مجلة الاتلانتيك :"الغد" تنشر الترجمة الكاملة لمقابلة غولدبيرغ مع أوباما

علاء الدين أبو زينة

جيفري غولدبيرغ – (مجلة الأتلانتيك) عدد نيسان (أبريل) 2016

يوم الجمعة، 30 آب (أغسطس) 2013، اليوم الذي جلب فيه باراك أوباما الضعيف العاجز إلى نهاية مبكرة عهد أميركا باعتبارها القوة العظمى الوحيدة التي لا غنى عنها في العالم –أو، ربما اليوم الذي أطل فيه أوباما الحصيف الحكيم على هاوية الشرق الأوسط وتراجع عائداً عن حافة ذلك الفراغ الهائل القاتل- بدأ ذلك اليوم بخطبة هادرة ألقاها بالنيابة عن أوباما وزير خارجيته جون كيري، في العاصمة واشنطن. كان موضوع تصريحات كيري التشرشلية (1) بطريقة غير معهودة، والتي أدلى بها في "غرفة المعاهدات" في وزارة الخارجية، هي قصف المدنيين بالغاز على يد الرئيس السوري بشار الأسد.

أوباما، الذي يخدمه وزيره كيري بإخلاص -ولو بشيء من الحنق- يميل هو نفسه إلى الخطابة المحلقة الوثابة، وإنما التي لا تكون عادة من نوع الخطابة الحربية القتالية المرتبطة بتشرشل. ويعتقد أوباما أن المانوية(Manichaeanism (2)، والعدوانية المعروضة ببلاغة على النحو المنسوب إلى تشرشل، كانا مبرَّرين بصعود هتلر، وربما أمكن الدفاع عنهما في بعض الأحيان في حقبة الكفاح ضد الاتحاد السوفياتي. لكنه يعتقد أيضاً أنه ينبغي تسليح الخطاب لماماً فقط -إذا كان ينبغي تسليحه من الأساس- في مشهد الراهن الدولي الأكثر غموضاً وتعقيداً. ويعتقد الرئيس أن الخطابة التشرشلية –أو على نحو أدق، العادات التشرشلية في التفكير- هي التي ساعدت على دفع سلفه جورج دبليو بوش، إلى حرب مدمرة في العراق. وقد دخل أوباما البيت الأبيض عازماً على الخروج من العراق وأفغانستان؛ ولم يكن يريد البحث عن وحوش جديدة ليصطادها. وكان حذراً بشكل خاص من الوعد بنصر في صراعات يؤمن أن من المتعذر كسبها. وكما قال لي بِن رودس، نائب مستشار أوباما للأمن القومي، وأمين سره للسياسة الخارجية، في وقت قريب: "إذا كنت لتقول، على سبيل المثال، إننا سوف نخلَّص أفغانستان من طالبان، وسوف نبني ديمقراطية مزدهرة بدلاً منها، فإن الرئيس يدرك أن أحداً ما سيسألك، بعد سبع سنوات، عن ذلك الوعد".

لكن مزاج تصريحات كيري المحرِّضة في ذلك اليوم من آب (أغسطس)، والتي كان رودس نفسه قد شارك في صياغتها جزئياً، كان إظهار غضبَ الصالح المنتصر للحق وبذل الوعود الجريئة، بما فيها التهديد السافر بشن هجوم وشيك. كان كيري –مثل أوباما نفسه- مروَّعاً من الخطايا التي ارتكبها النظام السوري في محاولته إخماد الثورة المستمرة منذ عامين. كان جيش الأسد قد قتل أكثر من 1.400 مدني بغاز السارين في ضاحية الغوطة الدمشقية قبل تسعة أيام. وكان الشعور السائد داخل إدارة أوباما هو أن الأسد قد استحق عقاباً شديداً. وفي اجتماعات "غرفة العمليات" التي أعقبت الهجوم على الغوطة، كان كبير موظفي البيت الأبيض دينيس ماكدونو، فقط هو الذي حذّر صراحة من مخاطر التدخل، بينما حاجج كيري بحماس لصالح القيام بعمل عسكري في سورية.

