"تخرشيش" مسرحية مغربية تفضح المسكوت عنه

صوت مهيب ضاج بالوجع. فتاتان ينطق صمتهما بأن ثمة تراجيديا زاحفة نحونا نحن المتفرجون :

الفتات الأولى جالسة إلى كرسي بلا حراك، والثانية واقفة كأنها جلمود صخر، وصوت “تخرشيش” أو خشخشة قداحة في يدها…

لا شيء ينبئ بالحياة!

الخلفية كوخ متهالك جائع لا تعرف السعادة إليه سبيلا، هاتف معلق كأنه الانتظار القاتل الذي لا يجيء بشيء، كأنه الوهم والسراب الذي يلاحق الخانعين.

حقيبتان على الأرض وسرير واقف في الخلفية على الجدار المتهالك، علق عليه معطف رجالي. إشارات تدعوك للتساؤل: هل كانت صدفة أن يتم تعليق المعطف الرجالي على السرير؟ أليس في هذا إشارة لسطوة ذكورية على سرير لا يصلح في عرف البؤساء إلا للجنس ولا شيء غير الجنس؟ فلو قرأتَ كتاب “الجنس الآخر” لسيمون دي بوفوار ستقرأ عن الهيمنة الذكورية في عملية الجنس، حيث يكون الذكر هو الفاعل، هو الأعلى، والأنثى هي المفعول بها، طبعا هي السفلى. فهل هاته المشهدية دلالة على هذا القول؟ هل هذا الصمت ينطق بهذا التحليل؟

في الحقيقة، لم تكن البداية صمتا بل كانت ضجيجا من الآهات والصرخات المكتومة المكلومة التي لا يرغب أحد في سماعها، كانت محاولة أخيرة لكي نفهم من خلال الصمت ما لا يفصح عنه الكلام، عله يحرك دواخلنا ويدفعنا لطرح السؤال البديهي: ما الذي وقع في هذا البيت الحالك الساكن التعيس؟ ما الذي حدث حتى يخيّم كل هذا الصمت على الأرواح قبل الألسن؟ ما الذي وقع بالضبط حتى يكون المشهد الأول نظرات كالرصاص المتطاير إلى أعيننا نحن المشاهدين؟ ما الذي اقترفه هذا المجتمع في حق هاتين الفتاتين حتى يبادران الجمهور بنظرات الخيبة تلك؟

الإحساس الوحيد الذي لا يمكنك مراوغته في لحظة كهاته أنك جزء من هاته المسرحية اللعينة التي تفنن المجتمع في كتابتها واختيار أبطالها. لا يمكنك إطلاقا أن تتفرج في عمل كهذا من الخارج، لأن القدر الهائل من الصمت والنظرات والهيبة والخوف والفجيعة يجعلك في قلب الحدث؟ جزءا لا يتجزأ من كل ما حدث أو سيحدث. في صلب الكارثة، وكأن الكاتب الجبّار الذي خط تفاصيل هذه الرواية كان يكتب تحت وقع الكارثة أو المصيبة تماما، أو دعنا نقول لا يمكن إطلاقا أن يكون هو من كتبها بل كتبتها المصيبة ذاتها.

يتناهى صوت كلب من الخارج، نباح متكرر من حيوان أو إنسان، لكنه نباح يشي بأن المكان معزول وبأن الوقت ليل مدلهم وبأن الخوف والتخويف سيد اللحظة والمستبد بسيكولوجية البنتين ونحن المشاهدون. وبينما ينبح الكلب تشعل الفتاة الواقفة سيجارتها الأولى؛ الأنامل كانت ترتجف… والصمت كان ما يزال مخيما على المشهدية إلّا من نباح ذلك الكلب الذي لا يني ينبح وينبح وكأنه يريد إرعاب من يحاول طرد الخوف عن نفسه. وفي الجانب الآخر من الكوخ الكسيح تطوي البنت الأخرى ملابس متنوعة وترتبها في الحقيبة. هل هو ترتيب يُعلم بالرحيل وإن كانت ملامحها لا تخبر بذلك؟ أم أنها تحاول تمضية وقت لا يمضي بترتيب الملابس وطيها؟

