يحسبهم الجاهل أغنياء

يحسبهم الجاهل أغنياء

الأديب الكبير الأستاذ: علي أحمد باكثير

 (1) 

في بيت عبد الله بن عمر بن الخطاب، عبد الله مريض يعوده قريبه عبد الله بن مطيع العدوي

ابن عمر: أما والله إنك لتحسن الحديث يا ابن مطيع.ولكن من قال لك إني لا أعنى بصحتي؟ أم تريد مني أن آكل كما يأكل كسرى و قيصر؟ 

ابن مطيع: أي جناح عليك في ذلك ما كان علاجًا لك؟

ابن عمر: لا أريد أن أشفى من علة لأصاب بعلة أنكى و أشد

ابن مطيع: أي علة أشد من علة تمنعك من شهود صلاة الجماعة في المسجد؟

ابن عمر: (ينادي) صفية. صفية.

صفية: (صوتها) لبيك يا أبا عبد الرحمن.

ابن عمر: أنا ذاهب إلى المسجد فأحضري لي الوضوء.

صفية: لكنك بعد عليل.

ابن عمر: كلا، قد شفيت من علتي فأنا بخير.

صفية: لكنك بعد واهن ضعيف.

ابن عمر: كلا، ما أنا بواهن و لا ضعيف.

صفية: كلمه يا ابن مطيع فهو يسمع كلامك.

ابن مطيع: يا أم عبد الرحمن، ما دفعه إلى الخروج إلا كلامي له.

صفية: حسبنا الله ونعم الوكيل. ماذا نصنع لأبي عبد الرحمن؟

ابن عمر: هيه يا بنت أبي عبيد، أنت أرسلت إلى ابن مطيع اليوم ليكلمني فيما كلمني فيه؟

ابن مطيع: لا والله يا ابن عم. إنما جئت لأعودك.

ابن عمر: لكنها كلمتك قبل أن تدخل عندي. هيا يا صفية ألم تحضري وضوئي بعد؟

ابن مطيع: لم يزل في الوقت سة يا أبا عبد الرحمن.

ابن عمر: ويحك، أتريد مني أن أمشي هرولة؟

( 2 )

ابن عمر) :يتأوه) آه..آه.

صفية:ماذا بك يا أبا عبد الرحمن؟ هل تشكو من وجع؟

ابن عمر: لا بأس علي إن شاء الله إنما هي وعكة عارضة.

صفية: إنك أجهدت نفسك يا أبا عبد الرحمن منذ قمت من علتك و لم تكن قد استرددت كامل صحتك.

ابن عمر: أي إجهاد تعنين؟

صفية: مواظبتك على القيام و مواصلتك للصيام و إقلالك من الطعام.

ابن عمر: ويحك يا صفيه أهذا سبب علتي عندك؟ فكيف عشت طوال هذا العمر؟

صفية: أنا لم أقل أن هذا سبب علتك، ولكنك قمت قريباً من علة شديدة قد هدت قواك، فكان حرياً بك أن تريح نفسك قليلاً و تصيب من الطعام ما يكفيك ريثما تستعيد سابق قوتك فتعود حينئذ إلى مألوف عادتك.

ابن عمر: أتحبين يا صفية أن أصارحك القول؟

صفية: نعم.

ابن عمر: ولا تغضبي؟

صفية: لا.

ابن عمر: إن كان من سبب لعلتي فإنه أنت.

صفية: أنا يا أبا عبد الرحمن؟ أنا سبب علتك؟

ابن عمر: نعم.

صفية: كيف يا أبا عبد الرحمن؟ ماذا فعلت؟

ابن عمر: إنك لا تكفين أبداً عن تدبير الحيل للحيلولة بيني وبين ما تطيب به نفسي من بعض أعمال الخير.

صفية: عن أي شيء تتحدث يا أبا عبد الرحمن؟

ابن عمر: إنك تعرفين ما أعني.

صفية: والله الذي لا إله إلا هو ما من شيء فعلته قط إلا قصدت به الخير لك.

ابن عمر: إني أعلم ذلك يا صفية. أعلم أنك كنت تحتالين علي كما تحتال الأم على وليدها لتصرفه عما يريد وهي لا تريد به إلا الخير ولكني لا أحب يا صفية أن تعامليني كالوليد.

صفية: لعلك تعني أولئك المساكين الذين كانوا يقفون في طريقك لتدعوهم فيؤاكلوك.

ابن عمر: فأزحتهم أنت عن ذلك الطريق لينقطعوا عني

صفية: لكني لم أقطع عنهم برك يا أبا عبد الرحمن.

ابن عمر: أجل كنت تبعثين إليهم الطعام.

صفية: وعرفت ذلك يا أبا عبد الرحمن؟

ابن عمر: نعم.

صفية: حمزة أخبرك؟

ابن عمر: لا.