قال كيري في كلمته: "بينما تجمعت عواصف سابقة في التاريخ، حين كان وقف الجرائم الفظيعة التي لا توصف في متناول أيدينا، تم تحذيرنا من إغواءات إدارة الوجه إلى الجهة الأخرى. إن التاريخ مليء بالقادة الذين حذروا من مغبة التقاعس، واللامبالاة، وخاصة من مغبة الصمت عندما يكون الأمر مهماً أكثر ما يكون".

عدَّ كيري الرئيس أوباما بين أولئك القادة. وقبل ذلك بعام واحد، عندما اشتبهت الإدارة بأن نظام الأسد يفكر في استخدام الأسلحة الكيميائية، كان أوباما قد أعلن: "كنا واضحين جداً مع نظام الأسد... إنه خط أحمر بالنسبة لنا أن نشرع في رؤية تحريك أو استخدام مجموعة كاملة من الأسلحة الكيميائية. سوف يغير ذلك حساباتي. سوف يغير ذلك معادلتي".

على الرغم من هذا التهديد، بدا أوباما في نظر الكثير من المنتقدين منفصلاً ببرود عن معاناة السوريين الأبرياء. كان الرئيس قد دعا في وقت متأخر من صيف العام 2011 إلى رحيل الأسد. وقال أوباما: "من أجل الشعب السوري، حان الوقت للرئيس الأسد كي يتنحى". لكن أوباما فعل القليل بداية للتعجيل بنهاية الأسد.

قاوم أوباما المطالب بالقيام بعمل، في جزء منه لأنه افترض، استناداً إلى تحليلات وكالات الاستخبارات الأميركية، أن الأسد سيسقط من دون مساعدته. وقال لي دينيس روس، مستشار أوباما السابق لشؤون الشرق الأوسط، مشيراً إلى المغادرة السريعة للرئيس حسني مبارك في العام 2011، وهي لحظة مثلت ذروة الربيع العربي: "اعتقد (أوباما) أن الأسد سيذهب بنفس الطريقة الذي ذهب بها مبارك". لكن مقاومة أوباما للتدخل زادت فحسب بينما تشبث الأسد بالسلطة. وبعد عدة أشهر من المداولات، أمر أوباما وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بتدريب وتمويل الثوار السوريين، لكنه شارك وزير دفاعه السابق روبرت غيتس، رؤيته أيضاً، وهو الذي كان يسأل بشكل روتيني في الاجتماعات: "ألا يجب علينا أن ننهي الحربين اللتين لدينا مسبقاً قبل أن نبحث عن واحدة أخرى؟".

كانت السفيرة الحالية إلى الأمم المتحدة سامانثا باور، وهي صاحبة النزعة التدخلية الأبرز من بين كبار مستشاري أوباما، قد جادلت مبكراً لصالح فكرة تسليح الثوار السوريين. باور التي كانت تعمل خلال هذه الفترة في مجلس الأمن القومي، هي مؤلفة الكتاب الذي لقي الكثير من الحفاوة، والذي ينتقد بشدة سلسلة من الرؤساء الأميركيين على إخفاقاتهم في منع عمليات الإبادة الجماعية. وكان كتابها "مشكلة من الجحيم"، الذي نشر في العام 2002، هو الذي لفت انتباه أوباما إلى باور عندما كان عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي، ولو أن الاثنين لم يشكلا نظيرين أيديولوجيين واضحين. كانت باور منحازة تماماً إلى المذهب المعروف باسم "مسؤولية الحماية"، التي تعتقد أن السيادة لا ينبغي أن تعتبر غير قابلة للنقض عندما تقوم دولة بذبح مواطنيها. وقد ضغطت على أوباما لتأييد هذا المذهب في الكلمة التي ألقاها عندما قبل جائزة نوبل للسلام في العام 2009، لكنه رفض ذلك. ولا يؤمن أوباما بشكل عام بأن على أي رئيس أن يضع الجنود الأميركيين تحت خطر جسيم من أجل منع حدوث كوارث إنسانية، إلا إذا كانت هذه الكوارث تشكل تهديداً أمنياً مباشراً للولايات المتحدة نفسها.