يقرر الكاتب أن تكون بداية العرض كلمة تستعرض أمامنا فكرة رهيبة ومخيفة؛ كيف يكون الحال عندما تنتهي الحياة بالنسبة إليك؟ كيف يكون الوضع عندما تحاول اتخاذ قرار أو الاقدام على خطوة والحال أن الحياة بالنسبة إليكم أصبحت مجرد إشاعة أو وهم؟ تتابع البنت محجوبة الكلام بعد صمت يحمل بين طياته حمولة وجودية ضاغطة على الذات التي تفقد أسباب الحياة، فتقول: “ما بقيت كنحس بوالو من غير الخوا”، ومعنى العبارة “لم أعد أشعر بأي شيء سوى الخواء”. تخيلوا معي كيف يستحيل الانسان في وضع كهذا بكل ما فيه إلى خواء، إلى ريح تعربد في الخواء السحيق، ما أقسى ما يكون الحال حين يشعر الانسان بأنه مجرف من الداخل، مفرغ من كل قيمة، لا شيء، لا شيء تماما. قلق الوجود الذي يرفض الخواء، ويسعى دائما للامتلاء، أن تكون ممتلئا بذاتك وأحلامك وطموحاتك ومسيرتك التي تفرح بها وتستيقظ في الصباح الباكر سعيدا بيوم جديد من حياتك. حين تتحول إلى خواء تصبح الحياة والموت بالنسبة إليك سيان.

لعبت المسرحية على الترميز والصور غير المباشرة، على جرأة وجودية تساءل الله والقدر عن وضع لم يكن من اختيار الانسان نفسه، إذا دفعتُ بنفسي إلى الحدود القصوى للفناء، إذا كانت سجائري فرطا وأيامي طحنا للذات وتنكيلا بها، أليس في هذا نصيب لله الذي قرر أن أعيش مثل هاته العيشة التي لا تليق حتى بالبهائم؟ إشكالات صارخة تضعنا في صلبها هاته المسرحية الجبّارة بحروفها وأصواتها وحركاتها وحتى بِصَمْتِها، بكل ما فيها، صوت الثياب وهي تُـنْـفَـضُ تاركة في أذن المستمع كلاما كثيرا تحكي عنه رتابة اللقطة، وصور لكائنات دفنها المجتمع وقرأ عليها ما تيسر من آيات النعي، ونام قرير العين آثما حتى النخاع.

سجالات قوية بين البنتين، “حادّة”، حادة الطبع والمزاج، الثورية حتى النخاع، المتمردة حتى على تلابيب ملابسها، حادة التي اختارت السيجارة جارة وملاذا، خلف دخانها تستعيد مسيرة الجحيم التي طالت واستطالت حتى بلغت أزيد من ثلاثين سنة، ثلاثون سنة من الموت اليومي ومن الانتظار الذي لا يأتي بشيء غير الرهن الذي يقتلع الأرواح من دواخلها ويُعلّقها قرابينا لذكر لا يرحم ولا يسكت أبدا من النباح. وفي الجانب الآخر من الركح معترك الحياة هنالك محجوبة، تلك الفتاة التي اختارت أن تسكت وأن تداهن وأن تُحجَب عن الأنظار وأن تخاف من “الهُنَاك”، تلك الفتاة التي تطاوع العادة والاعتياد وتحوله إلى حقيقة وإلى ما يجب أن يكون، وهكذا نحن إن كَبّرنا الصورة، ننقس إلى قسمين؛ قسم ألف الخنوع وقسم ما زال يكابد الحياة ويرفض ما لا يفترض أن يكون ولو بطلوع الروح.

