صديقة من كرمان

الأديب الكبير الأستاذ: علي أحمد باكثير

1

(في منزل الشيخ شاه بن شجاع الدين الكرماني بكرمان)

شاه :  إني أعلم باحميراء يا بانتي العزيزة أنك لا تفكرين في الزواج الآن.
حميراء :  لا الآن يا أبي ولا بعد الآن.
شاه  :  أنت مشغولة عن ذلك بعبادة ربك.
حميراء :  أنت الذي ربيتني على ذلك.
شاه  :  أجل أجل يا بنيتي الحبيبة.
حميراء :  فهل بدالك اليوم غير ذلك يا أبي؟
شاه  :  نعم يا حميراء على كره مني.
حميراء :  ماذا جرى يا أبتاه.
شاه  :  الملك فيروز شاه ابن عمك يريد أن يخطبك مني وأنا أعلم يقيناً أنك لن ترضى به زوجاً لك.
حميراء :  ومن لك بذلك الزوج يا أبي؟ لعلها فهذا الزوج لا وجود له في هذه الدنيا الصبر ما يؤهلني للقيام بحقوق الزوج عليَّ.
شاه  :  أعلم ذلك يا حميراء ولكن ماذا تصنع الآن وهو آت عندي ليخطبك مني بعد ثلاثة أيام.
حميراء :  هل بعث إليك يا أبي بذلك؟
شاه  :  لا يا بنتي ولكن بلغني من أحد المحبين لي في القصر.
حميراء :  فماذا أنت فاعل يا أبي؟
شاه  :  يخيل إليّ يا حميراء أن المخرج الوحيد لنا من ذلك هو أن نسرع فنختار لك زوجاً صالحاً لا يتحكم فيك ولا يشغلك عن عبادتك.
حميراء :  ومن لك بذلك الزوج يا أبي؟ فالزوج لا وجود له في هذه الدنيا.
شاه  :  بلى أنا كفيل لك به يا حميراء إن رضيت .
حميراء  :  لم لا تصارحه بالحقيقة أني لا أصلح للزواج.
شاه   :  كلا لن يقتنع بذلك أبداً يا حميراء وسيظن بنا الظنون.
حميراء :  إنه إذن متعنت أعرض عنه ولا تبال به.
شاه   :  كلا ليس هو بمتعنت يا حميراء بل له عذره الواضح.
حميراء :  أي عذر يا أبي؟
شاه  :  لعلك يا بنيتي قد شغلت زمناً عن المرأة فنسيت أن لك جمالاً بديعاً لا نظير له في بنات ملوك هذا العصر.
حميراء :  يا أبت كل والد يرى ابنته كما تراني أنت.
شاه  :  كلا يا حميراء إن أباك كان أخبر الناس بالجمال وما اختار أمك عبثاً.. لقد كانت  رحمها الله  أجمل نساء عصرها قاطبة.
حميراء :  وأين أنا يا أبي من أمي يرحمها الله؟
شاه   :  لا أقول إنك أجمل منها أو مثلها ولكنك أقرب الناس شبهاً بها وما فاتتك إلا بقليل.
حميراء :  يا أبت افعل ما تراه. ستجدني إن شاء الله من الصابرين.

2

(الشيخ شاه يستقبل فيروز شاه ملك كرمان في منزله)