وقد تجادلت باور أحياناً مع أوباما أمام بقية أعضاء مجلس الأمن القومي، إلى درجة لم يستطع معها إخفاء سخطه، فقاطعها ذات مرة: "سامانثا، هذا يكفي، لقد قرأت كتابك مسبقاً".

يُكنّ أوباما، على عكس التدخليين الليبراليين، إعجاباً بالسياسة الخارجية الواقعية التي انتهجها الرئيس جورج بوش الأب -وعلى وجه الخصوص، واقعية مستشار الأمن القومي للرئيس بوش، برينت سكوكروفت. (قال لي أوباما ذات مرة: "أنا أحب هذا الرجل"). وكان بوش وسكوكروفت قد طردا جيش صدام من الكويت في العام 1991، وتدبرا بشكل حاذق أمر تفكيك الاتحاد السوفياتي؛ كما تبادل سكوكروفت الأنخاب أيضاً، نيابة عن بوش، مع قادة الصين بعد وقت قصير من مذبحة ميدان تيانانمين. وعندما كان أوباما يكتب برنامج حملته الانتخابية "جرأة الأمل" في العام 2006، شعرت سوزان رايس، التي كانت في ذلك الحين مستشارة غير رسمية له، أن من الضروري تذكيره بتضمين سطر واحد على الأقل من الثناء على السياسة الخارجية للرئيس بيل كلينتون، لكي يوازن جزئياً على الأقل كمَّ المديح الذي انهال به على بوش وسكوكروفت.

في بداية الانتفاضة السورية في أوائل العام 2011، جادلت باور بأن الثوار، القادمين من صفوف المواطنين العاديين، يستحقون دعم أميركا المتحمس. ولاحظ آخرون أن الثوار هم من المزارعين، والأطباء والنجارين، مقارنين هؤلاء الثوريين بأولئك الرجال الذين كانوا قد كسبوا حرب أميركا من أجل الاستقلال.

لكن أوباما قلب هذه الفكرة رأساً على عقب. قال لي ذات مرة: "عندما يكون لديك جيش محترف، جيد التسليح وترعاه دولتان كبيرتان" –إيران وروسيا- " الذين لديهم مصالح كبيرة في هذا، ويقاتلون ضد مزارع، ونجار، ومهندس، بدأوا الأمر كمتظاهرين ثم يجدون أنفسهم الآن في خضم صراع أهلي...". وتوقف هنيهة. "فإن فكرة أننا كنا نستطيع أن نغيِّر –بطريقة نظيفة لا تُلزم القوات العسكرية الأميركية- المعادلة على الأرض هناك، لم تكن صحيحة مطلقاً". وكانت الرسالة التي أبرقها أوباما في الخطابات والمقابلات واضحة: لا يمكن أن ينتهي به المطاف إلى أن يكون الرئيس بوش الثاني –رئيساً أفرط في التوسع المأسوي في الشرق الأوسط بحيث تملأ قراراته عنابر "وولتر ريد" بالجنود المصابين بجراح خطيرة، والذي عجز عن وقف تدهور سمعته، حتى عندما قام بتعديل سياساته في فترة ولايته الثانية. ويقول أوباما في الجلسات الخاصة إن المهمة الأولى لأي رئيس أميركي في مشهد ما بعد بوش العالمي هي "لا تفعل شيئاً هراءً أحمق".

