فاضل السباعي(2)

مقابلة مع:

 الأديب فاضل السباعي

أجرته: عفراء ميهوب

ويظل الكتاب أحد أهم وسائل المعرفة والاتصال الثقافي على اعتبار أنه الأعمق والأبقى أثراً. ولهذا نجد لزاماً ضرورة البحث في الأزمات والعوائق التي تؤخر صدوره أو تحدّ من انتشاره وتداوله، آملين من خلال ذلك الاطلاع على شكوى الكاتب مـن أوضاعـه - وقضايـا أخرى- بغية الوصول إلى تحقيق نتائج إيجابية تسهم فعلياً في التعرف على واقع الكتاب العربي (تأليف - طباعة - نشر - توزيع) سواء من قبل المؤلف نفسه أو من قبل دار نشر خاصة، أو جهة حكومية وغيرها.. هذا من جهة.

* ومن جهة ثانية.. في ظل زمن عاصف تتنازعه القوة والأهواء والمصالح عبر عولمة الإعلام: "كيف يمكن للكتاب أن يواجه كل العقبات ويصمد كأداة ثقافية مجدية في الحفاظ على الهوية"؟.

* أسئلة عديدة تسعى لإيجاد أجوبة مفيدة عند أهل الخبرة والمعرفة ندرجها في هذا الحوار مع الأديب والناشر (فاضل السباعي) ونحاول من خلالها أن نستجلي صورة صادقة عن معايير "النشر والرقابة والطباعة والتوزيع" وصولاً إلى القارئ وهو الهدف الأهم.

* أستاذ فاضل السباعي، أنت شاركت في معرض القاهرة الدولي للكتاب، يقولون: إن هناك أزمة كتاب في الوطن العربي.. ما رأيك؟

** دعينا نتساءل، أولاً، عن معنى كلمة "أزمة كتاب"! أهي "أزمة نشر" أم "أزمة قراءة"؟

في ندوة تلفزيونية في القاهرة، شاركت فيها مع اثنين من المثقفين العرب (مغربي وتونسية)، أعلنت بصريح العبارة أن الكتاب العربي متوافر في وطننا وبكثافة تسترعي الانتباه. ونحن إذا ما عدنا بالذاكرة إلى عام من أعوام الخمسينيات مثلاً، وعرفنا ما صدر فيه من الكتب العربية، وقارنا الرقم ذلك بما صدر العام الماضي2001 وجدنا البون بين الرقمين شاسعاً. صحيح أن أبناء الأمة قد تضاعف عددهم، وأن الأمية قد تراجعت شيئاً ما، هنا وهناك، وأنه دخلت سوق القراءة مجتمعات كانت من قبل مغيّبة (سكان المغرب العربي عموماً) ، إلا أن ما ينشر اليوم من الكتب، أقل ما يقال فيه أنه "سيل" يغرق المعارض، حتى إن مكتبات البيع -في دمشق مثلاً- كثيراً ما تعتذر عن أخذها كتباً ولو بـ "رسم الأمانة"! قلت هذا هناك، وأؤكده هنا.

في الثلاثينيات، طبع لروائي مصري (عادل كامل، ندَّ في حينه لنجيب محفوظ) كتاب بكمية ما، في الخمسينيات اشتريت نسخة من بقاياها! اليوم أطبع من أي كتاب من أعمالي ما أطبع، وبعد سنوات قليلة أعيد طباعته وبإصدار جديد. "الدنيا بخير يا جماعة!" فقالوا، في الندوة: "أنت ترسم صورة وردية!" فزدت إيضاحاً "إن ما يطبع في الجمهورية الجزائرية ليس الألف الواحد بل الخمسة والعشرة، وأحياناً، في الإصدارات الشعبية، ثلاثون ألفاً"!

