بصراحة .. قولي أنك تريدين أن تنغصي عليّ عيشي .. قولي أنك تغارين مني لأني سعيدة مع زوجي ..

الأم : (صارخة) أنا أغار منك يا صفاء ؟

الزوجة : نعم .. قوليها ولا تخادعي نفسك أو تخادعيني .. قوليها لتريحي نفسك وتريحيني ..

الأم : (تبكي وتخرج من الجانب الأيسر) ..

الزوجة : (تضيق ذرعاً بهذا الوضع) أوه .. ماهذه الحياة ؟.. لقد نفد صبري ولم أعد أحتمل المزيد (تتجه إلى الجانب الأيمن) اليوم سأضع حداً لهذا الأمر مع سليم ..

(تخرج ويسمع صوت اصطفاق الباب الخارجي)

(يرن جرس الهاتف مرتين)

الأم : (تدخل من الجانب الأيسر وهي تكفكف دموعها) ..

مهلاً .. سأردّ عليك .. (ترفع السماعة) آلو .. نعم .. لا .. لا شيء يا ولدي .. صوتي يرتجف لأني .. لأني .. جريت مسرعة إلى الهاتف .. (تتصنع الابتسام) أنا لا أزال صغيرة السن حتى أجري بسرعة ؟ .. الله يرضى عليك يا ولدي .. (تمسح دموعها بصمت) .. وماذا بقي لي من أمل إلا أنت يا حبيبي .. صفاء ؟ .. أ .. أ .. مشغولة قليلاً .. أناديها ؟ .. إنها منهمكة في .. حسناً .. كما تشاء يا حبيبي .. لن أزعهجا .. سأبلغها تحياتك .. حاضر .. ومحبتك أيضاً .. اطمئن يا ولدي .. سأؤمن راحتها كي تتفرغ لخدمتك يا قرة عيني .. يحفظك الله ويسلمك يا فلذة كبدي .. (تضع السماعة مكانها) الله يحميك يا ولدي (تكفكف دموعها) .. يا رب إن قلبي لا يستطيع أن يختزن شيئاً من حقد أو بغض .. رب اشرح لي صدري ، وطهر لي قلبي ، لاتصرف مع كنتي وكأنها أعز بنت عندي ، واجعلني أكن لها من المحبة أكثر مما أكنه لولدي .. اللهم أعنّي على بلوغ درجة الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ، حتى أكون جديرة بمحبتك ، وأهلاً لدخول جنتك .. يا من قلت : (وسارعوا إلي مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ، الذين ينفقون في السراء والضراء ، والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ، والله يحب المحسنين) صدق الله العظيم .

(تتجه إلى الجانب الأيسر فيقرع جرس الباب البيانو) من الطارق ؟

الجار : (من الخارج) أنا أبو لطفي ..

الأم : أهلاً وسهلاً ومرحباً بالجار .

الجار : (من الخارج) سامحيني على نقلي خبراً سيئاً ، بحكم الضرورة يا أم سليم .

الأم : (بصوت مرتجف) خيراً يا أبا لطفي .. ماذا حدث ؟ .. هل أم لطفي بخير .

الجار : (من الخارج) نعم يا أم سليم .. إنها بخير .. ولكن ..

الأم : هل أصاب أحد أولادك سوء لا سمح الله ؟

الجار : (من الخارج) كلهم بخير والحمد لله .. ولكن ..

الأم : خيراً إذن يا أبا لطفي .. إن قلبي يخفق بشدة .. ماذاحدث ؟

الجار : (من الخارج) صفاء يا أم سليم ..

الأم : صفاء ؟ (تشهق) ماذا حصل .. تكلم .. ماذا حدث لها يا أبا لطفي ؟ أسرع .. خيراً إن شاء الله .

الجار : (من الخارج) سامحيني يا أم سليم .. لقد ... لقد ...

الأم : انطق .. ماذا حدث يا رجل ؟

الجار : (من الخارج) سامحيني يا أم سليم .. إن صفاء اصطدمت سيارتها بعمود وهي الآن في المستشفى ..

الأم : (مصعوقة) ماذا تقول ؟ .. صفاء في المستشفى ؟.. لهفي عليك يا ابنتي .. يا مصيبتي ولوعتي فيك يا حبيبتي .

الجار : (من الخارج) سامحيني يا أم سليم .. إني أنقل إليك هذا الخبر السيء رغماً عني .. إن الله لطيف بعباده .. وهو الرحمن الرحيم .. السلام عليكم ..