أحبطت مقاومة أوباما باور والآخرين في فريق أمنه القومي الذين كانوا يفضلون القيام بعمل. وجادلت هيلاري كلينتون، عندما كانت وزيرة خارجية أوباما، لصالح استجابة مبكرة وحازمة ضد عنف الأسد. وفي العام 2014، بعد أن غادرت المنصب، قالت لي كلينتون إن "الفشل في المساعدة على بناء قوة قتالية موثوقة من الناس الذين كانوا المنشئين الأساسيين للاحتجاجات ضد الأسد... ترك فراغاً كبيراً، والذي ملأه الجهاديون الآن". وعندما نشرت مجلة "الأتلانتيك" هذه العبارة، وتقدير كلينتون أن "الدول العظيمة تحتاج إلى مبادئ تنظيمية، ولا تفعل شيئاً هراءً أحمق ليس مبدأ تنظيمياً"، كان أوباما "غاضباً جداً"، وفقاً لأحد كبار مستشاريه. لم يفهم الرئيس كيف أن "لا تفعل شيئاً هراءً أحمق" يمكن أن يكون شعاراً مثيراً للجدل. ويتذكر بِن رودس أن "الأسئلة التي كنا نطرحها في البيت الأبيض كانت: "مَن مع جماعة الهراء الأحمق؟"، "من يناصر عمل الهُراء الأحمق"؟. وقد اعتقد أوباما أن غزو العراق كان ينبغي أن يعلِّم التدخليين الديمقراطيين مثل كلينتون، التي كانت قد صوتت لصالح التفويض بالحرب، مخاطر عمل الهُراء الأحمق. (اعتذرت كلينتون سريعاً لأوباما عن تعليقاتها، وأعلن متحدث باسم كلينتون أن الاثنين سوف "يتعانقان" وينسيا ذلك في جزيرة مارثا فينيارد عندما تتقاطع طرقهما هناك في وقت لاحق).

شكلت سورية بالنسبة لأوباما منحدراً ربما يكون زلِقاً مثل العراق. وفي فترة ولايته الأولى، خلص إلى الاعتقاد بأن حفنة فقط من التهديدات في الشرق الأوسط هي التي يتصور أنها قد تبرر تدخلاً عسكرياً أميركياً مباشراً هناك. وشمل ذلك، التهديد الذي يشكله تنظيم القاعدة؛ الأخطار التي تتهدد استمرار وجود إسرائيل ("سيكون فشلاً أخلاقياً لي كرئيس للولايات المتحدة" عدم الدفاع عن إسرائيل، كما قال لي في إحدى المرات). وفيما لا ينفصل عن أمن إسرائيل، التهديد الذي تشكله إيران مسلحة نووياً. ولم يرقَ التهديد الذي يشكله نظام الأسد للولايات المتحدة إلى مستوى هذه التحديات.

بالنظر إلى تحفظات أوباما على التدخل، كان الخط الأحمر الساطع الذي رسمه للأسد في صيف العام 2012 مذهلاً وصادماً -حتى أن مستشاريه أنفسهم فوجئوا به. وقال لي وزير دفاعه في ذلك الوقت، ليون بانيتا: "لم أكن أعرف أن ذلك كان قادماً". وقيل لي إن نائب الرئيس جو بايدن، كان قد حذر أوباما مراراً من مغبة رسم خط أحمر على الأسلحة الكيميائية السورية، خشية أن يتوجب عليه فرضه وتنفيذ تهديده في يوم من الأيام.

اقترح كيري، في تصريحاته يوم 30 آب (أغسطس) 2013، أن الأسد يجب أن يُعاقب، في جزء منه لأن "مصداقية ومستقبل مصالح الولايات المتحدة الأميركية وحلفائنا"، كانت على المحك. "إنها مسألة تتصل مباشرة بصدقيتنا وبما إذا كانت البلدان ما تزال تصدق الولايات المتحدة عندما تقول شيئاً. إنهم يراقبون ليروا إذا كانت سورية تستطيع أن تفلت من العقاب، لأنهم يستطيعون عندئذٍ هم أيضاً أن يضعوا العالم تحت خطر أكبر".

وبعد تسعين دقيقة لاحقاً، وفي البيت الأبيض، عزز أوباما رسالة كيري في بيان علني: "من المهم لنا إدراك أنه عندما يُقتل أكثر من 1.000 شخص، بمن فيهم مئات الأطفال الأبرياء، بسبب استخدام سلاح تقول 98 أو 99 في المائة من البشر إنه لا يجب أن يستخدم حتى في الحرب، ولا يكون هناك رد فعل، فإننا إنما نرسل بذلك إشارة بأن هذا المعيار الدولي لا يعني الكثير. وهذا يشكل خطراً على أمننا القومي".