* تتحدث عن "سيل الكتب" التي تصدر، وعن ألوف النسخ التي تطبع.. فماذا عن التسويق والترويج؟ وبمعنى آخر: هل نحن أمة قارئة؟

** من المؤسف أن أمتنا سوف يمر عليها زمن طويل قبل أن تصنف في عداد الشعوب التي يعرف عنها الولع بالقراءة، على حين أنه عرف عنها الولع بالتأليف منذ عصر التدوين (القرن الثاني للهجرة - الثامن الميلادي) حتى إنه لينظر إلى تراث أمتنا على أنه أغنى تراث مكتوب في العالم!

إننا اليوم في حاجة إلى تعويد أبنائنا القراءة، كأن يكون في كل بيت مكتبة أو رف للكتب، هذا إذا وجدت هذه المكتبة أو هذا الرف، لنفسهما مكاناً في البيت مع أزمة السكن التي تتخطى أزمة الكتاب! أو إذا وجد رب البيت في جيبه ما يجود به ثمناً لكتاب!

*إذاً فإن من مشكلات الكتاب سعره المرتفع؟

** لا يجادل أحد في ارتفاع سعر الكتاب، بالنسبة إلى القوة الشرائية التي يملكها القارئ العربي! إن الكتاب الذي كنا نشتريه في الخمسينيات بمئة وخمسين قرشاً سورياً، بات ثمنه اليوم مئة وخمسين ليرة؛ على حين أن دخل المواطن لم يتضاعف مئة مرة.. إلا عند من واتتهما الحظوظ الطيبة!

وقد أدركت الحكومات العربية هذه الحقيقة، ابتداء من العراق والكويت، ومروراً بسورية ومصر، وانتهاء بالجزائر.. فأخذت على عاتقها نشر الكتاب وإصدار المجلة وتسويقهما بسعر "مدعوم" يقل عن نظيره في القطاع الخاص، أقول: إلا وزارة الثقافة، التي لا تزال ترفع أسعار كتبها، وكذلك اتحاد الكتاب عندنا.. وقد سمعت في معرض القاهرة بعض المثقفين المصريين -وهم محبون للكتاب السوري بشكل ملحوظ- يتذمرون من ذلك... وحبذا لو ينتبه أولو الأمر إلى هذا!

* ولكن يظل في البال سؤال: من يشتري الكتب ونحن أمة لم يعرف عنها الولع بالقراءة، وسعر الكتاب مرتفع وقارئنا لا يملك القدرة على الشراء؟!

** يشتريها القادرون، وهم ليسوا قلة في الوطن العربي، وتشتريها أيضاً المؤسسات الحكومية من جامعات ومكتبات عامة. ويشتري كتب الدراسات والبحوث طلاب الجامعات وهم يشدون الحزام على البطون. ويشتري الكتب المترجمة محبو الاطلاع على الآداب الأجنبية. وإن للروايات ودواوين الشعر -إن كانت للمشاهير- قراءها. والكتب التراثية لها عشاقها.. تلك خريطة الرواج، كما أتصورها.

ويظل سائر الناس: ما بين قارئ متطلع خالي الوفاض، وبين امرئ غير معني بالقراءة!

* هذا الكم الكبير من الكتب التي تصدر، هل ترى فيه إضافة إلى المعرفة؟ وهل هناك إبداع حقيقي؟

** لا أتصور أن هناك كاتباً أو باحثاً يؤلف كتاباً إلا وفيه إضافة معرفية ما، حتى الكتب التراثية التي تحقق تنطوي على إضافات تظهر في التقديم والحواشي وفي مداخلات المحقق وغني عن البيان أن التكرار أيضاً قائم، ولولا أنه يلبي حاجة عند فئة من القراء لما أقدم الناشر على إعادة طبعه.