ويعود الصمت من جديد ليخيم علينا نحن المتفرجين وعلى الركح، يسافر بي لأفكر، لأحاول سبر أغوار النبرات والحركات والوقفات التي لم تكن على الاطلاق مجانية. تُقرّ محجوبة بأنه لا بد من الكلام ثم ما تلبث أن تُعرِض عن الفكرة، جُرأة لحظية ثم تعود للاذعان إلى فكرة أنها محضُ مَحْظِيّةٍ في حجر ذاك الذي سمته حادة “المَجْحُومْ”، الكلب الذي يقتات على الجِيف، الكلب الذي يتوارى نهارا فيعود ليلا لينهش من تبقى من جسد بنت ميتة قبل الولادة، ميتة قبل أن تنبثق من ثنيات روحها زنابق الحياة والشغف والحب، ها قد قتلت الحب أيها الكلب! ها قد قتلت ما لا يجب أن يقتل، قتلت طفولة وصِبا وشبابا، فماذا أبقيت من الحياة؟ محجوبة وحادة الخنجر المغروس في خاصرة الشرف والكرامة والمجتمع الذي يتشدق بكونه إسلاميا. محجوبة وحادة السيف المدقوق في سويداء القلب. لا أخفيكم أنني حجبت دموعي عندما تذكرت تلك التلميذة التي استقبلتها في خلية الانصات بالمؤسسة رفقة إحدى الاستاذات، فاكتشفنا أننا كنا نُدرِّس حطام فتاة، أخبرت الأستاذة بأنها كانت تتعرض للاعتداء الجنسي وهي طفلة على يد جدِّها، وأنها تشعر يوميا وكأن الموت يزحف إليها، وما زالت إلى اليوم بعد أن كبرت تتجرع مرارة كل ذلك، مرارة الثقة التي فقدتها والخوف والمشاكل النفسية. تحارب الموت في كل لحظة…

تخاف محجوبة من غياب الكلب، لم تعد قادرة على أن تتخيل أنها قادرة على حماية نفسها بنفسها، الكلب هنا هو صوت الأب المُغتصِب الميت الذي لم تستطع محجوبة التحرر منه، مات المُغتصِب وبقيت الفكرة، فكل معتدٍ يقتات على فكرة التخويف، على أن يجعل أفقكَ محدودا، على أن يجعلكَ تتعثر بحبال وهمية لا توجد إلا في خيالك. الفكرة هنا أن إقبار المُعتدي لا يعني إطلاقا إقبار الاعتداء، أن موت الكلب يتحول إلى نباح أو صراخ أو ثرثرة تحفنا من كل جانب. الفكرة هنا مرعبة تتجاوز حدود الفهم السطحي للاعتداء الجنسي ونتائجه، المسألة ليست مسألة بكارة فُضَّت ولا جسد تم التلاعب به والتسلي بأعضائه الحساسة، المسألة مسألة روح أُقبِرت وكرامة أُعدِمت وعقل لم يعد قادرا على تخيل شكل آخر للحياة، المشكلة أنه لا تعود هناك في الأصل حياة.

ولَكَمْ أثّرت فيَّ العبارة التي قالت فيها حادة: “كلب كيجيب كلب بحالو”، كل كلب يأتي بكل مثله، أن يتحول الأب العماد والعمدة والركيزة والرِّكاز إلى كلب على لسان ابنته فتلك مصيبة عظمى، تلك زلزلة لا تُبقي شيئا فوق الأرض ولا تحتها. واللافت في هاته المسرحية أيضا ذلك الهاتف المعلق الذي يُمثل الوهم الذي يمكن أن نُعلق عليه أحلامنا، صوت المَقْبُور الذي ما زال يتردد بداخلنا ويدعونا للقبول بالموروث، ذاك الصوت الذي يأمرنا بألا نغادر منطقة الخضوع التي ألفناها بفعل العادة، ذاك الصوت الشيطاني الذي يصم آذاننا بأنه لا رأي إلا ما أرى، وأنكم أنتم لعنة الله عليكم عبيدي وخدمي وحَشَمِي فاخنعوا كما أشاء، أو لعله صوتنا نحن الذي يتردد بداخلنا. وتختلف ردود الأفعال بين حادة التي تلعنه ومحجوبة التي تنتظره بأحرّ من الجمر. مفارقة صارخة تتطلب منا وقفات عديدة مع الذات وليس وقفة واحدة.