بدا كما لو أن أوباما خلص إلى استنتاج أن الأضرار التي تلحق بالمصداقية الأميركية في إحدى مناطق العالم سوف تنزف إلى مناطق أخرى، وأن قدرة الردع الأميركية كانت في الواقع على المحك في سورية. والأسد، كما يبدو، نجح في دفع الرئيس إلى مكان لم يظن أبداً أنه يمكن أن يذهب إليه. ويعتقد أوباما بشكل عام بأن مؤسسة السياسة الخارجية في واشنطن، والتي يزدريها في السر، تصنع صنماً من "المصداقية" –خاصة من نوع المصداقية التي تُشترى بالقوة. والاحتفاظ بالمصداقية، كما يقول، قاد إلى فيتنام. وفي داخل البيت الأبيض، سيجادل أوباما بأن "إسقاط القنابل على أحد ما لإثبات أنك راغب في إسقاط القنابل على أحد ما، إنما يتعلق فقط بأسوأ سبب لاستخدام القوة".

إن مصداقية الأمن القومي الأميركي، كما تُفهم تقليدياً في وزارة الدفاع، ووزارة الخارجية، وحزمة مؤسسات الفكر والرأي التي تقع مقراتها على مسافة مسيرة قصيرة على القدمين من البيت الأبيض، هي قوة غير ملموسة –وإنما قوية جداً –، عندما تتم تغذيتها بشكل مناسب، تبقي أصدقاء أميركا يشعرون بأنهم آمنون وتبقي النظام العالمي مستقراً.

في اجتماعات البيت الأبيض في ذلك الأسبوع الحاسم من آب (أغسطس)، جادل بايدن، الذي عادة ما كان يشارك أوباما مخاوفه بشأن فرط التمدد الأميركي، بحماسة بأن "الدول الكبيرة لا تمارس الخداع". وقد اعتقد أوثق حلفاء أميركا في أوروبا وعبر الشرق الأوسط أن أوباما كان يهدد باتخاذ عمل عسكري، وفعل مستشاروه الخاصون الشيء نفسه. وفي مؤتمر صحفي مشترك مع أوباما في البيت الأبيض في أيار (مايو) السابق، كان ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني، قد قال: "إن تاريخ سورية يُكتب بدم أبنائها، ويحدث ذلك أمام أنظارنا". وكان القصد من تصريح كاميرون، كما قال لي أحد مستشاريه، هو حث أوباما على اتخاذ عمل أكثر حسماً. وقال لي المستشار: "كان رئيس الوزراء بالتأكيد تحت الانطباع بأن الرئيس سوف يفرض الخط الأحمر". وقال السفير السعودي في واشنطن في ذلك الوقت، عادل الجبير، لأصدقائه، ولرؤسائه في الرياض، بأن الرئيس أصبح أخيراً مستعداً للضرب. وقال الجبير، الذي أصبح الآن وزير الخارجية السعودية، لأحد المحاورين، إن أوباما "أدرك مدى أهمية هذا الأمر. سوف يضرب بكل تأكيد".

كان أوباما قد أمر وزارة الدفاع مسبقاً بوضع قوائم بالأهداف في سورية. وكانت خمس مدمرات من فئة آرلي بيرك متواجدة في البحر الأبيض المتوسط، جاهزة لإطلاق صواريخ كروز على أهداف النظام. وكان الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، المؤيد الأكثر حماسة للتدخل من بين القادة الأوروبيين، يستعد للضرب أيضاً. وعلى مدار الأسبوع، قام مسؤولو البيت الأبيض ببناء القضية علناً للجمهور بأن الأسد ارتكب جريمة ضد الإنسانية. وسوف تكون كلمة كيري تتويجاً لهذه الحملة.

