محمد المجذوب

حوار مع الأديب الكبير:

 الشيخ محمد المجذوب

في الأدب واللغة:

ندعو إلى التجديد والحداثة التي تحترم لغة

القرآن وتدعو إلى الإسلام

حاوره وائل الكردي - المدينة المنورة

مع أن "الأدب الإسلامي" أصبح حقيقة تفرض نفسها فإن الحديث عن عودة هذا الأدب وآفاق إبداعه وأهليته، دون غيره، لربط حاضر الأمة ومستقبلها بماضيها تزيد من الاهتمام به وإتاحة الفرصة له..

ومن الشخصيات الرائدة في الأدب الإسلامي والثقافة العربية الشيخ محمد المجذوب.. الذي تفضل بالرد على أسئلة الإصلاح في هذا الصدد.. والشيخ محمد المجذوب من مواليد طرطوس بسوريا سنة 1907م.

وقد قضى حوالي أربعين سنة منشغلاً بالتعليم منها 20 سنة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. يقول الشيخ محمد المجذوب عن هذه الفترة:

"كنت أعمل مدرساً في مادة التاريخ الإسلامي، واللغة العربية، وآدابها، والبلاغة، وكذلك كنت أعمل في إعداد المناهج، لأن الجامعة الإسلامية حينئذ كانت ناشئة حديثاً فوجدنا أن المناهج ضعيفة مضطربة فتعاونا مع الأخ الشيخ محمد المبارك رحمه الله، حيث كان له جهد كبير جداً في تصحيح الأوضاع ووضع المناهج، وقد كان لي دور في ذلك، ثم توليت في الجامعة الإشراف الاجتماعي، وكان هذا متعباً لي جداً لصعوبة التوفيق بين الناس واتجاهاتهم وآرائهم وأخلاقهم المختلفة..

ثم كنت أحد المسؤولين عن مجلة الجامعة التي استمرت سنين طويلة، ولما انتهى عملي في الجامعة وذلك قبل عشر سنوات* وجدتها فرصة صالحة لكي أفرغ لأعمالي العلمية والأدبية فأخرجت عدداً من المؤلفات بلغ إلى الآن 40 كتاباً بين الكبير والصغير والمجلدات مثل كتاب "علماء ومفكرون عرفتهم".. وكل كتبي في الثقافة الإسلامية ولكن فيها الشعر وفيها النثر وفيها القصة..

أما أعمالي الشعرية فقد صدر منها حتى الآن أربعة كتب بعنوان "نار ونور" ثم "همسات قلب" ثم "نصوص مختارة" ثم "آلام وأحلام" هذا بالنسبة للشعر. أما بالنسبة للقصة فقد بلغت كتبي فيها ما يقارب 15 مجموعة منها (قصص وعبر) و(نظرات تحليلية في القصة القرآنية)..

* اللغة العربية هي لغة القرآن وهي تراث الأمة، فما هي أهمية اللغة العربية عند المسلمين؟

** أنا أنظر إلى اللغة العربية كما ينظر أي مؤمن إلى علاقتها بالقرآن الكريم، فأول ملاحظة أن اللغة العربية الفصيحة هي الوعاء الذي نزل به الوحي فهي تعتبر شيئاً مقدساً لعلاقتها بالقرآن الكريم، ولا سبيل لفهم القرآن إلا بفهم العربية ولا سلامة للقرآن إلا بسلامة العربية فالارتباط بينهما كبير جداً.. لذلك عنايتي بالعربية كعناية الرجل الشريف بعرضه، ويهمني جداً أن تتقدم وأن يكثر معتنقوها ومحبوها، وأتضايق جداً عندما أرى زملائي من المدرسين لا يحترمون العربية فهم لا يتكلمونها وإنما يتكلمون باللغة السوقية عندهم، فكنت أصطدم معهم دائماً، وعندما كنت عضواً في إدارة الجامعة الإسلامية وكان رئيسنا الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله كنت دائماً كلما حدث اجتماع أذكرهم بواجبهم نحو العربية فيقول أحدهم: نحن غير ملزمين أن تحفظ ألسنتنا ضمن الفصحى، نحن مسؤولون عن إيصال المعلومات المقررة إلى أذهان الطلاب بأي صفة كانت.. وهذا كلام فارغ لا أصل له أبداً، ولذلك كان طه حسين يقول: "الأزهريون أعلم الناس بالعربية ولكنهم لا يحترمونها، لأنهم لا يتكلمون بها ولا يستعملونها ونادراً ما تجد منهم من يستخدمها، ولكن عندما يقف للخطابة يستخدمها أما في الدرس فلا. وقد حدث اصطدام بين بعض المدرسين في الجامعة الإسلامية والطلاب الأعاجم، فهؤلاء الأعاجم هم الذين حفظ بهم العربية، أما الطلاب العرب فلا يتكلمون العربية وكل منهم يتكلم بلهجة قومه. فلذلك تجد بينهم بلبلة، ولذلك كنت أنصح الطلاب الأعاجم ألا يساكنوا العرب لأن هؤلاء الأعاجم عندما يأتون من بلادهم لا يعرفون إلا الفصحى فقط.