صفية: فكيف إذن عرفت؟

ابن عمر: بالحدس و التخمين.

صفية: وسكت على ذلك ولم تفاتحني؟

ابن عمر: رأيت السكوت حينئذ أفضل.

صفية: بالله إلا ما وهبت لي ذلك يا أبا عبد الرحمن.

ابن عمر: انتظري حتى تكشفي لي الحيلة الأخرى.

صفية: يا ويلتا، عم تتحدث؟

 ابن عمر: إنك تعلمين أنك لما قطعت أولئك المساكين عني تخيرتُ رجالاً آخرين من الذين لا يسألون الناس إلحافًا يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، فكان يتعشى معي منهم كل ليلة اثنان أو ثلاثة ثم انقطعوا عنا منذ جمعة، فكلما أرسلت حمزة إلى أحدهم ليدعوه قال له: اعتذر لي إلى أبيك فإني مدعو للعشاء في بيت آخر. فخبريني يا صفية عن جلية الأمر.   

صفية: ألم يخبرك حمزة بشيء؟

ابن عمر: كلا لم أشأ أن أسأل حمزة، فما كان ينبغي له أن يذيع سر أمه ولا لوم عليه عندي فعليه أن يطيعك. ولكني أريد منك أن تخبريني بنفسك.

صفية: وتعدني ألا تغضب؟

ابن عمر: نعم.

صفية: أرسلت إليهم في بيوتهم ألا يحضروا و كنت أبعث بالطعام إلى كل واحد منهم مرتين في الجمعة.

ابن عمر: سبحان الله ، وما يدعوك إلى ذلك وإنه ليرهقك أكثر؟

صفية: يا أبا عبد الرحمن ليؤاكلوك تركت لهم أنت كل شيء ولم تصب إلا القليل الذي لا يغنيك..

ابن عمر: إذن فإني لن أتعشى الليلة.

صفية: فيم يا أبا عبد الرحمن؟

ابن عمر: ليكون عقوبة لك حتى لا تعودي لمثلها.

صفية: إنك وعدتني ألا تغضب.

ابن عمر: إني لست بغاضب و لكني ممتنع عن العشاء.

صفية: فامتناعك هو الغضب.

ابن عمر: سميه كما تشائين.

صفية: يا سيدي تعشّ الليلة ولك علي ألا أعود لمثلها أبدا.

ابن عمر: سأفعل يا صفية من أجلك ولكني أقسم بالله لا أتعشى بعد الليلة أبدا إلا إذا حضر من يؤاكلني من أولئك المحتاجين المتعففين.

صفية: وي. ماذا بك يا أبا عبد الرحمن ؟

ابن عمر: لا شيء يا صفية.

صفية: تبا لي أنا أرهقتك.

ابن عمر: كلا يا صفية . ما بي إلا شيء من العطش الشديد. كأنه حريق في جوفي.

صفية: انتظر. قد علقت لك قربة منذ الصباح فلا بد أن ماءها الآن بارد كالثلج (تخرج).

ابن عمر: (يتمتم) الحمد لله الذي رزقني هذه الزوجة الصالحة. ويحها. ما أحنها علي

صفية: (تعود) خذ يا أبا عبد الرحمن.

ابن عمر: الله. كأنها قطعة من ثلج.

صفية: الريح السموم قد ساقها الله اليوم لتبرد الماء لك، وهذا قدح جديد من الخزف يطيب الشرب فيه.(تفرغ الماء من قربة في قدح).

ابن عمر: ما أطيب رائحة القدح.

صفية: وضعت الأشنان فيه يا أبا عبد الرحمن. اشرب هنيئًا مريئًا. ستطفئ به ما في جوفك إن شاء الله..

ابن عمر: ما في جوفي من الحريق !

صفية: أجل. سيزول إن شاء الله.

ابن عمر: (في صوت يخالطه البكاء ) ما في جوفي من حريق!

صفية: اشرب.

ابن عمر: ( يجرع جرعة من الماء ) الله. الله.

صفية: اشرب يا أبا عبد الرحمن.

ابن عمر: خذيه يا صفية. حسبي ما شربت.

صفية:إنك لم تذق غير جرعة واحدة. وي. إنك لتبكي يا أبا عبد الرحمن هل تشكو من وجع

ابن عمر: لا يا صفية.

صفية: وماذا يبكيك؟

ابن عمر: ذكرت آية في كتاب الله يا صفية.

صفية: أي آية يا أبا عبد الرحمن؟

ابن عمر: ذكرت قوله تعالى عن أهل النار:"وحيل بينهم و بين ما يشتهون" وأي شيء يا صفية أشهى إلى أهل النار من الماء البارد؟

صفية: يا ليتني ما أتيتك به

ابن عمر: ( يردد ) "وحيل بينهم و بين ما يشتهون" "وحيل بينهم و بين ما يشتهون".

