الرؤية الجيواستراتيجية الروسية لوصل روسيا بسورية عبر البر

 تشير التطورات المتعاقبة وفصول الحرب التي تشن في سورية وإصرار روسيا على مسألة السيطرة على طريقي ال M5 و M4 إلى توجه يبدو أقرب لمحاولة فتح طريق بري يربط روسيا بسورية عبر إيران والعراق. وهنا تتجلى عقدة من أهم عقد الملف السوري في استراتيجيات الدول المعنية بالملف.

إذ تتشارك كل من الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا الإشراف على أجزاءٍ من هذا الطريق البري الذي يربط الموانئ الإيرانية المطلة على بحر قزوين بميناء اللاذقية، وبدمشق.

لطالما اعتبرت روسيا نفسها قوة برية من المنظور الجيوبوليتيكي، ولطالما كان الهدف الأساسي لاستراتيجية الروسية متمثلاً في الوصول إلى منطقة الحافة (الريم لاند) والإطلال على المياه الدافئة وكسر الطوق الجيواسراتيجي الذي فرضته حولها القوى الأطلسية. ولهذا الهدف وبعد إعادة تعريف روسيا لنفسها باعتبارها قوة عاملية إثر غزوها لجورجيا عام 2008 بدأت تنشط من جديد التوجهات الجيوبوليتكية الروسية الرامية إلى إعادة تعريف نفسها بوصفها القوة المسيطرة في أوراسيا عبر سلسلة من التحركات البطيئة نسبياً، وما لبثت أن تسارعت هذه التحركات بعد تدخلها العسكري المباشر في سورية عام 2015.

أولاً: الطريق البحري بين سورية وروسيا

يبدأ هذا الطريق من ميناء سيفاستوبل في شبه جزيرة القرم والتي كانت موضوع أبرز أزمة بين الشرق والغرب بعد مرحلة الحرب الباردة إذ ضمت روسيا شبه جزيرة القرم المتمتعة بالحكم الذاتي والتابعة لأوكرانيا عام 2014، ما شكل أزمة لاتزال تظهر مفاعليها بشكل متكرر منذ ذلك الوقت وحتى الآن.

ومع ذلك فقد وقع كلٌ من حاكم سيفاستوبل الروسي دميتري أوفسيانيكوف ومحافظ طرطوس صفوان أبو سعد عام 2018 اتفاقية لتسيير خط شحن بحري مباشر بين سيفاستوبل وطرطوس، للاتفاف على العقوبات الدولية المفروضة على النظام السوري ومن يتعامل معه.[1]

ورغم أهمية الخط البحري الذي يربط روسيا بالموانئ السورية إلا أنه يشتمل على جملة من العقبات أبرزها طولة المسافة بين المينائين والمقدرة بأكثر من 4000كم إن تم تفعيل الخط المباشر، وعدم القدرة على استخدام موانئ الدول الواقعة على هذا الخط البحري نتيجة تفعيل العقوبات الأوروبية والأميركية. كما أن بقاء هذا الخط البحري الرابط الوحيد بين روسيا وشرق المتوسط يبقيها تحت تأثير الدول المطلة على البحر الأسود ومضائق البوسفور والدردنيل والجزر اليونانية، وتأثير حلف الناتو على هذا الطريق البحري.

ومن هنا أتت الحاجة لتفعيل خيارٍ آخر يتماشى مع النظرية الجيوبوليتكية الروسية.

ثانياً: الطريق البري بين روسيا وسورية عبر إيران

يشير أصرار روسيا على مسألة فتح الطرق الدولية في سورية والسيطرة عليها إلى رغبة جيواستراتيجية في وصل روسيا بسورية عبر البر. إذ تطل روسيا على بحر قزوين ووقعت عام 2018 اتفاقية مع الدول الأخرى المطلة عليه تتضمن الأطر والمبادئ الناظمة للملاحة في بحر قزوين وتحتفظ روسيا في بحر قزوين بقوة بحرية كبيرة تعود إلى عام 1722م وقد شاركت هذه القوات البحرية أكثر من مرة في الحرب على سورية.[2] كما أن نهر الفولغا الصالح للملاحة في كثير من أجزاءه يصب في بحر قزوين.

إذا يعتبر الجزء البحري من هذا الطريق خاضعاً بشكل شبه مباشر لنفوذ كلٍ من روسيا وبدرجة أقل إيران، كما  تلتقي الاستراتيجيات والطموح الجيوبوليتكي بين الطرفين (روسيا وإيران) في مسألة الربط البري بين إيران وسورية عبر العراق.

 يعتبر ميناء بندر خازار الميناء الأكثر أهمية في هذا الطريق إذ يربط بحر قزوين بالأراضي الإيرانية حتى حدود العراق بشبكة من الطرق السريعة والسكك الحديدية.[3] وتمثل الأراضي الإيرانية الجزء الأكثر سلاسلة في هذا الطريق، إلا أن العقبات الأساسية تبدأ بالظهور في الجزء العراقي والسوري من هذا الخط البري.

يمتد الطريق البري من أقرب ميناء إيراني وحتى اللاذقية على مسافة تقارب 1500كم، حوالي 400 منها في إيران، و400 كم في العراق، والباقي في سورية، وهنا تبدأ قصة الأهمية الاستراتيجية لطريقي الـ M4  و الـ M5.

