محمد صفار

محمد صفار:

كولن وقطب تعاملا مع الوحي بمنهج واحد

خالد التركي

قد يبدو غريبا الربط بأي شكل من الأشكال بين فكر أو منهج فتح الله كولن -مؤسس حركة كولن التركية- وفكر سيد قطب.. لكن الدكتور محمد صفار المدرس بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة تمكن من إظهار عدد من نقاط التشابه في فكر الرجلين.

ففي حواره مع "إسلاميون.نت" يقول صفار: إن كولن كان معجبا بفكر قطب وإنه عمل على استكمال مشروع الأخير الذي كان يهدف إلى كتابة السيرة النبوية بنفس أسلوب ظلال القرآن، وفي هذا الإطار ألف كولن كتابه "النور الخالد" الذي استلهم فيه منهج قطب في التركيز على الجانب الجمالي وفي التجاوز الزمني.

كما يقول صفار بوجود فكر صوفي مشترك بين الرجلين، ويرجع الاختلافات في فكر الرجلين إلى اختلاف السياقات والظروف التي مر بها كل منهما والتي كان لابد أن تنتج فكرا مختلفا على الرغم من أوجه التشابه التي يحملها.

إعجاب كولن بقطب

* كيف جاءتك فكرة المقارنة بين فتح الله كولن وسيد قطب؟

- كنت في زيارة لتركيا ولم يكن في ذهنى بداية عقد مقارنة بين كولن وقطب، ولكن بعد أن زرت المدرسة التي يدرس فيها فتح الله كولن واطلعت على عدد من كتبه والمقررات التي كان يدرسها لتلاميذه فوجئت بوجود كتاب "في ظلال القرآن" لسيد قطب ضمن هذه المقررات.

للوهلة الأولى ستعتقد أن سيد قطب في فلسفته التي تعتمد على العزلة الشعورية وحديثه للعصبة المؤمنة وفكره الذي تولد عن معاداته للسلطة ليس له أي علاقة بفتح الله كولن الذي يقوم فكره على الحوار وقبول الآخر والانفتاح على كافة القوى السياسية في تركيا، كما أن عدم مشاركة كولن في السياسة تدعم الاعتقاد بأنه لا يمكن أن يكون هناك التقاء بينه وبين قطب، إلا أنني وجدت أن كولن كان معجبا بفكر قطب، وكثيرا ما يمتدح فقرات من ظلال القرآن أثناء قراءتها على تلاميذه، وفي أحيان أخرى يستدرك على قطب ويقول: "معذرة أيها الشهيد لكن هنا أنا أختلف معك"، وهكذا حدث حوار داخلي بين فتح الله كولن وبين سيد قطب وكانت هناك نقاط مشتركة.

فكتاب ظلال القرآن عمل ضخم يعتمد على المنهجية في تحليل النص القرآني، وبدلا من أن يكون النص القرآني موضوع دراسة، نجد أن الظلال يركز على الجانب الجمالي للنص القرآني، وعملية الاندماج هذه هي عملية تجاوز زمني، بمعنى أن سيد قطب حينما يقرأ القرآن فإنه يعود لأجواء التنزيل ويستحضر الحالة النفسية التي كان عليها المسلمون حينما كانوا يتلقون الوحي أول مرة، وهذا تجاوز زمني للوراء، ثم يتجاوز زمنيا للأمام عندما يستصحب هذه الحالة النفسية ليواجه بها ظروف الواقع ويعطي إرشادات لتلامذته حول كيفية التصرف حيال النظام السياسي القائم وحيال المجتمع ومهام الدعوة.. ونفس هيكل الظلال (الذي يركز على إقامة حوار مباشر مع النص الذي يتم تفسيره وفكرة التجاوز الزمني للوراء وللخلف) موجود لدى فتح الله كولن.

تشابه المنهجية

* هل هذا مجرد تشابه فقط في تفسير النص القرآني؟

- هذا ليس تشابها فقط في التفسير القرآني لأن سيد قطب كان يتحدث عن نيته كتابة كتاب آخر عنوانه في ظلال السيرة يطبق فيه نفس الآلية المنهجية في قراءة السيرة النبوية، وقد أورد هذه الملاحظة مرتين في هامش ظلال القرآن، وأنا أزعم أن فتح الله كولن قرأ هاتين الملاحظتين لأنه كان يدرس ظلال القرآن بأكمله لتلاميذه فلابد أن يكون قد اطلع على هذه الملاحظة، ومن هنا نجد أن كولن استخدم منهاجية الظلال في دراسته للسيرة النبوية في كتابه "النور الخالد" المترجم للعربية، وفى العديد من المواضيع في هذه السيرة نجد أن كولن يستخدم منهاجية الظلال في التعامل ولكن ليس مع النص القرآني كما فعل قطب وإنما في التعامل مع أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام.