شاه  :  مرحباً بالملك المعظم فيروز شاه أهلاً بك يا ابن أخي شرفت بيتنا الصغير بزيارتك.
فيروز :  أيها العم الجليل. إني إذ أزور بيتك إنما أزور بيت صلاح وتقوى فأنا الذي أتلقى الشرف وأستمد الخير والبركة.
شاه  :  بوركت يا ابن أخي.. بوركت.
فيروز  :  لقد كان في نيتي من قديم أن أخطب إليك حميراء ابنتك لأصل حبلي بحبلك وتكون ذريتي من ذريتك، ولكن علمي بصغر سنها وبحاجتك إليها بعد وفاة أمها جعلني أؤجل خطبتها حتى اليوم فهل لي يا عمي شاه أن أطمع في شرف الانتساب إليك؟
شاه  :  أيا ابن أخي أنت مني وأنا منك ولو لم تصهر ليَّ، وابنة عمك حميراء كانت تتشرف بالزواج منك لو لم تكن قد عقد عليها لغيرك، فلتكن لك أختاً إن فاتها أن تكون لك زوجة.
فيروز  :  ومتى كان ذلك يا عم؟
شاه  :  منذ يومين فقط يا بني.
فيروز  :  ومن يكون ذلك الرجل السعيد؟  أملك هو أم أمير؟
شاه  :  كلا ليس هو بملك ولا بأمير بل هو رجل من سواد الشعب.
فيروز  :  أهو إمام من أئمة العلم؟
شاه  :  لا.
فيروز  :  فقيه من حملة الشريعة؟
شاه  :  لا يا بني.
فيروز  :  سيد من السادات العارفين بالله.
شاه  :  ولا هذا يا بني.
فيروم  :  هو إذن ليس بأفضل مني فعلام يقدم عليّ؟
شاه  :  معاذ الله يا ابن أخي إن أحداً لم يقدمه عليك.
فيروز  :  أو لست أنا أولى يا بنة عمي وأحق بها منه؟
شاه  :  بلى يا ابن أخي لو لم يكن سبق إليها قبلك.
فيروز  :  منذ يومين فقط.
شاه  :  نعم.
فيروز  :  أوقد دخل بها يا عم.
شاه  :  لا ما دخل بها بعد مازلنا نجهز لها.
فيروز  :  الحمد لله.
شاه  :  لكنا عقدنا له عليها فهي امرأته بحكم الشرع.
فيروز  :  يا شيخ شاه لو لا احترامي لسنك وما اشتهر في الناس من صلاحك وتقواك لكان لي معك شأن آخر.
شاه  :  ماذا تعني يا فيروز شاه؟
فيروز  :  إن ابنتك ما كانت تفكر في الزواج ولا كنت أنت تفكر لها فيه. لو لم يبلغك منذ أيام قلائل أنني سأخطبها منك فأردت أن تتقيني فجعلت تطوف من مسجد إلى مسجد بحثاً عمن تزوجها له قبلي. حتى عثرت على ذلك الغلام الصغير الفقير فعقدت له عليها في الحال دون أن تستشيرها في أمره بل دون أن تعرف عنه شيئاً إلا أنك رأيته يصلي ويحسن الصلاة.
شاه  :  أجل قد كان مني ذلك يا فيروز شاه فماذا تريد؟
فيروز  :  اعترفت الآن أنك تعمدت ذلك؟
شاه  :  نعم أنا حر اختار لابنتي من أشاء .
فيروز  :  من حقي الآن أن أحاسبك.
شاه    :  تحاسبني على ماذا؟
فيروز  :  على سوء صنيعك معي من حيث أني ابن عمها أولاً ثم من حيث أني ملك هذه البلاد.
شاه   :  أتهددني يا فيروز شاه؟
فيروز  :  التهديد قليل في حقك أنت تستحق ما هو أشد من ذلك.
شاه   :  افعل ما بدالك فإني لا أخافك.
فيروز  :  أن غرك يا هذا أنني ابن أخيك فاعلم قبل ذلك أنني أنا الملك.
شاه   :  ويحك يا هذا لو كنت أخاف الملوك بعد لما زهدت في العرش الذي تجلس عليه الآن.
فيروز  :  أتدل عليّ يا هذا بما كان لك في الماضي ملك وسلطان أو تظن أن ذلك يعصمك مني أو يحميك.
شاه   :  لو كنت تفعل يا هذا لعلمت أن الله وحده هو الذي أحتمي به وأعتصم، وإلا لما خرجت باختياري عن كل ما كان لي من ملك وسلطان.
فيروز  :  أتراك ندمت اليوم على ما فعلت فأخذت تناهضني وتناصبني العداء؟
شاه   :  (يلين لهجته قليلاً) سامحك الله يا ابن أخي والله ما ندمت على ما فعلت ولا قصدت أن أناهضك أو أناصبك وابني عن ذلك كله لفي شغل شاغل وإنما رأيت أن ابنتي لا تصلح لملك مثلك. فقد تعلق قلبها بعبادة الله والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة فأحببت أن أجنبكما سوء المصير فأسرعت بتزويجها لغيرك حتى لا أضطر إلى رد خطبتك.
فيروز  :  دعني من معاذيرك . لآمرن قاضي القضاة غداً أن يجد لنا مخرجاً فيبطل عقد نكاحها من ذلك الغلام ثم يزوجها لي وبذلك يستقيم الأمر وينتهي الإشكال.
شاه    :  (غاضباً) اسمع يا فيروز شاه. أن فعلت ذلك فلا تلومن إلا نفسك والله لأدعونَّ الشعب إلى خلعك ولأعلنن له أني أخطأت إذ خرجت عن ملكي لبلية ظالم مثلك.
فيروز  :  (في شيء من الخوف) أتظنهم يطيعونك أو يلبون دعوتك؟
فيروز  : (يلين لهجته) حسبك الله يا عمي أما كفاك أنك حرمتني ابنة عمي حتى تريد أن تخلعني من ملكي؟
شاه    :  قد شرحت لك يا ابن أخي حقيقة قصدي فأبيت إلا أن تكذبني وتتهمني بما لم يخطر لي على باب قط فماذا أصنع؟
فيروز  :  سامحني يا عمي فما أنا إلا ابنك وثق أنك لن ترى مني بعد اليوم إلا كل ما يسرك .