وأما الإبداع في القصة والرواية والشعر، فإني مع أن ينشر الأديب والشاعر ما يكتب، محتضناً من مؤسسات النشر الخاصة أو العامة. وأنا لست مع الرقابة، في تقويمها للمستوى الأدبي للمصنف المراد نشره، فإنه حتى إن كان دون المستوى الذي يريده الرقيب، فليس لنا منع نشره لهذه الحجة.. إن من ينتج قصصاً أو ديوان شعر، فإنه من حقه أن ينشر ما كتب ولو على نفقته (إن لم يكن مخلاً) وإن منعه من ذلك يشكل عندي قمعاً لحرية التعبير، وهذا المطبوع، إن لم يتوافر فيه الحد الأدنى من الإبداع، فإنه سيلقى جزاءه الطبيعي من القراء الذين يُعرضون عنه وهذا المطبوع يحقق لصاحبه ذاته، ولو في أدنى مستوى.

* الرقابة على الكتاب المطبوع في الوطن العربي، هل تراها صارمة إلى حد أنها معوقة نشر الكتاب؟

** في سورية ليست صارمة، ولكنها تبدو لي أحياناً غير نزيهة، وأحياناً أخرى معوقة!

إذا وضعنا جانباً "التحيز" الذي يلاحظ أحياناً في القطاع العام أو ما يشبهه، في أن يتولوا نشر الكتاب لزيد من الكتاب وأن يمتنعوا عن نشره إن كان صاحبه "عبيد"، وذلك ما يدخل في "السلطة التقريرية" - حسب التعبير القانوني- لأصحاب القرار، سلطة غالباً ما يخالطها المزاج، فإني آخذ على الجهة التي تمنح الموافقات ( وهي منذ العام 1971 اتحاد الكتاب العرب تعزيزاً من الحكومة له) أنها "متشددة" على غير ما تتطلبه السلطات في أعلى مستوياتها، ولأنها "مرتبكة" في عملها أيضاً!

إن المخطوطة (التي ينبغي أن تقدم إلى وزارة الإعلام ابتداء) تحال إلى الاتحاد لبيان الموافقة على الطباعة أو عدمها، وتلك سلطة لا علاقة لها بتبني النشر مادياً وأدبياً. الاتحاد يحيلها إلى من نسميهم "قراء- رقباء" منتشرين في أنحاء القطر (المدن والبلدات والقرى)، وهؤلاء هم المختارون موضع ثقة الإدارة دون غيرهم.. حيث تمكث المخطوطة عند الواحد منهم أسابيع أو شهوراً قبل أن تعود إلى الاتحاد، فإن كان الرأي الموافقة سعد صاحب المخطوطة، فيأخذها مختومة الصفحات، صفحة صفحة، إلى المطبعة. فإن لم يكن الأمر كذلك، وراجع صاحب المخطوطة ودق الأبواب، أحيلت إلى "قارئ – رقيب" آخر.. وفي ذلك ما فيه من تضييع وتعطيل وتعويق.

إليك يا عفراء، هذه السالفة: في سلسلة كتب للأطفال أصدرتها قبيل أعوام، "عصلجت" مخطوطة كتيب لي عند "قارئ – رقيب" بدا غير مكترث! فجعلت أتردد على الاتحاد استعجالاً، قلت لهم: "أما كان بالإمكان إحالة المخطوطة، هذه التي تقرأ في نصف ساعة، إلى عضو من أعضاء المكتب التنفيذي المداومين في مقر الاتحاد؟"

فقيل لي، وقد ظنوا أنهم أفحموني: "والقراء المقيمون في بلداتهم البعيدة، أليس لهم الحق في القراءة؟!" (ويا له من عطف!)؛ قلت: "إن المطبعة تعتذر عن مباشرة الطباعة ما لم أظهر لها الموافقة؟"؛ قال زميلنا رئيس الاتحاد باعتداد: "طبعاً!" وقد كنت ظننت أنه سيعتذر لي عن تلك الإجراءات المعقدة!