وقد يرى البعض أن الاثنين كانا يتعاملان مع أمرين مختلفين ولكن في حقيقة الأمر هما يتعاملان مع شيء واحد لأن الرسول الكريم لم يكن سوى القرآن يمشي على الأرض، والوحي القرآني عند المسلمين يتكون من القرآن والسنة، وبالتالي تعامل كل من قطب وكولن مع الوحي القرآني هو من خلال نفس هذه المنهجية وهذه العوامل الظاهرة البارزة بينهما.

ومن العوامل المشتركة أيضا نجد أنهما يتحدثان عن الأزمة الروحية للمسلمين، فنجد سيد قطب يتحدث عن الفصام النكد بين الدين والعقل، وكولن يتحدث عن الانفصال بين الروح والعقل في الحضارة الشرقية التي توجهت نحو الروح وتركت العقل وفي الحضارة الغربية التي توجهت نحو العقل وتركت الروح، وبالتالي يعود كلاهما لتجربة روحية من خلال قراءة نص الوحي سواء كان من القرآن عند سيد قطب أو من السنة عند كولن وبالتالي فإن نقطة البداية عند الاثنين واحدة.

ومن القواسم المشتركة أيضا مسألة الحوار، ففي ظلال القرآن هناك حوار دائم بين سيد قطب والعصبة المؤمنة (مجموعة الشباب المسلم التي تؤمن برسالة الإسلام) ولا نستطيع تحديد ما إذا كانوا تنظيما أم شبابا في خيال قطب فقط، ولكن المؤكد أن ظلال القرآن عبارة عن حوار مستمر في كافة صفحاته بين قطب وجمهور آخر متخيل أطلق عليه العصبة المؤمنة، ومثل هذا النمط الحواري موجود لدى كولن عندما يتحدث إلى تلامذته ويسميهم براعم الإيمان، وهذا الإطار الحواري وهذه العوامل الهيكلية التي في كتابي ظلال القرآن والنور الخالد تلفت نظر أي مفكر أو دارس.

وأنا أعتقد أن كولن أراد أن يكمل "في ظلال السيرة" الذي أراد قطب أن يكتبه ولكن الأجل لم يمهله لإتمامه، وكتاب النور الخالد من وجهة نظري هو محاولة من كولن لسد هذا الفراغ، ونحن بالطبع لا نتوقع أن يسير كولن في نفس اتجاه قطب الفكري أو الحركي ولكنه اعتمد منهاجية الظلال في التفسير ومنهاجية الظلال في التعامل مع الوحي الإسلامي سواء كان قرآنا أو سنة.

قطب كان صوفيا!

* ماذا عن الفكر الصوفي عند قطب وكولن؟

- أنا أزعم أن قطب كان صوفيا، إذ توجد باعتقادي بعض الأمور التي تتعلق بتعذيبه جعلته متجردا، فهناك العزلة عن العالم التي كان يعيشها في السجن وهي أولى درجات الصوفية، كما أن لحظات التعذيب والألم جعلته يتسامى عن الواقع، وبالتالي استطاع أن يقطع الروابط مع العالم، ونجد هذا واضحا عندما يفسر سورة البروج ويتحدث عن أوقات التعذيب التي تندمج فيها الصرخات بضحكات وسخرية الجلاد، وحينما يتحدث عن التعذيب بالكهرباء وكيف يؤدي إلى تفكك أوصال الجسد، وعندما يتحدث قطب عن التصوف الإسلامي نجده لا يكفر من وصل لحالة من النشوة وحالة من العشق الإلهي بحيث لم يعد بمقدوره السيطرة على نفسه، إلا أن قطبا لم يستخدم بعض المصطلحات الصوفية الشائكة مثل وحدة الوجود.

وبالنسبة لكولن فقد نشأ في بيئة صوفية وينتمي لتقاليد صوفية مقيدة بالشريعة خاصة فيما يتعلق بالممارسات الصوفية، والعنصر الأساسي في الخبرة الصوفية للرجلين هو نوع من الأدب مع الله أو الأدب مع الرسول، فسيد قطب يتحدث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم ويخشى أن يشوه كلامه ويخرج عن حدود الأدب، وهو الأمر الذي خشي كولن أن يشوهه أيضا وتمنى أن يكون هناك كاتب أو مفكر أقدر منه على تفسير أحاديث رسول الله.

والتجربة الصوفية جعلت الرجلين ينفتحان على الله وعلى الكون، فكلاهما يتحدث عن مهرجان التسبيح الكوني، وأن كل المخلوقات وفيها الإنسان تسبح بحمده وتحمده على نعمه وتشهد على عظيم جلاله.

ورغم كل ما سبق نجد أن هناك اختلافا في منهج الحركة بين كولن وقطب، ويدلل على هذا أن قطبا كان يستخدم كلمة المنهج في حين يستخدم كولن كلمة الطريقة، غير أن المنهج عند قطب ضيق لأن المنهج جزء من العقيدة وبالتالي فإن التخلي عن المنهج تخلٍ عن العقيدة، ونجد ذلك واضحا عندما يجعل ما واجهه رسولنا الكريم من كفار مكة أو قوى الشرك هو منهج هذه القوى وجزءا من عقيدة التوحيد، وبالتالي فإن أي تنازل عن جزء من المنهج كالتنازل عن جزء من العقيدة.