الصعوبة مطلوبة

* يقول البعض إن اللغة العربية صعبة ومعقدة وهذا هو السبب في التخلي عنها فما تعليقكم على ذلك؟

** ليس من لغة في العالم إلا وفيها صعوبة، وأفضل الأشياء وأعظمها وأعلاها هو ما يحتاج إلى جهد للحصول عليه، وهل يستخرج اللؤلؤ من المزابل، لا يستخرج إلا من أعماق البحار ويتعرض الغائص له للموت وللبلاء وللشلل لكي يحصل عليه، فالصعوبة في العربية دليل عظمتها وليست دليلاً على أنها ليست صالحة. كان ولا يزال هناك جماعات ممن يدعون الثقافة والغيرة على بلادهم يحاولون توجيه الإهانات لهذه اللغة، وقد بلغ بهم الحال إلى أن بعضهم اقترح إحلال العامية محل الفصحى لأن الناس لم يعودوا يفهمونها فهذا كلام عجيب جداً وهو لا يدل إلا على شيء واحد وهو كرههم للإسلام.

فإذا زالت العربية زال الإسلام نفسه، وتعذر على الناس أن يفهموا دينهم لذلك يأتون للإسلام عن طريق العربية، أما أنها صعبة من ناحية التعليم فأنا أقول: إن العربية ليست أصعب من الفرنسية مثلاً، وأنا قد استفدت كثيراً من الفرنسية على قلة علمي بها لأن القواعد في كلتا اللغتين يشبه بعضها بعضاً، فمثلاً إذا درست الظرف بالفرنسية تجده أوسع اشتقاقاً من الظرف في اللغة العربية فالعربية تضغط الموضوع فتخرج من الكلمات القليلة المعاني الكثيرة، بينما الفرنسيون يحتاجون من التفصيلات إلى الشيء الكثير.. وتدريس القواعد يحتاج إلى فن فليس كل الناس يحسنون التدريس فأنا أعرف كثيرين يحملون الشهادات في اللغة العربية ولا يحسنون تدريسها، وبالإمكان تذليل هذه الصعوبة عن طريق المدرس والمفكر الفطن الذي يعرف كيف يدخل حب هذه اللغة إلى عقول وأذهان الطلاب.. وهناك مثل بسيط على ذلك: كان عندنا طالب أفغاني جاء للدراسة في الجامعة الإسلامية فكان يدخل عليه الأستاذ ويتكلم معه باللغة العامية السوقية، فكان الطالب لا يستطيع امتلاك نفسه فيقول له: يا شيخنا اتق الله فينا فنحن جئنا من بلاد الأعاجم من أجل أن نتعلم العربية لغة القرآن، وما جئنا لكي نتعلم لهجتك..

* ما هي صفات الأديب الإسلامي؟

** أنت تقول أديب وكلمة أديب مشتقة من الأدب، والأدب يحمل معنيين أدب اللغة وأدب السلوك، فنحن نتعلم كيف يتكلم العرب ونحن نعبر عما تنطوي عليه جوانحنا باللغة العربية، فهي وسيلتنا للاتصال بالعالم الخارجي من العرب وغيرهم، ولكن الأدب ينطوي في نفس الوقت على التهذيب الأخلاقي، لذلك يعبر الناس فيقولون: رجل مؤدب أي ذو أخلاق عالية وسلوك سليم.