سالفة أخرى: قبل أعوام عزمت على نشر كتاب في نقد الرواية العربية لأحد الأساتذة الجامعيين في مصر. فلما تم الفراغ من تنضيده عندي، حدثته ذات ليلة على الهاتف: "الآن،، بقي علينا أن نقدمه إلى الرقابة"، فاستغرب. قال: "عندنا لا رقابة على الطباعة، ولكن الكتاب بعد أن ينشر يمكن للسلطات الإدارية إن رأت فيه ما يخل، أن تقيم الدعوى على الناشر أو على الكاتب، وبقرار من القضاء تكون المصادرة إن كان لها مبرر".. وأحجمت عن أن أقول لصاحبي: إن الأمر عندنا يتطلب موافقة أخرى تدعى "موافقة التداول" ذلك أن علينا أن نقدم إلى الاتحاد نسخة من الكتاب المطبوع مصحوبة بالمخطوطة المختومة صفحاتها، لتكون ثمة مقارنة وتدقيق!

* أستاذ فاضل: بعيداً عن الكتاب والنشر والرقابة، هل ترى أن التخلف الفكري والأدبي هو جزء من ظاهرة التخلف العربي عامة؟

** التخلف تخلفنا، والتخلف الفكري والأدبي عموماً أمر واقع.. وأعتقد أن مرد ذلك يعود إلى انتقاص الحريات في الوطن العربي لأن الإبداع والفكر لا يزدهر إلا في مناخ الحرية.. وإذا كان المثقف ضمير الشعب والأمة، والثقافة هي الحاضر مسكونة بالمستقبل.. فلا بد للمثقف من أن يتجاوز الواقع ويسهم في بناء المستقبل على نحو أفضل.. أما إذا تم استبعاد الأكفاء وتغييب المبدعين، مقابل إغواء الآخرين بالمداهنة والرياء، فهنا يبدو عجز الفعل الثقافي عن القيام بدوره التنويري.. وهنا لا أجد مندوحة من القول:

إنني أرى أن الضوء ينبثق دائماً حتى من خلال الظلمة، وقد تغدو هذه الأوضاع عاملاً على تحدي التردي ومحاولة النهوض.. وكما ينتعش الإبداع في ظل الحريات فإنه يمكن أن ينبعث تحت وطأة القيود... ولعله يكون أكثر ألقاً في مثل هذا الحال.

الجزء الثاني

"الكتابة فعل إنساني وتنسيق إبداعي

الإبداع يحتاج إلى مناخ من الحرية

جيل الخمسينيات امتاز بوفرة العطاء والواقعية

الكتابة فعل إنساني قيمي تتجلى أهميتها في ضبط وتنسيق الإبداع الفكري ليكون مرتكزاً مهماً في الأداء الثقافي بقصد التوعية، ورفع مستوى التذوق الجمالي، والإحساس بالمسؤولية، وتحريك الإمكانات الفردية والاجتماعية وغيرها من أجل النهوض ومواجهة التحديات، لا سيما وقد أصبحت الكتابة اليوم نوعاً من (الصناعة) بالقياس إلى وسائل إنتاجها وإيصالها."

* في الجزء الثاني من هذا الحوار مع الأديب (فاضل السباعي) نتابع الحديث عن مهمة الكاتب والكتابة والأعمال التي قدمها وصولاً إلى دور الإعلام كأحد أهم الوسائل لإلقاء الضوء على الواقع الثقافي وتقديم الكاتب والكتابة.

* الكتابة مهمة صعبة، كانت كذلك في البدء وما زالت في ظل الثورة الثالثة (المعلوماتية، بعد الثورتين: الزراعية والصناعية).. كيف تنظر إلى فعل الكتابة في إطار هذه الثورة التي نشهد فيها حالة متطورة من عولمة الإعلام؟ وكيف يمكن للكتابة أن تواجه ذلك كله؟

** الكتابة رسالة. صحيح قد تبدأ الكتابة أول أمرها تسلية أو ممارسة لمهارات وتحقيق ذات طفولية، إلا أنها يجب أن تحمل آخر الأمر رسالة، ورسالة نبيلة. عندما يفرغ الروائي من روايته متنفساً الصعداء، فإنه ينبغي أن يكون على يقين - وهو مستيقن من ذلك حتماً- من أنه قد قال في عمله الذي فرغ منه شيئاً نافعاً للمجتمع، وللوطن، وللإنسانية... باختصار: ليس هناك كلمة مجانية.