أما فتح الله كولن فنجد أنه اعتمد على أن رسول الله قد غير أساليب الدعوة حينما انتقل إلى المدينة، أي في مرحلة الانتقال من اللادولة إلى الدولة، وهكذا عندما يتحدث قطب عن العصر المرجعي يقصد الفترة المكية في حين يتحدث كولن عن الفترة المكية والمدنية.

* هل نستطيع القول بأن النزعة الصوفية عند كولن كانت أقوى وأعمق من قطب وذلك باعتبار نشأة الأول في بيئة صوفية مرتبطة بالشريعة الإسلامية؟

- لا نستطيع الجزم بذلك لوجود اختلاف مكاني وزمني، فسيد قطب يتحدث عن العزلة الشعورية والمجتمع المؤمن أو العصبة المؤمنة في مواجهة المجتمع الجاهلي، وعن أن الصراع بين المجتمع المؤمن والجاهلي صراع حتمي، وأنه لو حاول المجتمع المؤمن تفادي هذا الصراع فسيعمل المجتمع الجاهلي على مطاردته، وأنه بما أن العصبة المؤمنة -بحسب قطب- في حالة ضعف فعليها أن تنعزل شعوريا، فهي وإن كانت تعيش في المجتمع الجاهلي فإنها لا تندمج فيه.. لكن كولن يتحدث عن حتمية الحوار باعتبار أن الحوار هو أساس الدين السماوي، ويقوم الحوار على الاختلاف وقبول الآخر ووجهة نظره، وهذا لا يعني التخلي عن وجهة النظر الشخصية ولكن معناه قبول الاختلاف، وهو يفترض أيضا ألا نذوب في الطرف الآخر ولكن نقبله كما هو.

الخلاف بين قطب وكولن

* نخلص من كلامكم إلى أن العوامل الفكرية والبنيوية مشتركة والمسلمات الصوفية واحدة، فلماذا وجد الاختلاف بين الطرفين؟

- هناك العديد من الأسباب، أولها اختلاف السياق والظروف التي عاش فيها سيد قطب وطبيعة النظام السياسي الذي سد أمامه كل إمكانيات الحركة ولم يترك لديه من سبيل للحركة سوى التصادم، وإن لم يكن هناك قدرة على التصادم فالعزلة الشعورية الكاملة.. بينما الأمر مع كولن كان مختلفا، صحيح أنه في البداية لم تكن تركيا منفتحة مثل الآن من الناحية السياسية ولكن كان فيها درجة من الانفتاح وكانت هناك عملية تحول ديمقراطي وبالتالي فان إمكانيات الحركة كانت مفتوحة أمام فتح الله كولن.

ونستطيع أيضا أن نفسر هذا الاختلاف بمفهوم الزمان لدى كل منهما، فمفهوم الزمان لدى قطب يتضح في تعامله مع حقبة الجاهلية التي يعتبرها حقبة مرجعية يسترجع منها المواقف التي حدثت بين المسلمين والكفار والمشركين ويطبقها في الزمن الذي يعيشه، في حين أن كولن يعتبر أنه يمكن الحصول على بعض الخبرات من هذه الحقبة لكنها ليست المرجع الذي يرى الفرد من خلاله الحقيقة.

والعامل الآخر هو تصور كل من الرجلين لشكل الزمان، فالزمان عند سيد قطب لم يكن دائريا، رغم أنه كان يقول في العديد من المواضع: "لقد استدار الزمان كهيئته يوم بعث الرسول"، لكن شكل الزمان عند سيد قطب موجيٌّ، فبعد الرسالة السماوية التي تدعو لمكارم الأخلاق، يحدث نوع من التقدم ويتمسك الناس بالأخلاق ثم يبدأ التخلي عن بعض المعايير الأخلاقية فيحدث تراجع وهكذا في شكل موجي.

وسيد قطب لديه فصل ما بين الحركة الموجية للبشرية وحركة الكون، فالكون في تقدم مستمر والبشرية في حركة موجية تعلو وتنخفض، وهذا الفصل في مفهوم الزمان جعله يفصل بين الذات والموضوع، وبالتالي لم يحدث الاندماج الكوني الصوفي لدى قطب.

أما بالنسبة لفتح الله كولن فإن شكل الزمان بإجماله -سواء الإنسان أو الجماد أو حتى الكون- حلزوني، وبالتالي تتفتح مواهب الإنسان وينضج فكريا وذهنيا مع دوران الشمس والقمر والليل والنهار.

هذه العوامل في فكر الرجلين تفسر اختلافهما في الحركة، وذلك بالإضافة لاختلاف السياق الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي وجد فيه كل منهما.