الأم : وعليكم السلام ورحمة الله .. صفاء في المستشفى ؟ حادث سيارة ؟ يا إلهي .. لقد سامحتها فلم عجلت بالانتقام منها ؟ (تهم برفع السماعة فيرن جرس الهاتف فجأة) أريد ان أتصل بولدي سليم لأخبره .. (ترفع السماعة) آلو .. من .. سليم ؟ أين أنت يا ولدي ؟ .. في المستشفى ؟.. من أخبرك يا ولدي ؟ .. الطوارئ ؟.. وكيف حالها الآن ؟.. أنا ؟.. تقول أنا السبب ؟.. أقسم لك يا سليم إنني .. أنت قادم لتسوي الحساب معي ؟ (يغلبها البكاء فتعيد السماعة) أنا يا ولدي تسببت في صدم زوجتك ؟

(تجهش بالبكاء) كنت أكظم غيظي بكل جهد .. وأغالب نفسي عند كل غضب .. وادعو الله أن يطهر قلبي من كل ذرة حقد أو كراهية ، وبعد ذلك تتهمني بأني كنت السبب فيما حدث لزوجتك ؟ .. لا .. لا .. هذا كثير .. هذا كثير ..

(يرن جرس البيانو)

الجارة : (من الخارج) لا حول ولا قوة إلا بالله ..

الأم : إنها جارتنا أم لطفي (تخرج من الجانب الأيمن) أهلاً وسهلاً يا جارة .

الجارة : (داخلة مع الأم) جئت لأطمئن عليك يا أم سليم .

الأم : أرأيت يا جارة .. إن الله يتفقدنا بالمصائب ، ليختبر إيماننا بقضائه ، ويبتلي صبرنا على ضرّائه .

الجارة : ما إن أخبرني زوجي بالخبر ، حتى بادرت بالمجيء إليك لأكون بجانبك ، وتقديم ما أستطيع لمساعدتك .

الأم : شكراً لك أم لطفي .. ردّ الله عنك السوء ، وأجزل لك الثواب ..

الجارة : هل تحريت عن أخبار صفاء يا أم سليم ؟

(يسمع صوت اصطفاق الباب الخارجي بشدة)

الزوج : (داخلاً باهتياج) تتحرى عن ضحيتها ؟ تطمئن على زوالها من حياتها ؟ .. ألا يكفي أنها تسببت في اصطدامها حتى تتسلى برؤيتها وهي بين الموت والحياة ؟ (يلتفت إلى أمه) ها .. أتريدين أن تشبّهي بالقطة التي تطيل النظر في الفأرة قبل أن تمزقها بأنيابها ليطول أمد استمتاعها بسيطرتها عليها ؟.. كيف طاوعتك نفسك أن تجعليها تخرج من بيتها وهي غاضبة حتى تصطدم بعمود الكهرباء ، وتريحك من وجودها إلى الأبد ؟

الجارة : ما هذا الكلام الذي تخاطب به أمك يا سليم ؟

الزوج : (غاضباً غير مدرك لما يقول) دعيني أفرغ ما في جعبتي من سهام اختزنتها عشرات الأيام .. إن زوجتي تسعى لأن تسعدني ، وأمي تضع العراقيل دونها لمنعها عن إسعادي .. لماذا ؟ .. لأنها تغار منها .. لنها سلبت منها فلذة كبدها .. لأنها تريد أن يكون لها رجل يؤنسها ، كما يؤنس ابنها كنتها .. لأنها ..

الأم : (صارخة) كفى .. كفى ..

الجارة : إياك والمزيد يا سليم .. إن الشيطان يتلبس بك .. ويستغل غضبك ليجعلك تعقّ والدتك..

الزوج : لقد أخبرتني صفاء بكل شيء .. إن أمي تريد أن تقاسمنا الطعام .. وتشاركنا المنام .. وتعدّ علينا الحركات والسكنات .. وتحاسبنا على الأفكار والخطرات .. وتسلبنا الحق في أن نحيا حياتنا كما نريد .. وأن ننظم نسلنا كما نريد .. وأن ندبر شؤوننا كما نريد .. وأن نرتدي من الثياب ما نريد .. وأن ..

الجارة : (صائحة) اتقّ الله يا سليم ..

الزوج : (مسترسلاً في غضبه) قسماً بالله لن تبقي معنا في هذا البيت لحظة واحدة .. هيا .. هيا احزمي متاعك وانصرفي إلى بيت أهلك ..

الجارة : (مذعورة) سليم ..

الزوج : هذا البيت ورثته أنا عن أبي .. أما انت فمكانك في البيت الذي ورثته عن أبيك مع أخوالي ..