وأرى الكاتب الحر ناقداً للمجتمع. ينقد الخطأ ويكشف عن الخلل ويفضح التحيز والظلم والقهر والعدوان، بأسلوب فني.. كلما ازداد شفافية كان أدخل إلى القلب وأفعل في النفس.

من ناحيتي لا أظن أني كتبت قصة مجانية، كنت في كل عمل أنجزه أحرص على أن أقول شيئآً نافعاً وجميلاً.

وحقاً، ليست الكتابة بالأمر السهل، وربما خطرت لي الفكرة مساء يوم، فشرعت في كتابتها قصة فجر اليوم التالي (قصتي الأخيرة التي لما تنشر بعد: "أحلام العاشقين")، ذلك نادراً ما يقع لي، وقد تلبّدت فكرة في خاطري أشهراً وسنين قبل أن يتأتى لي أن أكتبها (قصتى: "صغير على الهم" ظلت تؤرقني أربعين سنة قبل أن أكتبها صيف 1980)

وأما "العولمة"، التي تشهد مقدماتها منذ سنوات، فإنها ترمي إلى أن تجعل العالم قرية صغيرة تطغى فيها قبضة مجتمعة من الدول الغنية على المتناثر من الدول الأفقر والأصغر، لتمحو ثقافتها وتشتت خصوصيتها، سعياً لاحتوائها وابتلاعها.. إنها شكل جديد للاستعمار.

كيف يمكن للكتابة أن تواجه ذلك؟ قبل المواجهة بالقلم، يجب أن تتمتع الشعوب بالديموقراطية، والتحرر من الضغوط التي تمارسها عليهم اقتصادياً ونفسياً تلك الدول المهيمنة وعلى رأسها تلك الدولة المتغطرسة، التي داست كل القيم والمعايير الأخلاقية. إن الإعداد للمجابهة يحتاج إلى التعاون بين الحاكم والمحكومين، بقدر الحاجة إلى تحرر الإرادة السياسية.

* أستاذ فاضل السباعي، كتبت القصة والرواية منذ الخمسينيات... هلا تحدثنا عن دورك الريادي في هذا المضمار؟

** بدأت أرسم وأنا في مرحلة الدراسة الإعدادية. ونظمت الشعر موزوناً ومقفى في المرحلة الثانوية، قبل أن أتحول إلى القصة، التي بدأت في نشرها في مجلة "الحديث" الحلبية (1951) ، ثم مجلة "الأديب" البيروتية (1953) التي رعاني صاحبها ألبير أديب، حتى إني كنت أبعث إليه بالمادة الأدبية بالبريد فيرسلها، في التو واللحظة، إلى المطبعة لتظهر في العدد الجديد.

في مطالع الخمسينيات ظهر من كتاب القصة في دمشق، سعيد حورانية وشوقي بغدادي وعادل أبو شنب وحنا مينة وآخرون... وفي حلب ظهر فاتح المدرس وفاضل السباعي وعلي بدور وجورج سالم وغيرهم. وقبل الخمسينيات كان في الساحة عبد السلام العجيلي وحسيب كيالي، وقبلهما في العام 1929 تحديداً، ظهر الرائدان: مظفر سلطان في حلب وعلي خلقي في دمشق، وبعدهما فؤاد الشايب ومنير العجلاني.

ومع كرّ السنين رحل بعض كتاب القصة إلى أجناس أخرى من فن الكتابة، وبعضهم الآخر رحل عن هذه الدنيا الفانية.. وبقي من بقي، على قيد الحياة، وفي نطاق الولاء للقصة والرواية!