لكن الرئيس أصبح نهباً لقلق متصاعد. في الأيام التي تلت ضرب الغوطة بالغاز، كما سيخبرني أوباما في وقت لاحق، وجد نفسه ينكص عن فكرة تنفيذ هجوم غير مصرح به من القانون الدولي أو الكونغرس. وبدا الشعب الأميركي غير متحمس إزاء تدخل في سورية؛ وكذلك فعلت أيضاً واحدة من القادة الأجانب القلائل الذين يكنُّ أوباما لهم الاحترام، أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية. قالت له إن بلدها لن يشارك في حملة سورية. وفي تطور مدهش، يوم الخميس، 29 آب (أغسطس)، حجب البرلمان البريطاني عن ديفيد كاميرون مباركته لشن هجوم. وقال لي جون كيري لاحقاً إنه عندما سمع بذلك: "في داخلي، قلت: أووبس".

كما لم يكن أوباما مرتاحاً أيضاً لخلاصة الزيارة المفاجئة التي قام بها في وقت مبكر من الأسبوع جيمس كلابر، مدير مخابراته القومية، الذي قاطع إيجاز الرئيس اليومي (تقرير التهديدات الذي يتلقاه أوباما كل صباح من محللي كلابر) ليوضح للرئيس أن المعلومات الاستخبارية عن استخدام سورية لغاز السارين، مع أنها قوية، لا تشكل "تغميسة" Slam dunk. وقد اختار كلابر ذلك التعبير بعناية كبيرة. كلابر، رئيس مجتمع الاستخبارات، والمصاب بتروما من إخفاقات ذلك المجتمع في فترة التحضير لحرب العراق، لم يكن ليفرط في الوعد على طريقة مدير الاستخبارات المركزية الأميركية الأسبق جورج تينيت، الذي قدم الضمانة الشهيرة للرئيس بوش بتسجيل "تغميسة" في العراق.

بينما كانت وزارة الدفاع ومؤسسة الأمن القومي في البيت الأبيض ما تزالان تتحركان في اتجاه الحرب (أخبرني جون كيري لاحقاً أنه كان يتوقع ضربة في اليوم الذي يلي خطبته)، تشكل لدى الرئيس اعتقاد بأنه يسير إلى فخ –واحد نصبه كل من الحلفاء والخصوم على حد سواء، على أساس التوقعات التقليدية لما يفترض أن يفعله رئيس أميركي.

لم يفهم العديد من مستشاريه عمق شكوك الرئيس؛ لم يكن مجلس وزرائه ولا حلفاؤه غافلين عنها تماماً، لكن شكوكه كانت تتصاعد. وفي وقت متأخر من مساء الجمعة، قرر أوباما أنه ليس مستعداً ببساطة للتفويض بتوجيه ضربة. وطلب من ماكدونو، رئيس موظفيه، الخروج للتمشي معه في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض. ولم يختر أوباما ماكدونو عشوائياً: إنه الأكثر نفوراً من التدخل العسكري الأميركي بين مساعدي أوباما. وهو شخص، بكلمات أحد زملائه "يفكر أيضاً بمنطق الفخاخ". كان أوباما، الرجل الواثق بنفسه بطريقة خارقة في العادة، يبحث عن التحقق من صحة رأيه، ويحاول اجتراح طرق لتفسير تغييره رأيه، سواء لمساعديه أنفسهم أو للجمهور. وبقي هو وماكدونو في الخارج لمدة ساعة. وأخبره أوباما أنه كان قلقاً من أن الأسد قد يستخدم المدنيين ـ"دروعاً بشرية" حول الأهداف الواضحة. كما أشار أيضاً إلى ثغرة أساسية في الضربة المقترحة: لن يتم إطلاق الصواريخ الأميركية على مستودعات الأسلحة الكيميائية، خوفاً من تصاعد أعمدة السموم في الهواء. وسوف تستهدف الضربة الوحدات العسكرية التي كانت قد أطلقت هذه الأسلحة، وليس الأسلحة نفسها.

كما أطلع أوباما ماكدونو أيضاً على شعور ينتابه منذ وقت طويل: إنه متعبٌ من مشاهدة واشنطن وهي تنجرف بلا تفكير في اتجاه حرب أخرى في الدول الإسلامية. قبل أربع سنوات، كما اعتقد الرئيس، كانت وزارة الدفاع قد "حشرته" في زيادة لعديد القوات في أفغانستان. والآن، في سورية، بدأ يشعر بأنه محشور مرة أخرى.