3

(بعد مرور أسبوع من حوادث المشهد السابق)

فيروز  :  معذرة يا عمي إن عدت اليوم إليك قبل أن ينقضي أسبوع واحد على زيارتي السابقة.
شاه    :  مرحباً بك يا ابن أخي في كل حين البيت بيتك.
فيروز  :  ما كنت لأشغلك عن وردك وعبارتك لو لا ما بلغني مما كان بين العروسين من خلاف فأزعجني أيما إزعاج.
شاه   :  كلا لا تنزعج كثيراً فما هو إلا خلاف هين يسير لا يلبث أن ينتهي إلى وفاق إن شاء الله.
فيروز  :  أرجو لا تعتبره فضولاً مني إذ رأيت من واجبي  ولاسيما بعد الذي كان مني في حقك أن أعرف ماذا حدث.
شاه   :  بالعكس يا ابني أخي إنه ليسرني أن تجيء إلينا اليوم لترى بعينك وتسمع بإذنك مصداق ما شرحته لك من قبل فلا يبقى في نفسك مني شيء.
فيروز  :  أحقاً يا عمي؟ هذا والله يسرني ويسعدني منك. أخبرني إذا تفضلت ماذا حدث؟
شاه   :  كل ما حدث يا بني أننا زففناها إليه كما اقترحت عليَّ في غير جلبة ولا ضوضاء ثم انصرفنا من عندهم وعدنا إلى البيت فما شعرنا بعد قليل إلا بحميراء تقرع علينا الباب فتدخل إلى حجرتها تصلي وتبكي.
فيروز  :  عجباً ألم تسألوها ما خطبها؟
شاه   :  بلى سألناها وأخبرتنا بكل شيء.
فيروز  :  ماذا قالت؟
شاه  :  إنا قد أرسلنا في طلبه منذ قليل لنواجه بينه وبينها فسيحضر الآن ونخبئك أنت في مكان فتسمع كل شيء بأذنك.

4

شاه    :  لكن لماذا انتظرت يا بدر الدين حتى أرسلنا في طلبك؟ لماذا لم تجيء على إثرها في الحال.
بدرالدين: لم أستطع يا سيدي أن أفعل ذلك. فقد قام في نفسي أن ابنة شاه الكرماني لما دخلت بيتي فرأت فقري ورقة حالي احتقرتني وقررت ألا ترضى بي بعلا فلحقت بأهلها قبل أن تقضي عندي ساعة واحدة.
شاه    :  كلا لقد أخطأت يا بدر الدين إنك أسأت فهم مرادها فقلبته من النقيض إلى النقيض.
بدرالدين: كيف يا سيدي الشيخ؟
شاه       :  اشرحي له يا حميراء.
حميراء     :  يا هذا ليس خروجي من منزل لفقرك بل لضعف يقينك.
بدرالدين: ماذا أنكرت مني يا حميراء؟
حميراء    :  ألم أجد عندك رغيفاً يابساً قد وضعته على رأس جرة ماء؟
بدرالدين:  بلى.
حميراء   :  وسألتك فقلت لي: هذا رغيف تركته من أمس لنفطر غداً عليه.
بدرالدين: أجل وأي شيء في ذلك؟
حميراء    : أرأيت يا أبي؟ إنه لم يدرك حتى الآن الذنب الذي ارتكبه.
بدرالدين: سبحان الله. أي ذنب ارتكبت.
حميراء   : حقاً ليس الذنب ذنبك. الذنب ذنب أبي إذ قال لي: زوجتك يا حميراء بشاب مؤمن تقي فكيف يوصف بالتقوى والإيمان. من بلغ من ضعف يقينه بالله أن يدخر من أمسه رغيفاً لغده؟
بدرالدين: هذا إذن هو الذي نفرك مني؟
حميراء   :  نعم.
بدرالدين: وليس فقري ورقة حالي؟
حميراء   : لا.
بدرالدين: ما أكرمك يا حميراء وأعظمك سامحيني إذن هذه المرة فوالله لا أعود لمثلها أبداً ما حييت.
حميراء    : هيا بنا إذن.
بدرالدين: إلى أين.
حميراء    : إلى بيتنا.
بدرالدين: الحمد لله . الحمد لله.

5

شاه    :  سمعت يا ابن أخي؟
فيروز   : (بصوت يخالطه البكاء) سمعت يا عماه.
شاه    :  ويحك يا ابن أخي إنك لتبكي.
فيروز   :  (يشتد نشيجه) لوددت يا عماه لو أخرج من ملكي كله وتكون لي حميراء.

(ستار)