ولست أضع نفسي في عداد الرواد، فهؤلاء هم الذين سبقوني بعشرين سنة. ولكن أنظر إلى نفسي على أني، بكل بساطة، من الجيل الذي اعتدنا أن نسميه "جيل الخمسينيات" وقد امتاز بوفرة العدد والعطاء.

أسترسل، يا عفراء، فأحدثك عن أني نزلت، في أواسط الخمسينيات، إلى بيروت غير مرة، أملاً في أن أوفق في نشر أول أعمالي القصصية، فاعتذروا لي بحجة أنه "الكتاب الأول"! فنشرته في حلب على نفقتي "الشوق واللقاء" 1958. وكنت أحمل نسخاً منه بيدي هاتين إلى المكتبات وإلى الأًصدقاء، مثل كل كاتب مبتدئ مجتهد.. إني لم أولد -وكذلك أبناء جيلي- وفي أفواهنا ملاعق من ذهب! وكنا ننشر قصصنا هنا وهنالك، دونما مقابل. واليوم، يسأل الكاتب الناشئ: كم تدفع هذه المجلة أو تلك؟!

بعد الكتاب الأول تشجعت دار الآداب في بيروت (وكانت داراً يطلع إليها المثقفون العرب) فنشرت كتابي الثاني (ضيف من الشرق 1959). ونشرت دار المعارف في مصر في سلسلتها الشهيرة "اقرأ" كتابي الثالث (مواطن أمام القضاء 1959). وفي ذلك يدغدغ صديقي الكبير الأستاذ فايز إسماعيل غروري حين يقول: "فاضل السباعي اقتحم قلعة النشر المصرية وهو في العشرينيات من عمره!" أسمع وأطرب... وهذا بعض مالنا، نحن الكتاب من.. المجد المؤثل!

كتبت وكتب أبناء جيلي القصة بأسلوبها الواقعي، متأثرين غالباً بـ "تشيخوف" و "غوركي" و "موباسان" و "ألن بو"، وبالمدرسة الواقعية التي راجت في الخمسينيات على أيدي نقاد مصريين مثل محمود أمين العالم ومحمد عبد العظيم أنيس والشرقاوي ويوسف إدريس وغيرهم. ثم أخذت أعطر أدبي بنفحة رومانسية (روايتي "ثم أزهر الحزن" 1963). وعندما اتجهت إلى نقد الأوضاع، تعين ْلي أن أتستر بـ "الفانتازيا"، فأنت تقرئين القصة -في هذا اللون الذي كتبت- وتقولين: إن الكاتب يحلم، ثم تقولين: بل إنه ينهل من الواقع، وبين هذا وذاك تنتهين إلى القول: لقد كان الكاتب يحلم، ولكنه قال من الحقيقة ما يريد! (مجموعتي "حزن حتى الموت" 1975 التي ترجمت أخيراً إلى الفرنسية).

* أنت قصصي وروائي وباحث في التاريخ الأندلسي، وموفور الحظ في نشر نتاجك... ما الذي جعلك تدخل عالم النشر فتؤسس دار إشبيلة، وتحمل هموم الطباعة والتوزيع؟!

** نعم. نُشرت أعمالي العشرين الأولى في بيروت والقاهرة.. وبعدت حتى وصلت إلى تونس (الابتسام في الأيام الصعبة 1983). وعندما أخذت حركة النشر في سورية في السبعينيات بالازدهار، تاقت نفسي إلى أن تكون لي زهرة في هذه الروضة. فقدمت، في العام 1972 مخطوطة إلى اتحاد الكتاب العرب (الذي أنا واحد من مؤسسيه في العامين 1968 - 1969) وبعد عام وبعض العام، أبلغوني بالاعتذار. والكتاب الذي اعتذروا عن عدم نشره هو "حزن حتى الموت" الذي نشر بعدئذ في بيروت في ثلاث طبعات (والرابعة في دمشق مطلع هذا العام).