فطريق بغداد التنف مغلق بواسطة الولايات المتحدة في منطقة التنف، وطريق بغداد الرمادي – البوكمال ومن البوكمال وحتى حمص أو دمشق غير آمن بسبب تواجد بقايا تنظيم الدولة في المنطقة الصحراوية التي تتطلب السيطرة عليها جهداً كبيراً.

يبقى إذاً الطريق من كرمنشاه –الموصل – اليعربية، واليعربية هي نقطة بداية طريق الـ M4 في سورية. يمر هذا الطريق جنوب مدينة القامشلي التي أنشأت فيها روسيا قاعدة عسكرية ويستمر حتى يصل منطقة عين عيسى ومنبج والباب وصولاً إلى مدينة حلب. عند مدينة حلب يبدأ طريق الـ M5  الذي يستمر حتى دمشق. وتشكل منطقة سراقب نقطة الوصل بين الـ M5 و الجزء الآخر من الـ M4  الذي يصل حتى اللاذقية.

ثالثاً: الآثار الجيوسياسية للسيطرة على الطريق البري ومواقف الدول

روسيا

ترى روسيا في هذا الخيار خياراً استراتيجياً لا بد منه، لأنه يشكل خطاً رديفاً للطريق البحري الرابط بين ميناء سيفاستوبل وميناء طرطوس. كما أنه يقلل من إماكنية محاصرة وتطويق الاستثمار العسكري المباشر الذي صرفته روسيا في سورية منذ عام 2011 وحتى الآن. إذ أن الطريق البحري تكتنفه مجموعة من الصعوبات المتعلقة بطبيعته من جهة وباشتراك عدد من دول الناتو في هذا الطريق البحري. كما يشكل هذا الطريق جزءً من الطريق والطموح الاستراتيجي الروسي في الوصول إلى المياه الدافئة في بحر العرب والخليج العربي وشرق المتوسط.

وفي حال سيطرة روسيا على هذا الطريق بشكل كلي فستتحول سيطرتها إلى واقع جيوسياسي جديد سيؤثر على مجمل التطورات في الإقليم وقد يعيد ترتيب موازين القوى في المنطقة وسيقدم لروسيا الفرصة الجيوسياسية للتحول إلى لاعب دولي ينافس الولايات المتحدة في فضاء جيوبوليكي لطالما كانت الولايات المتحدة متحكمة فيه.

ايران

تشترك إيران مع روسيا في الرغبة الجامحة في تحقيق الاتصال البري المباشر الخالي من العوائق بينها وبين شرق المتوسط، وفي هذه الحالة فقد تتمكن إيران من تشكيل ضغط أكبر على طرق التجارة في الخليج العربي، وسيعزز ذلك قدرتها على اتباع استراتيجية  الابتزاز التي تمارسها فيما يتعلق بنقل النفط وأمن خطوط نقله في الخليج العربي وبحر العرب. كما يضمن لها هذا الخيار تعزيز تواجدها الثقافي والسياسي والعسكري في لبنان وسورية.

الولايات المتحدة

يشير اصرار الولايات المتحدة على احتفاظها بمنطقة التنف السورية، ومنع القوات الروسية لأكثر من مرة من تسيير دوريات على الطريق الدولي M 4، في منطقة شرق الفرات واعادة ترتيب قواتها هناك، إلى إدراكها لأهمية الطرق الدولية وتأثيرها على مستقبل التوازن الاقليمي والدولي.

تركيا

يشير خط العمليات العسكرية التي أطلقتها تركيا في سورية وتحديداً عمليتي درع الفرات/ ونبع السلام إلى إدراك تركيا لأهمية الاحتفاظ بموطئ قدم لها على هذه الطرق الدولية. كما يبدو أن إصرار تركيا على إبقاء النقاط العسكرية التي تنشرها في إدلب رغم أن بعضها قد أصبح محاصراً، يدفع لترجيح إدراك تركيا للأهمية الكبرى لهذه الطرق الدولية وتأثيرها على تشكيل موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط.  كما أن زيادة التحشيد ونقل القوات التركية وتعزيز هذه النقاط ورفض تركيا سحب هذه النقاط إلى ما بعد الطرق الدولية، يعزز من إدراك الأهمية الكبرى للبقاء حول هذه الطرق بما يضمن لها البقاء داخل اللعبة السياسية الكبرى التي تجري في سورية حالياً.

تشير معظم التقديرات التي تتحدث عن أهمية الطرق الدولية في سورية إلى عامل إقتصادي أو عوامل تتعلق بعقود إعادة الاعمار، إلا أن النظرة الأعمق تشير إلى أهمية جيواستراتيجية كبرى قد تنتج عن السيطرة المطلقة على هذه الطرق. و بالرغم من صعوبة السيطرة المطلقة عليها لأي طرف من الأطراف إلا أن مختلف الأطراف المشاركة في الصراع السوري تدفع باتجاه تعزيز مواقع تواجدها على هذه الطرق الدولية عبر سلسلة من التحركات والمناورات والأعمال العسكرية.

وسوم: العدد 863