عندما عاد الرجلان إلى المكتب البيضاوي، قال الرئيس لمساعديه للأمن القومي إنه قرر التهدئة. لن يكون هناك هجوم في اليوم التالي؛ إنه يريد أن يحيل الأمر إلى الكونغرس للتصويت. وأصيب المساعدون في الغرفة بالصدمة والذهول. جادلت سوزان رايس، التي أصبحت الآن مستشارة أوباما للأمن القومي، بأن الضرر الذي سيلحق بمصداقية أميركا سيكون خطيراً ومقيماً. ووجد الآخرون صعوبة في إدراك كيف أن الرئيس يمكن أن يناقض نفسه، تماماً في اليوم السابق لضربة مخطط لها. ومع ذلك، ظل أوباما هادئاً تماماً. وأخبرني بن رودس: "لو أنك من الذين يتواجدون حوله، فإنك تعرف متى يكون متردداً إزاء شيء، عندما يكون الأمر متعلقاً بقرار 51-49، لكنه كان مرتاحاً تماماً".

قبل وقت ليس بالبعيد، كنت قد طلبت من أوباما أن يصف لي أفكاره في ذلك اليوم. وسرد لي هموماً عملية كانت قد شغلته: "كان لنا مفتشون من الأمم المتحدة موجودون على الأرض ويستكملون عملهم، ولم نستطع أن نخاطر بعمل شيء بينما كانوا هناك. وهناك عامل رئيسي آخر، هو فشل كاميرون في الحصول على موافقة من برلمانه".

أما العنصر الثالث، والأكثر أهمية، كما قال لي، فكان "تقديرنا أنه بينما نستطيع إلحاق بعض الضرر بالأسد، فإننا لا نستطيع، بهجوم صاروخي، القضاء على الأسلحة الكيميائية نفسها، وما سأواجهه بعد ذلك كان احتمال أن يزعم الأسد –إذا نجا من الضربة- أنه تحدى الولايات المتحدة بنجاح، وأن الولايات المتحدة تصرفت بشكل غير قانوني بدون تخويل من الأمم المتحدة، وكان ذلك ينطوي على إمكانية تقوية موقفه بدلاً من إضعافه".

والعنصر الرابع، كما قال لي، كان ينطوي على أهمية فلسفية أعمق. قال: "إنه شيء يندرج في فئة شيء كنت أطيل تأمله منذ وقت طويل. لقد جئت إلى المنصب مع اعتقاد قوي بأن نطاق السلطة التنفيذية في قضايا الأمن القومي واسع جداً، وإنما ليس بلا حدود". (يُتبع)

(1) نسبة إلى ونستون ليونارد سبنسر تشرشل (30 )تشرين الثاني (نوفمبر) 1874– 24 كانون الثاني (يناير) 1965 في لندن. كان رئيس وزراء المملكة المتحدة من العام 1940 وحتى العام 1945 (إبان الحرب العالمية الثانية). وفي العام 1951 تولى تشرشل المنصب ذاته إلى العام 1955. يُعد تشرشل أحد أبرز القادة السياسيين الذين ظهروا على الساحة السياسية خلال الحروب التي اندلعت في القرن العشرين.

(2) المانوية من العقائد الثنوية، بمعنى أنها تقوم على اعتقاد بأن العالم مركب من أصلين قديمين، أحدهما النور والآخر الظلمة. وقد تأسس المذهب في فارس في القرن الثالث على يد ماني. وانتشر في الإمبراطورية الرومانية وآسيا، ودام في تركستان الشرقية حتى القرن 13. وقد استخدمه غولدبيرغ على الأغلب لوصف فكرة تشرشل عن اعتبار الصراع العالمي مقسوماً بحدة بين النور والظلام.

*نشر هذا المقال تحت عنوان:

 The Obama Doctrine

وسوم: العدد 660