أن يقرر الكاتب أن يكون المرض النفسي من نصيب حادة فتلك كانت عبقرية حقيقية، فمنِ الذي يموت في هاته الحياة غير الذي رفض التطبيع مع العجز والخنوع؟ من الذي تتحول حركاته إلى ارتعاشات وكلماته إلى صوت مدوي وحركاته إلا عنف غير الذي رفض الواقع الذي لم يكن يوما عادلا؟

وكم كانت مفاجأتي كبيرة وذهولي عظيما بذلك الصوت النائح الذي يبكي الحياة حين تُصلب في صدور العذارى، فتتحول محجوبة إلى أمٍ رؤوم تُنشِد للقدر الذي لم يرحم بنتها (أختها)، كصوت حمام ينوح في كبد الليل، تبكي الأم بنتا اشتاقت إليها وإلى سابق عهدها وتتمنى رجوعها. عبر تلك الترانيم تبكي الحياة طفولة غُصبت وبنتا جميلة بجدائل طويلة وقد امتص الكلب الدم من عروقها وحوّلها إلى ما يشبه الزومبي. جسد بلا روح، عيون دامعة، تنفث دخان الموت من فمها بينما تصفف الأم شعرها وتواصل الدندنة الحزينة “بنتي فينك”، هجرتها الحياة يا أماه فعانقت الغياب، ابتلعها الصمت يا أماه! تبكي الإنسانية موتا ما يزال محموما في الأقبية، هنالك حيث يسكن الشيطان والبشر أيضا، هنالك حيث يتوارى الكلب “المجحوم” ليلا ليفترس الجسد والروح ويعاود الخروج والنباح، هنالك حيث أثداء وفروج حرام استبيحت، هنالك حيث العيون الدامعة في جوف الليل ولا شيء يستجيب، حتى قالت حادة عن الله بأنه هو الآخر لا يستجيب، حين نكفر بالحياة لا غرابة أن نكفر بالله وبالعدل وبكل مواثيق الإنسانية!

وتزيد روحانية المسرحية مع ذلك الزجل الموجوع المكلوم الذي يُنشد المصيبة ويُغني الكارثة، ومصيرا محتوما لا يبقى معه إلى انتظار اللامُنتظر، انتظار أن ينتصف القمر ولكن الحاضر دائما هو كلب ينبح بالخارج ويزرع الخوف بالداخل. زجل تَمَثَّلَ لحظة الاغتصاب الجسدي الروحي إلى قيامة رآها العقلاء مصيبة ويراها الكلاب شيئا عاديا. هكذا خلقنا… أفعلا هكذا خلقنا الله؟ هل قال شرع الله بالقتل؟ هل وافق الله على شريعة الغاب؟ هل الله جزء من المعادلة؟ هل اغتصبتني مواثيق الله أم قوانين الكلاب التي شرّعتها أنت رفقة قطيع الكلاب الذي تؤمه دائما في صلوات الجنازة؟ أمنيات بأن تنقشع الشمس خلف الضباب، أمنيات فحسب بأن ينجلي الظلام… أمنيات معلقة… أمنيات مع وقف التنفيذ إلى أن يأذن الله أو يأذن الانسان… بنتان ومخدران، أولى تدمن السجائر وأخرى أدمنت الأحلام والأوهام والأمنيات والانتظار.

ترفض حادة أن يُذكر اسم الأب على مسامعها، وبصوت عنيف تُسميه “الكلب” ولا ملومة في ذلك، فكثير من الكلاب يكونون من الدار، كلاب تتربص عن قرب وتستغل الأخلاق لتهدم الأخلاق، تستغل المقدس لتُشرِّع المدنس. تلملم محجوبة رداء حادة وتقفله بيديها وتقول لها “رغم كل شيء يبقى والدك”، وكأنها تريد أن تقول لها: رغم أنه اغتصب حرمة جسدك إلا أنه يبقى والدك، مدمر ذاك المشهد وغير طَيِّعٍ على التخيل والتصور، أن يحدُث ما يدنس قدسية العلاقة الأبوية فتلك والله أكبر من أن يسعها لفظ مصيبة.