فالأدب لغة وكلام وفن، وفي الوقت نفسه سلوك وقيم، ولذلك لا يعتبر الأديب عندنا أديباً إلا إذا جمع بين الفضيلتين: القدرة على التفهيم ونقل الأفكار إلى الآخرين، وفي الوقت نفسه داعياً إلى الخير والهدى والرشاد، وفي الوقت نفسه له القدرة على تهذيب قرائه وإمتاعهم وإسعادهم وهذا من عمل الفن. والعربية تتسع لكل المعاني على الإطلاق بما فيها الجد والهزل.. والخلاصة أن الأدب الإسلامي غذاء يحتوي على الأخلاق والفن في الوقت نفسه.

لا توجد إمارة

* ما رأيكم في الألقاب المعطاة للشعراء ومن في تصوركم رائد الأدب الإسلامي؟

** هذا مثل ما قالوا لأحمد شوقي أمير الشعراء: لا توجد إمارة في الشعر ولكن هناك متقدمون في الشعر في كل عصر. ففي العصر الجاهلي يذكر أن أشعر الشعراء هم زهير وامرؤ القيس والنابغة الذبياني فاختارهم الناس وقالوا هؤلاء مقدمون على من سواهم، وفي العصر الأموي ذكروا ثلاثة كذلك فقالوا: الأخطل وجرير والفرزدق، ثم جاءوا للعصر العباسي فانتقوا كذلك ثلاثة: المتنبي وأبو تمام والبحتري..

وهكذا جاء العصر الحديث فأجمع الناس على تأمير أحمد شوقي على الشعراء فهذا مرجعه إلى الهوى والرأي فلا مانع من أن تسمي شاعراً بارعاً أميراً أو عميداً، ولكن هذا من اختراع الناس حسبما يوافق ميولهم واتجاهاتهم وليس من ضرب اللزوم الذي لابد من وجوده..

أما رأيي بالنسبة لاختيار عميد الأدب الإسلامي فأنا لا أختار واحداً بعينه لأن الأدب الإسلامي له رجال وله معبرون وله مصورون، ولكن يختلفون ويتفاوتون باختصاصاتهم، فبعضهم يتميز في القصة، وبعضهم في الرواية، فهناك مثلاً الأخ نجيب الكيلاني فرواياته جميلة جداً، فهو سبق غيره. فعندنا أدباء كبار والحمد لله ونحن نعتز بهم فلا يحتاج أن نلقب كلاً منهم على حدة وهناك مثلاً الشيخ الطنطاوي فهو شيخ الأدباء في العصر الحديث..

الشعر ومضامينه

* نرى في هذا العصر أن الشعر اتخذ أشكالاً عدة ومضامين شتى فما هو السبب في رأيكم؟

** بدأ الشعر في الجاهلية على شكل الرجز، ويقال: إن أول من تكلم في الشعر أحد آباء النبي صلى الله عليه وسلم سقط عن البعير فانكسرت يده فتألم ألماً شديداً فكان لابد أن يئن ويتغنى فكان يقول: وايداه وايداه.. فيقولون هذا أول من قال في الشعر.. فقد يكون هذا الكلام صحيحاً وقد يكون موضوعاً للأخذ والرد، إذن الشعر هو تنفيس عن الآهات الصادرة من الوجدان، أما هؤلاء الذين يخربشون ويسمون شعرهم حداثة أو غير ذلك فهذا كلام كاذب.. في كتابي "تحفة اللبيب في ثقافة الأديب" وهو للشباب الذين يريدون أن يعرفوا الأدب تناولت شعر الحداثة وأعطيت أصحابه حقهم من ناحية الإبداع والصور الجمالية والإبداعية في بعض الأشعار، ولكن عندما خرجوا عن النظم والنغم المتوازن خربوا شعرهم وخربوا أنفسهم، والدليل على ذلك ما قاله صديقنا بدوي الجبل رحمه الله: (أنا أتحدى هؤلاء الحداثيين أن يحفظ الواحد منهم قصيدة له، فهو كلام لا يحفظ فالذي يساعد على الحفظ هو النغم فلذلك علماؤنا رحمهم الله نظموا العلوم كلها في كلام منظوم، مثل منظومة ألفية ابن مالك، فهم استخدموا النغم لأنه يثبت المحفوظ في الذهن).