في العام ذاته (1972) قدمت مخطوطة غيرها إلى وزارة الثقافة وبعد شهرين (هؤلاء كانوا أكثر استعجالاً) أعيدت إليّ بالبريد المسجل مع التمنيات بحظ أوفر. وما اعتذروا عنه كان كتابي "رحلة حنان"، الذي صدر بعدئذ في سلسلة "اقرأ" عن دار المعارف بمصر (والطبعة الثانية بدمشق في مطلع هذا العام).

لقد كان يملك سعيداً، في كل من هاتين المؤسستين الثقافيتين الكبيريتين: قاص نابغ في هذه، وروائي نابغ في تلك، وما كان يرضى أي منهما أن يدخلني في الملكوت الذي يرى نفسه السيد الأوحد فيه!

رخصت لدار النشر في دمشق. وأخذت أنشر كتبي، الجديد منها وأعيد نشر القديم. وقد ظلت تستهويني الحلة القشيبة للكتاب، فحققت ذلك في إخراج كتبي (دون أن أحمل القارئ تكاليف إضافية). وفي مطلع هذا العام (2002) نشرت، في إصدار جديد، خمسة من أعمالي. وبدا أن أصدقائي الأدباء استساغوا العناية مني بالكتاب، تنضيداً وإخراجاً وطباعة وتجليداً، فأقبل بعضهم علي: فتحولت من ناشر يتخصص في نشر كتبه إلى ناشر يعنى بكتب الأصدقاء أيضاً.. فهل آلام على ذلك؟

* أستاذ فاضل، أنت درست القانون.. فهل كان لذلك تأثير في أدبك؟

** بكل تأكيد.. إن القانون -بحكم كونه مؤسسة تنظم العلاقات البشرية، وتفرق بين الحق والباطل، والمظلوم والظالم، والمعتدى عليه والمعتدي، لترد لكل ذي حق حقه- لا بد من أن تؤثر دراسته، لا سيما في مرحلة الشباب الأولى، في نفسية دارسها، مثلما تؤثر الفلسفة أو الطب أو الهندسة في دارسيها، الذين يمارسون الأدب أو الفن، على سبيل الهواية أو الاحتراف. وأحسب أن هذه الدراسات، التي لا تتصل اتصالاً وثيقاً بالأدب، تصبح رافداً ذا نكهة عند الكاتب، الذي نفترض ابتداءً أنه مترع القلب بالعواطف الإنسانية، ولولا ذلك ما استطاع أن يوفق في مقاربة هموم الناس بأدب يؤثر في قلوبهم.

ودراستي تجاوزت، بطبيعة الحال، القانون (الذي تلقيته في جامعة القاهرة أوائل الخمسينيات) إلى سواه من مصادر المعرفة.. فما قرأته، من الكتب والمجلات الثقافية.. وذلك ينبغي أن يطلع عليه الكاتب الجاد –هو أوسع نطاقاً مما يتلقاه الكاتب في مرحلة الدراسة الجامعية. واليوم بيتي يضيق بالكتب والمجلات، هذه التي بتّ أتطلع إلى أن أقدمها إلى بعض المكتبات العامة، هدية!

* ما رأيك في الإعلام العربي اليوم؟

** إنه اليوم في طفرة، وأكاد أقول: في ثورة! لقد تبددت الحواجز وامّحت الحدود، وأصبح كل خبيء واضحاً وكل سرّ فاضحاً قبل اليوم، كنا، نتسقط الأخبار والأسرار من هذه الإذاعة وراء الحدود أو تلك. اليوم يأتينا، عبر الفضائيات السائدة الخبر طازجاً حتى لتفوح منه رائحة الدم، ومصوراً بكل ألوانه وأبعاده، صحيح، أن بعضها، هذه الفضائيات، قد يخلط السم بالدسم (ويستطيع المثقف الواعي أن يفرز هذا من ذاك) إلا أنها تطلعنا مع ذلك على أخبار في السياسة وعلى ينابيع من المعرفة، ما كان لها أن تصل إلينا لولا ثورة المعلومات وطفرة الإرسال الفضائي (متجاوزاً الإشارة إلى ما تقدمه في الغرب بعض الفضائيات المخلّة، مما لا يحسن ذكره).

