في تأمّل تجربة الكتابة، أنا ابنٌ للحركة الإسلامية العالميّة

تعود بي الذاكرة إلى أواسط التسعينيات حيث كنت ابنا للحركة الإسلامية، وكنت أشاهد ذلك الاختلاف بين الحركات الإسلامية، وخاصة حركة المقاومة الإسلامية- حماس، والجهاد الإسلامي، وفيما بعد حزب التحرير، ثم علمت أن هناك تنظيما يدعى "الإخوان المسلمون"، ثم تعرفت إلى حركة الدعوة المعروفين باسم "الأحباب"، وصولا للصوفية. لم يكن الاختلاف على أشده بين تلك الحركات في تلك الفترة، أو ربما هو اختلاف عميق، ولكنه لم يكن يطفو على السطح. كنت قريبا من أتباع الحركتين (حماس والجهاد)، وكانت تتطور العلاقة بينهما أحيانا ليعلنا عن وحدة في النشاطات الطلابية مثلا أيام الانتخابات في جامعة النجاح الوطنية للتنافس على مقاعد مجلس الطلبة، للوقوف في وجه "الشبيبة" التابعة لحركة فتح. ولكن سرعان ما تتقلص كل حركة وتنكمش على ذاتها، ليظلا فيصلين مختلفين أكثر مما هما متفقان.

أكثر خلاف واختلاف شهدته وعشته كان الصراع بين حركة حماس وحزب التحرير، إذ يتهم الحزب الحركة بأن أعمالها غير مجدية، وتهدر طاقة الشباب فيما لا نفع فيه، وكان يريد من الجميع أن يوجه طاقاته نحو هدف واحد (العمل للخلافة)، إذ يرى أن الخلافة إن قامت ستحل كل أزمات الأمة من سياسية واجتماعية واقتصادية، وتعود فلسطين إلى حضن الأمة، ويرى الحزب أن ما عدا ذلك ما هو إلا ابتعاد عن الصواب، وزاد من ذلك أن الحزب يرى في أقسى آرائه تطرفا تجاه "الإخوان المسلمين" أنهم ركيزة مهمة من ركائز الأنظمة العربية الحامية للمشروع الصهيوني في فلسطين، هكذا رأى وفسر علاقة الإخوان بالنظام الأردني على وجه التحديد. وفي مقابل هذا التهجم الصريح على الحركة يرد الإخوانيون الحمساويون أن الحزب لا يبيع سوى الكلام، وأنه سابح وراء أوهام لن يصل إليها يوما، وكانت ترى الحركة أن ما يطالب به حزب التحرير من دولة واحدة لكل المسلمين نوع من الأسطورة التي لن تتحقق، وكانت ترى الحركة، وربما ما زالت، أن الحل هو وجود دول إسلامية ترتبط فيما بينها بعلاقات دفاع مشترك أو "كونفدراليات" أو ما شابه. إضافة إلى أنهم يعايرونهم بالتقاعس عن الجهاد وعن المقاومة المسلحة وأن الحزب اختار الطريق الأسلم، فلا أسرى له في المعتقلات الإسرائيلية، ولا جرحى له ولا شهداء، وكان الحزب دائما في توصيفه يخرج نفسه من دائرة الفصائل الوطنية والإسلامية الفلسطينية، فهو "حزب سياسي عالمي" كما يصر دائما على تعريف نفسه.

ذلك الصراع كان قويا أيام التسعينيات، وخاصة عندما شارك "الإخوان المسلمون" في الحكومة الأردنية، فأصدرت الجهتان فتاوى محرمة ومحللة، ليستمر النقاس وتتسع الخلافات، ولن "يعذر بعضنا بعضا فيما اختلافنا فيه" كما كانوا يزعمون في النقاشات غير الحادة، بل كانت البيانات التشهيرية فاضحة وجارحة وحادة وغير مريحة أغلب الأوقات. كنت أرى كل ذلك، وأطالب بسذاجة أن تتوحد كل الحركات في حركة واحدة، كنت مقتنعا بذلك جدا، أيام المد الرومانسي للمقاومة الإسلامية وما صار يعرف بالصحوة الإسلامية. ولكنني مع الزمن تخليت عن هذه الطوباوية الساذجة. فمن سيتنازل لمن؟ ولأجل ماذا؟

قبل أن أنخرط دارسا ثم عضوا كامل الأهلية في حزب التحرير، ومشرف حلقة في جهازه التثقيفي، حاولت الانضمام إلى الجهاد الإسلامي، فحصلت على ميثاق الحركة وقرأته، رأيته فيما بعد شديد الشبه بما يطرحه الإخوان وحزب التحرير معا، إذ إنه يطالب بدولة واحدة إسلامية، ويستخدم من أجل ذلك الجهاد، الجهاد في فلسطين، والجهاد ضد الأنظمة العربية "الكافرة" كما يسميها الحزب، كانت طروحات حركة الجهاد أقرب إلى تمنياتي، لكن شبهة العلاقة مع النظام الإيراني كانت تمنعني من الانخراط في هذه الحركة. كنت معبأ في تلك الفترة ككل أبناء الحركة الإسلامية ضد إيران وأنها دولة شيعية، وأنها تخالفنا في العقيدة ولها مواقف "مشينة" من الصحابة وأمهات الرسول الكريم. قرأت فقط الميثاق وماتت الرغبة في الالتحاق بالجهاد الإسلامي، وشاءت الأقدار أن أنزاح إلى الجبهة الأخرى من الفكرة الإسلامية، ألا وهو حزب التحرير.