تُعلن حادة أنه قد أزف الرحيل، وأن الأغبياء هم من ينتظرون الموت ليبلغ دارهم، لا أحد ينتظر الموت غير ميت. أنطولوجيا الانسان بشكل عام الذي لا يجب أن يركن لأي وضع قاهر مهما كان، وأن أرض الله واسعة وأن الفضاء بالخارج فسيح إن ضاق علينا الفضاء الداخلي، رسالة بأن نخرج من الإطار ونتطلع للشمس الساطعة هناك في الضفة الأخرى، بأن الحياة تلوح إلينا بيد من حب هنالك إذا كنا مبصرين، رسالة الانطلاق والتقدم والتمرد والمغادرة إلى حيث تكون الذات كما يجب أن تكون الذات، لكن محجوبة ترفض الخروج من الإطار، إنها لمصيبة أن يألف الانسان الإهانة والموت، وهل أذنب؟ هل أذنب حين اغتُصبت حياته للمرة الألف؟ هل أذنب حين صمت الجميع وتجرع هو الوجع وحيدا؟ هل أذنب أم نحن المذنبون المجرمون الساكتون على نباح الكلاب؟ هل نلومه على الخوف الذي أصبح جزءا من كيانه. لا لوم عليه وإن كان كل اللوم عليه، لا لوم لأن كل ما يوجد خارج بوتقة المُغتصِب يتحول إلى غابة وذئاب ووحوش ضارية، أفليس ديدن الكلاب تخويف الضحايا وإيهامهم بأن الأمن لا يوجد إلا هنا، لتتحول الحياة كلها والفضاءات كلها هي هذا “الهنا” الذي لا يكون إلا بتقديم الجسد كهدية.

ثلاثون عاما من النهش المستمر، من التذويب الدائم، من القتل البطيء، ثلاثون عاما، رقم مرعب ومفزع وحال مجتمع من الكبت والمسكوت عنه، دهر من الفضيحة في مجتمع يدعي الشرف، مجتمع من اللاشرف واللاكرامة واللاانسانية…

تمر المسرحية إلى مشاهد من المكاشفة بين الأختين، من البوح الذي يُعَدُّ الخطوة الأولى للخروج من العاصفة، الإفصاح الذي يفضح المكبوت في الداخل قبل الخارج، القول الذي يُعري الطابو ويجعله مشاعا بين الجميع فيتفرق الألم على الكل كمسؤولية جماعية إزاء كل المعنَّفين والمعنّفات في هاته الأرض التي لم تعد قادرة على تحمل خطايا الكلاب أبناء الكلاب سواء كان الجيلالي أو غيره، الجيلالي رمزية الذكر الذي تناسل عبر التاريخ من ظهر الجنسانية الأنانية المميتة. من تشييء الأنثى و اعتبارها متاعا و خاصة إذا كانت الأنثى بنتا.

وعبر كلمات مقطعة بالكاد تخرج من الأفواه يتم تشخيص مشهدية الاغتصاب الأبوي، الذي بفعل الزمن أصبح عادة تستغل الغريزة و تقتات على الجهل والخوف والسكوت، السكوت المطبق… التداعي مع الأحداث على أنها الطبيعة… جُرأة جبَّارة لهذا الطرح الجبَّار الذي لا يلتفت لأصوات الكلاب الأخرى التي تنبح في ركن آخر من أركان المكان بأن الحديث عن الطابو حرام، وبالمقابل يتحول عندهم اغتصاب الطفولة إلى حلال لا يحرك فيهم ساكنا، تلك الكائنات التي تخرج علينا بالسواك لتحاول ترميم شفاه مجتمع مشوه كخاصرة قرد نتنة، يحاولون تجميل القبيح و تنميق الكريه…

تصرح المسرحية من خلال حوار الفتاتين أن الكلب مات وأنه كان من المفترض أن يموت، وأن زارع الموت لا يجد إلا الموت، لكن هل صوته غاب؟ هل هزمناه بقتله؟ هل ترك كلابا آخرين خلفه أم أنه كان الكلب الأخير؟ استحق الموت لأنه كسر الروح وكسر الراديو، الجهاز الوحيد الذي كان بالإمكان أن تعرف البنتان ماذا يدور في ال”هنالك” من أحداث من خلاله. العين الوحيدة التي كانت قادرة على إعطاء رؤية مخالفة للرؤية التي فرضها ذاك الكلب الذي لا رؤية له غير الافتراس. تستعيد حادة ذاك الحوار الذي دار عبر أثير الإذاعة، بنت تحكي عن والدها، عن الاغتصاب والقتل اليوميين، عن سنوات من الدموع والسهاد… كانت شهادة صادمة لكنها كانت حقيقة، حقيقة يجب أن نأخذها مأخذ الجد.