أما من حيث المضمون فالمشكلة أنهم لا يراعون الإسلام ولا يحافظون على القيم العالية التي يتمسك بها المسلم فهم لا يعرفون شيئاً من ذلك أبداً بل بالعكس في ذلك تماماً كما في مجلة "إبداع" المصرية حيث يكتب أصحاب هذا الاتجاه فيها، فهم يدافعون عن كل منحرف يسب الدين ويشتم الإسلام باعتبار أن هذه حرية فكر، حرية تعبير، وهذا سلمان رشدي وجد في كل بلد من بلاد المسلمين من يدافع عنه بعذر أن هذه حرية فكر..

فنحن ندعو إلى التجديد، والحداثة التي تحترم لغة القرآن وتدعو إلى الإسلام، نحن نريد أن تعم هذه اللغة لتكون مهيأة لكي تحل محل كل لغات العالم بيننا، وستكون كذلك في المستقبل بإذن الله لأن الإسلام سينتشر في كل أنحاء العالم كما ورد عن الصادق المصدوق، فلا بد أن تكون هذه اللغة مهيأة لكي تخاطب كل العقول وتنافس كل اللغات، فنحن ندعو إلى الحداثة ولكن البناءة، أما الحداثة المدمرة فمن شأن السفهاء وليست من عمل المفكرين والمبدعين، ولعل أستاذهم في هذا العصر هو أدونيس، هذا كان تلميذي كان يأتي إلى البيت لكي يتعلم ولا يكتفي بالمكتب وقد لمست فيه الذكاء فأخذت بيده ولكن منذ صغره بدأ يلتف حوله القوميون وغيرهم من جماعة أنطون سعادة، فأخذوا يرفعونه ويشدونه حتى غرّ بنفسه، فلذلك اندمج فيهم وأصبح رمزاً لهم فهو الآن من أسفلهم..

* إنكم تعيشون اليوم على رأس جيل جديد فهل تعطوننا لمحة عن جيلكم؟

** نحن جيل نشأ في جو الإسلام فأصبح أحب شيء عندنا هو الخير وكلمة الحق، أخذنا هذا عن آبائنا وشيوخنا وكل الناس كانوا في ذلك العصر يأخذون ثقافتهم من أولئك المشايخ حيث نظافة القلب ونظافة اللفظ واليد، وحيث الأخلاق والسلوك القويم، فكان الشخص منا في ذلك الوقت تكفيه كلمة "هذا نصاب كذاب" حتى يحتقر من الناس.. أما الآن فيقولون الكذب ملح الرجال فمن قدر فليحتل. فقد اختلف الوضع كثيراً، ولكن الحمد لله هؤلاء السفهاء محدودون.

وهكذا نجد المرأة التي دعيت إلى السفور وخرجت من ثيابها نهائياً، الآن بدأت تتراجع إلى الحجاب نفسه، فالحمد لله لا يزال الخير من خصائص هذه الأمة، كما يقول صلى الله عليه وسلم: "الخير بي وبأمتي إلى يوم القيامة" فالجيل الجديد الذي أراه الآن فيه الخير وفيه الشر، والخير والحمد لله هو كل يوم في ازدياد، ذلك بسبب تلك التجارب التي مرّ بها أولئك العصاة في سابق زمانهم، وأكدت لهم أن هؤلاء الذين يقومون بقيادة الثقافات والشعوب والجماهير المسلمة ويدعونهم إلى الضلال أفلسوا وأثبتوا خيانتهم لأمتهم ولأنفسهم، وللأخلاق والدين وللعقل فلذلك انصرف الناس عنهم إلى المسجد الذي فيه ينشأ المسلم. نحن في الجيل الماضي كنا أقل ثقافة من جيل اليوم ولكن كنا أعلى قيماً.

ــــــــ 

* كانت هذه المقابلة في مجلة الإصلاح الإماراتية رقم العدد (315)  تاريخ 30/11/1994.