الأم : (تتجه بدموعها الصامتة إلى الجانب الأيسر وقد طأطأت رأسها) كما تريد يا سليم ..

الجارة : قسماً بالله لن أدعك تخرجين من هذا البيت يا أم سليم ..

الزوج : امرأتي طالق إن عددت عشرة ولم تخرج .. واحد .. اثنان .. ثلاثة ..

الأم : اطمئن يا ولدي .. سآخذ ثيابي وأخرج في الحال ..

(تخرج من الجانب الأيسر)

الجارة : أم سليم .. (تلحق بها) .

الزوج : هذا أحسن .. سيصبح البيت أفضل .. ستصبح الحياة أسعد .. غداً تحضر صفاء ونبدأ من جديد حياة الهناء ..

(يتجه إلى الجانب الأيسر فيرى نفسه في المرآة فيتراءى له طيف بشع للغاية)

الزوج : من أرى ؟ .. من تكون ؟ ..

الطيف : (من خلف المرآة وعلى وجهه قناع وحش مخيف) أنا سليم .. انظر .. أليس هذا رأسك ؟ (يشير إلى رأسه) وهذه أليست يدك ؟ (يشير إلى يده) وهذه أليست قدمك ؟ (يشير إلى قدمه) .

الزوج : (وهو يحرك رأسه ويده وقدمه تجاوباً مع طيفه) بلى .. هذه يدي .. هذه يدي .. وهذه قدمي .. ولكن .. ولكن هذا ليس وجهي .

الطيف : بل إنه وجهك على حقيقته ..

الزوج : لكنه وجه بشع .. إنه وجه غول .. إنه .. إنه .. (يغطي عينيه بيديه لكيلا يرى نفسه)

الطيف : نعم يا سليم .. وجهك وجه حيوان متوحش .. إنك لست إنساناً هذا اليوم .. لا ولن تعود إنساناً بعد هذا اليوم ..

الزوج : (يرفع يديه عن وجهه وينظر في المرآة) ويلاه .. من أين جاء هذا القناع المخيف الذي كسا وجهي بهذه البشاعة الفظيعة ؟

الطيف : إنه ليس قناعاً يا سليم .. إنه وجهك الذي أسفر عن حقيقته .. إن المرآة لا تعكس إلا الصورة الحقيقية للأشياء ..

الزوج : لكني في عملي موظف محترم .. لم يشعرني أحد بأني قبيح الوجه إلى هذه الدرجة .

الطيف : ذلك ان باطنك اليوم طغى على ظاهرك .. وجانب الشر فيك سيطر على جانب الخير ..

الزوج : لا .. لا .. إنك تلبس قناعاً لا أعرفه .. إنك تخدعني بمنظر لا أتقبله .. انت تريد أن تحطم شخصيتي ، وتبدد قوتي .. وتجعلني أتحول من إنسان يمارس حريته .. إلى ديك مريض عاجز عن الصياح .. أو طائر في قفص مهيض(6) الجناح .

(يدير وجهه مبتعداً عن المرآة)

الطيف : (يخرج من المرآة ويقف أمام الزوج وكلما تملص منه قفز قبالته) أنت تزعم أنك رجل ؟ ألا بئست الرجولة رجولتك إن أدت إلى أن تعق أمك التي أنجبتك ، وتطر دها من بيتها الذي فيه تربيت .. ومن قلبها الذي فيه ترعرعت .. ومن حضنها الذي فيه تدفأت .. ومن صدرها الذي منه ارتويت .. أهذه هي الرجولة في نظرك أيها الإنسان المتوحش ؟ .. أهذه هي الأمومة المضحية التي تستحق أن تجزى بمثل نكرانك ؟ .. أهذه هي البنوة البارة التي يليق بك أن أن تحققها بعقوقك ؟..أهذه هي تعاليم قرآنك وسنة نبيك التي جعلت من بر الوالدين أول واجب على المؤمن بعد توحيد رب العالمين ؟ .. أين أنت من قول الله تبارك وتعالى : " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ، وبالوالدين إحساناً . إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍّ ، ولا تنهرهما ، وقل لهما قولاً كريماً . واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ارحمهما كما ربياني صغيرا " ثم أين أنت من قوله تعالى : " حملته أمه وهناً (7) على وهن ، وفصاله (8) في عامين ، أن اشكر لي ولوالديك ، إلي المصير ".