وقبل الرحيل تقرر محجوبة على مضض أن تخيط ما تبقى من ملابس، أن ترتق المفتوق الذي لم يرتق يوما، أن تضمد الجراح التي لن تندمل يوما، أن تستعيد التفاصيل التي تُلقي بها رفقة أختها في كل لحظة إلى جحيم من الصور التي لن يمحوها الزمن. إلى الذات المكسورة التي لن تجبر يوما، تفاصيل تخبرنا بأن الرحيل رفقة الوجع أفضل من ألا نرحل، وأن سفرا كهذا لا شك أنه سيكون سفرا على ذاكرة مفجوعة، لكنه سفر. سفر يرفض الانصياع للانتظار أملا في حياة لا تأتي أبدا ولا توجد إلا هناك على الطرف الآخر. ذاك المُنتظر؛ ضمير الإنسانية الذي سافر هو الآخر، الذي كان نبيا فتحول إلى شيطان، كان حيا بيننا ينقذ الموجوعين عبر أصقاع الأرض فتحوّل إلى كلام جفاء، كلام في كلام… تلك الإنسانية الكسيحة التي ظلت الطريق وأخطأت الهدف ولم يعد فيها موطئ قدم للمنكوبين الذين نكبتهم الحياة ونكلت بهم.

ذاك المُنتظر، “كمال” الذكر الذي كفرت بكماله حادة، ذاك الخوف الذي أصبح يستبد بالمغتصبة من كل ذكر كائنا من كان، وضعية اللاثقة، حيث يمتزج الخوف بالرغبة الجارفة في الرجل الذكر، بالمكسور الذي يفصح عن نفسه في شكل أنثى لم تعد قادرة على تصور نفسها كذات مستقلة، بل دائما كأنثى في فلك ذلك الذكر. هكذا تكسر الأنوثة والانسان الكامن في الأنثى فتتحول كما قالت محجوبة إلى أنثى أطلقت رائحة التزاوج في انتظار كلب جديد ونهش جديد وخواء جديد…

مشهد الانتظار الأخير، انتظار كمال الذكر، محطة القطار التي تنتظر فيها كل النساء المكسورات القتيلات، كرميم جثة ماتت قبل آلاف السنين، محطة القطارات التي لم يمر بها ولو قطار واحد، تلك التعاسة التي يتحول فيها الانتظار والخوف إلى قاعدة لا يجب الخروج عنها.

تصدمنا المسرحية في الأخير بأن جعلت صرخة التحرر الأخيرة تأتي على لسان محجوبة، التي أفصحت بأنها لا تخاف من الذئاب ولا الوحوش، بل من الطريق التي تنظرها، تلك الطريق التي يستحيل اتخاذها في وحدة، تلك الحاجة للآخر الذي يضيء الطريق المعتمة، طريق الخروج من الكوخ (السجن)، من الظلام، طريق البداية هنالك حيث يوجد ضوء الشمس، ضوء الحياة التي لا تؤمن بالمستحيل.

تتشح الممثلتان في الأخير بالسواد وتتحول المسرحية من حوار مباشر إلى الجمهور في كسر لأبجديات المسرح التي ترفض الخروج من المسرحية والأقدام داخل الركح، وهاته كانت شجاعة كبيرة والدليل أنه حتى فضاء المتفرجين تحول إلى ركح في حد ذاته، ركحنا نحن الذين يجب أن نتحمل مسؤولية كل شيء يقع فوق هاته الأرض.

لا بالغ إذا قلت بأن هاته واحدة من أروع وأعمق المسرحيات التي شاهدتها في حياتي، مسرح أصيل ومتأصل وملتزم بقضايا الانسان وقلقه الوجودي وإشكالياته التي تؤرقه .

هوامش :

مسرحية “تخرشيش.. ما كنسمع والو من غير الخوا” لجمعية كواليس للثقافة والفن بدعم من الصندوق العربي للثقافة والفن.

إعداد النص وإخراج: عبد الفتاح عشيق

تشخيص: أسية البراح (دور محجوبة) وهدى أجبيلي (دور حادة)

وسوم: العدد 1019