وقد رأينا الفضائيات العربية تقدم للمشاهد الندوات الأدبية والفكرية والسياسية خاصة، وفيها من الآراء المتباينة والمتصارعة ما يجعل المشاهد يدرك بعد المسافة التي تفرق بين المتحاورين، فيحاول أن يبين مواطئ قدميه.. وهو إن لم يتبين ذلك، فقد ألمّ بتلك الآراء صحيحها ومتجنيها.

ولكني أرى أن كثرة الفضائيات العربية قد فَرض علينا ملء أوقاتها بالغثّ أحياناً، من البرامج الثقافية والفنية بأنواعها. وقد يولّد تنقل المشاهد من فضائية إلى أخرى متعة عنده، ولكن في ذلك كثيراً من هدر الوقت وتضييعه.

* وانتشار الدراما السورية في الفضائيات العربية.. بماذا تحدثنا عنه؟

** أعترف لك بأني أفرح كثيراً لأن الدراما السورية استطاعت، عبر هذه الفضائيات، أن تصل إلى المشاهدين العرب حيثما كانوا، وأن تدخل قلوبهم، تسبقها محبّة متأصلة عند العرب لبلاد الشام خاصة، التي منها بدأ التاريخ العربي بفتوحاته، واليوم تحقق الدراما السورية الناجحة، للمشاهدين العرب في أقطارهم، فرصة أن يحيطوا بتفاصيل الحياة الشامية، اليومية والاجتماعية والعاطفية وبمشاهد الطبيعة والحارات والأوابد، وبجمالية الفن السوري المتصاعد، في كتابة النص وفي الإخراج، وفي التمثيل تؤديه أعداد متزايدة من أبنائنا وبناتنا الموهوبين.

سمعت، وأنا في القاهرة، فيضاً من الثناء على الدراما السورية، وأذكر شهادة من مخرجة تلفزيونية شابة، في إطلالة لها على معرض الكتاب، حدثتني عن مدى إعجابها بالمسلسلات التلفزيونية السورية التي تراها "هادفة" وعن متابعتها لها كلها في شهر رمضان.. وأكدت لي أنها ليست وحدها التي تحمل هذا الإعجاب، ولكن يشاركها فيه كل من تعرف من أصحابها!

* سؤال أخير، أستاذ فاضل: هل ترى أنّ الإعلام السوري أنصفك كاتباً أديباً؟

** بصراحة: لا!

حين أكون في أية عاصمة عربية، فإن الإعلام فيها يستضيفني في ندوات وأحاديث، وكذلك المحطات الإذاعية الناطقة بالعربية في بعض العواصم الغربية، وتُسجّل لي هذه الأيام، عبر الهاتف، مقابلة مع إذاعة مونت كارلو، مدتها ساعة، وقد سجّلت، أيام معرض الكتاب الأخير في القاهرة (كانون الثاني – شباط) ثلاث ندوات تلفزيونية، إحداها لقناة النيل الثقافية، حلقة في برنامج جديد يعدّونه بعنوان "الملتقى العربي" سألوني فيها عن أدبي وسيرتي.

في مطلع هذا العام 2002 أعطيت المكتبة العربية إصداراً جديداً لخمسة من كتبي، وذلك ما ينبغي أن يعتبر حدثاً ثقافياً في مستوى ما.. فما سأل عن هذه الكتب الخمسة أحد من معدّي البرامج المختلفة في أجهزة الإعلام في وطني الحبيب!

إنهم إن كانوا في غيبوبة، أفما آن لهم أن يُفيقوا؟ فإن كانوا يستهدفونني، أفما آن "للشللية" المقيتة أن تذهب إلى الفناء؟!!