أنسيت توصية رسول الله صلى الله عليه وسلم من جاءه قائلاً : يا رسول الله إني أريد الجهاد في سبيل الله ، فسأله : هل أمك حية ؟ فقال : نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلزم رجلها فثمّ (9) الجنة . وأين أنت من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سأله : من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : امك ، قال : ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أبوك .. ثم أين أنت من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الله حرّم عليكم عقوق الأمهات) . وكيف تطمع أن يرضى الله عنك والرسول عليه السلام يقول : (رضى الرب تبارك وتعالى في رضى الوالدين ، وسخط الله تبارك وتعالى في سخط الوالدين) .. رغِمَ أنفك (10) يا عاقّ أمك .. أهذا هو خفض الجناح (11) من الذل لأمك ؟ الذي أمرك به ربك ، أن تحرمها من مهجة (12) قلبها دون أن تبالي بما سيفعله ولدك بك حين يعقك كما عققت أمك ، متناسياً قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (برّوا آبائكم تبركم أبناؤكم) ؟ .. أهذا هو النعيم الذي تسعى إليه في دركات (13) جهنم أن ترتكب أكبر الكبائر بعد الشرك بالله العظيم ، غير مبالٍ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر (14) الإشراك بالله وعقوق الوالدين ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إياكم وعقوق الوالدين ، فإن ريح الجنة توجد من مسيرة ألف عام ، والله لا يجدها عاق ، ولا قاطع رحم) ؟...

الزوج : (صائحاً) كفى كفى .. لم أعد أطيق رؤية وجهك .. لم أعد أطيق الاستماع إليك ..

الطيف : أتريد أن ترتاح مني ؟ .. أتريد أن ترتاح من صوتي وصورتي ؟

الزوج : نعم .. نعم .. أريد أن لا أراك .. أريد أن لا أسمعك ..

الطيف : إذن فاطمس صورة الوحش المنقوشة في قلبك .. وحطم جانب الشر المزروع في نفسك .. اكتم صوت الشيطان المسوس في صدرك .. دمّر مبنى الرذيلة الذي أقمته في أعماقك بعقوقك لأمك ، ومعصيتك لربك .. وارسم بدلاً من ذلك صورة الإنسان المؤمن البار ، وفجّر في أعماقك نبع الخير المدرار (15) ، وكن بعملك وخلقك مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر ، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أعن زوجتك على أن تحذو حذوك ، فتتقي الله في أمك ، وتعينها على استكمال سني عمرها هانئة معك ، راضية عنك ، داعية بالخير لك ، وبعد ذلك كله يمكنك أن تنظر في المرآة ، لتجد صورة لا أبدع ولا أسنى ، وترى إنساناً لا أجمل ولا أبهى ..

الزوج : سأفعل وأيم الله (16) .. لأفعلنّ . سأطمس صورة الوحش . وأحطم جانب الشر . وأكتم صوت الشيطان . وأدمر صوت العقوق . وأرتاح من هذا العذاب إلى الأبد .

(يهجم على المرآة ويضربها فيصدر صوت تهشمها وينزف الدم من يديه ، ويختفي الطيف في الحال . وفي هذه اللحظة بالذات تدخل الأم وبيدها حقيبة ملابسها)

الأم : ولدي سليم ، سلّمك الله .. ماذا حدث ليدك ؟.

(تلقي بحقيبتها على الأرض وتمسك يده النازفة وتقبلها عدة مرات)

الزوج : (باكياً كالطفل) أماه .. أماه ..

الأم : ناوليني ضمادة (17) يا أم لطفي ، جزاك الله خيراً يا أختاه ..

الجارة : سمعاً وطاعة ..

(تناولها قطعة قماش بسرعة)

الأم : يدي قبل يدك يا ولدي ..

الزوج : (باكياً) سامحيني يا أماه .. ماذا دهاني حتى فعلت ما فعلت ؟

الأم : لم تفعل شيئاً يا ولدي .. لم تفعل شيئاً يا فلذة كبدي ..

الجارة : بل كنت على شفا (18) حفرة من النار فأنقذك الله منها ، يا هداك الله .

الأم : إن سليم من أهل الجنة ، إن شاء الله ، ولن يكون أبداً من أهل النار .. مادام قلب أمه يحتويه ، ولسانها لا يدعو عليه ..

الزوج : (يدفن وجهه في صدر أمه كطفل صغير) غفرانك ربي .. غفرانك ربي .. غفرانك ربي ..

الأم : (وهي تمسح بيدها على رأسه وكأنه طفل صغير) لا عليك يا ولدي .. والله لو أنك مزقتني إرباً (19) إربا ، وقطعتني شلواً (20) شلواً .. لما سمحت للساني أن يدعو عليك . ولو كنت داعيةً بشيء لدعوت الله أن يمنحك الصحة والعافية ، والسعادة في الدنيا والآخرة ..