( 3 )

ابن عمر: ماذا أشم يا حمزة؟ رائحة سمك يقلى؟

حمزة: نعم يا أبي.أمي تقليه في المطبخ.

ابن عمر: لكنهم قالوا أنه لا يوجد في المدينة سمك هذه الأيام؟

حمزة: أجل يا أبي ليس هذا موسمه.

ابن عمر: فمن أين جاءت به أمك؟

حمزة: من ساحل ينبع.

ابن عمر: من ساحل ينبع؟!

حمزة: أرسلت أمي من يبتاعه من هناك.

ابن عمر: فيم كل هذا ؟ ما كان ما يدعو إلى ذلك.

حمزة: ألم تقل لها أمس إنك تشتهي أن تأكل لحم حوت؟

قلت لها.

حمزة: هاهي ذي أمي مقبلة. لا بد أنها فرغت من قليه.

صفية: مالك يا حمزة لا تدعك لأبيك؟

حمزة: قد فعلت يا أماه.

صفية: علام انقطعت؟

ابن عمر: أنا الذي قلت له كفاية.

صفية: وأنا يا أبا عبد الرحمن قد أعددت لك الحوت الذي تشتهيه.

ابن عمر: أحقا يا صفية أرسلت في طلبه من ينبع؟

صفية: من أجلك يا أبا عبد الرحمن أرسل في طلبه من ساحل اليمن.

ابن عمر: يا ليتني ما قلت لك إن نفسي تشتهيهه.

صفية: فيم يا أبا عبد الرحمن؟

ابن عمر: النفس الأمارة بالسوء.

صفية: أي سوء يا أبا عبد الرحمن فيما أحله الله عز و جل؟ وقد قال عنه في كتابه: " وتأكلون منه لحما طريا ".

ابن عمر: ولكن جلبه من ينبع. من أجل شهوة رجل يتشهى.

صفية: يا سيدي إنك لم تطعم شيئا منذ أيام و قد مالت نفسك إلى الحوت. فأي شيء في ذلك؟

ابن عمر: من ينبع؟!

صفية: وهل يجلب الحوت إلا من ساحل البحر.

ابن عمر: يجلب لعبد الله خصوصا دون سائر أهل المدينة.

صفية: ويلك حمزة. لم تخبر أباك بكل شيء؟

حمزة: هو سألني من أين؟

سائل : (صوته من بعيد) يا أهل الخير. يا أهل الخير. سائل مسكين.

ابن عمر: أحضريه يا صفيه.

صفية: الآن؟

ابن عمر: نعم.

صفية: لم يحن موعد غدائك بعد.

ابن عمر: لا بأس أن نعجل به اليوم..

صفية: خيرًا يا أبا عبد الرحمن. لتأكله و هو ساخن. تعال معي يا حمزة.

ابن عمر: ( يتمتم ) أين صوت ذلك السائل؟ هل عدل إلى طريق آخر؟

السائل: (صوته) يا أهل الخير يا أهل الخير.

ابن عمر: الحمد لله هذا صوته قد عاد.

صفية: (تدخل بالحوت المقلي في طبق فتضعه أمام ابن عمر) شممت رائحته يا أبا عبد الرحمن؟

ابن عمر: بوركت يا صفية. أراه شهيًا يسيل له اللعاب.

صفية: ضع الخبز هنا يا حمزة. هيا يا أبا عبد الرحمن كل يا أبا عبد الرحمن.

السائل: (صوته) يا أهل الخير يا أهل الخير.

ابن عمر: انطلق يا حمزة فادع لنا هذا السائل المسكين.

حمزة: سمعًا يا أبي (ينطلق للخارج)

صفية: كل يا أبا عبد الرحمن. لا شأن لك بالسائل. نحن نعطيه.

ابن عمر: أعطوه هذا الحوت يا صفية.

صفية: سنعطيه طعامًا آخر يا أبا عبد الرحمن. أما هذا الحوت فقد جلبناه لك أنت، وصنعاه لك أنت وأنت عليل و فيه شفاؤك و علاجك. وهذا رجل جائع يأكل كل شيء.

ابن عمر: أطيعيني يا صفية.

صفية: إذًا فذق منه شيئًا و نعطي الباقي للسائل.

ابن عمر: لا والله يا صفية لا أذوق منه شيئًا.

صفية: أمن أجل هذا السائل؟

ابن عمر: لا ليس من أجله يا صفية.

صفية: أما كنت تشتهي الحوت؟ ألا تحبه؟

ابن عمر: بلى يا صفية.

صفية: لم لا تذوقه إذن وقد تعبنا فيه؟

ابن عمر: لأن عبد الله يحبه يا صفية..عبد الله بن عمر يحبه.

ستار