الزوج : (باكياً) كفى يا أماه ، إني أزداد تمزقاً في الأعماق . كلما علوت بأمومتك في السماء ، هبطت ببنوتي في الأرض .. ألا ليتني متّ قبل الآن ، ولم أقل ما قلت أو أفعل ما فعلت ...

الأم : لا تثريب (21) عليك يا ولدي .. يغفر الله لي ولك ..

الجارة : الحمد لله الذي أزال الغشاوة عن عينيك يا ولدي .. وعسى أن يزيلها عن عيني زوجتك ، لتتبع سبيلك ، وتلدف (22) إلى الجنة معك ..

الزوجة : (داخلة معصوبة الرأس) لقد انزاحت الغشاوة عن عيني يا خالة ، فاطمئني ..

الجميع : (بدهشة) صفاء ؟

الزوجة : (تتجه إلى الأم) سامحيني يا أمي .. لقد عرفت خطئي ، واعترفت بذنبي ، وسأكون مطيعة لك كخير ما تطيع الأمة ربّتها (23) ، وبارّة بك كخير ما تبرّ الأبنة أمها ..

الأم : (تعتنقها بحرارة) حبيبتي صفاء .. يا شطر القلب وبؤبؤ العين وشهد الحياة ..

(تقبل صفاء ، ثم تعانق ولدها وتقبله ، ثم تضم الاثنين بيديها إلى صدرها)

الجارة : ولكن كيف سمحوا لك بمغادرة المستشفى يا صفاء ؟

الزوجة : تبين من الصور أني سالمة من الكسور والحمد لله فسمح لي الطبيب باستكمال العلاج في البيت .

الجميع : الحمد لله رب العالمين ..

الزوج : عهداً لله يا أماه ، أن نبدأ معك حياة جد جديدة لا تجدين فيها منّا إلا الوفاء والبرّ والعرفان بالجميل ..

الأم : وأنا أعاهدكما يا حبيبيّ أن أكون لكما خير أمٍ تحبكم أجمعين ، وتريد لكم السعادة الخاصة في الدارين ..

الزوج والزوجة : سلمت لنا يا خير الأمهات ..

الطيف : (يظهر بثوب أبيض ملائكي ووجه فاتن منير ويقف بجانب الأم) الآن تستطيع أن ترى نفسك الجميلة أيها الإنسان ، كما خلقك ربك في أحسن تقويم (24) .

الزوج : (ينظر في المرآة المكسورة) ولكنني لا أرى شيئاً ! إن المرآة مكسورة .

الطيف : المرآة التي كسرتها هي مرآة الخلق . وهي قابلة للتركيب .. إلا أنها لا تعكس إلا صورة الظاهر وحده .. أما المرآة الحق ، فهي مرآة الخُلق ...لأنها تعكس صورة الباطن بحق ، ولا ترتسم فيها إلا صورة البرّ دون العقوق . وهذه المرآة مركبة على قلب كل أم ، فمن شاء أن يرى نفسه في أجمل صورة له فينظر في مرآة قلب أمه .. فعن هذه المرآة المجلوّة تنعكس صورته الحلوة .. وبقدر برّه بأمه يزداد سنى (25) صورته ، ويُمدّ الله في عمره ، ويبارك له في رزقه ، ويدخله جنته ..

شرح المفردات :

1 ـ الغرثان : الجائع .

2 ـ يكن : يخفي .

3 ـ بعلها : زوجها .

4 ـ أنملة : رأس الإصبع . وقيد أنملة أي شيئاً قليلاً ..

5 ـ محضته الحب : أعطيته الحب خالصاً .

6 ـمهيض : مكسور .

7 ـ وهناً : ضعفاً .

8 ـ فصاله : فطامه .

9 ـ فثمّ : فهناك .

10 ـ رفم أنفك : أي ذللت .

11 ـ خفض الجناح : أي السكون .

12 ـ مهجة : دم .

13 ـ دركات : درجات .

14 ـ الكبائر : الآثام الكبار .

15 ـ المدرار : الغزير .

16 ـ وأيم الله : أصلها وأيمن الله ، وتعني القسم .

17 ـ ضمادة : رباطاً .

18 ـ شفا : حفرة .

19 ـ إرباً : عضواً .

20 ـ شِلواً : عضواً .

21 ـ تثريب : لوم .

22 ـ تدلف : تمشي .

23 ـ ربّتها : مربيّتها .

24 ـ تقويم : تعديل للشكل والصورة والأعضاء .

25 ـ سنى : ضياء .