في تلك الفترة الحرجة، وقبل الانزياح الكامل إلى جبهة "حزب التحرير"، لم أكن أعي أنني سأصبح كاتبا أو شاعرا، لم يكن لي حتى تلك الفترة سوى بعض الكتابات البائسة جدا، قصيدة في القائد فتحي الشقاقي عليه رحمة الله، وبعض الأشعار التي كنت أتدرب فيها على قول الشعر.

ثمة حنين يسكنني لتلك الفترة فعلا، عندما كنت شغوفا بالاستماع إلى الأناشيد الإسلامية، فاستمعت إلى كل "الأشرطة" التي صدرت ما بين عامي (1987-1997) تقريبا، وأثرت فيّ موسيقاها تأثيرا قويا، تأثرت بنشيد "سيد قطب" "أخي أنت حر بتلك القيود" وبنشيد "ثوار- دروب الأقصى بتنادينا" و"لبيك إسلام البطولة"، و"كل عام وانتو بخير يا اهل الضفة الغربية"، والكثير الكثير، وما زلت أحتفظ بتلك "الأشرطة" إلى الآن على الرغم من أنني لا أمتلك جهاز التسجيل المخصص لتشغيل تلك الأشرطة "الكاسيتات". إنما هي باقية عندي وفي وعيي علامة على ما كنته يوما، ولم أمتنع كذلك عن الاستماع للأغاني الوطنية لفرقة العاشقين وفرق الفصائل الأخرى حتى اليسارية منها، وكانت الحماسة في الألحان تشدني أكثر مما فيها من كلمات ومعانٍ. مع بقاء النشيد الإسلامي بكل تنوعاته هو الأكثر تأثيرا في وجداني دون أن أنجرّ فيما بعد إلى تقليده في أي نص كتبته.

لقد حملت هذا الحنين وهذا الانتماء للنشيد الإسلامي واجتزت به عتبة حزب التحرير، وكان يرى الحزب في تلك الفترة، ما بعد سنة 2005 إلى ما بعد الربيع العربي، أن الدولة الإسلامية على الأبواب، قاب قوسين بل أدنى، وأدنى من أي وقت مضى مذ نشأة الحزب في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، إلى الحد الذي كان يخبرنا المسؤولون أنكم لن تفاجَؤون بأية لحظة يعلن فيها "الأمير" قيام الدولة الإسلامية. كنت أنتشي جدا، وأتخيل تلك الحالة التي سيكون عليها الحال. وعندما اقترح الحزب، فيما بعد، كتابة نشيد للدولة الإسلامية القادمة اقترحت اعتماد نشيد "لبيك إسلام البطولة"، كنت أرى هذا النشيد عاما غير حزبي، يناسب الدعوة إلى الأمة الواحدة، إضافة إلى أنه نشيد قوي، تنخلع منه قلوب "الأعداء" لاسيما عندما كان يؤدى بأصوات قوية جهورية ومنشدين ممتلئين حماسا واندفاعا بمصاحبة قرع الطبول، إلى درجة أنك إن سمعته لن تتردد في تفخيخ نفسك، وتفجيرها في أقرب دورية للاحتلال. كان لتلك الأناشيد فعل قوي في نفوس من يسمعها من "المجاهدين". لم يوافق الحزب بطبيعة الحال على اقتراحي ذلك، ربما لأنه رآه نشيدا خاصا بمنشدين من الإخوان أو ربما كان يعول على ما في قرائح شعرائه من لظى النشوة لكتابة نشيد أقوى. لم تتمخض تلك القرائح، حسب علمي، عن إنتاج أناشيد قوية مع وجود محاولات، نشر بعضها في مجلة "الوعي"، وبقيت الدعوة التي دعا لها الحزب مسطورة في آخر كتابه "أجهزة دولة الخلافة في الحكم والإدارة"، محددة بخمسة شروط، وربما لن تجد لها أي شاعر يستطيع تطويعها لتكون كما قال "هتاف (نشيد) دولة الخلافة".

لقد شرقت بي الدنيا وغربت، وتشربت الكثير من الموسيقى والأفكار، لكنني في عمق عمقي ما زلت أعد نفسي ابنا للحركة الإسلامية العالمية، وعندما وجدت أن أسامة الأشقر الذي أعد "ديوان الفرقان" عام 2009، وضمنه قصيدتي "شدي الحزام" سررت جدا بتعريفه بي بأنني "شاعر إسلامي فلسطيني". رغما عما يقوله الآخرون عني الآن، ورغما عن يساريتي المفضوحة المتصالح معها إلى حد جمالية التعايش مع كل الأفكار لأكوّن فكرتي عن الكون والإنسان والحياة، وأصوغها شعرا ونقدا، دون أن أجد فارقا كبيرا بين فكرة وأخرى إلا بمدى إنسانيتها، بعيدا عن شطب الأفكار المناوئة أو إقصائها أو الغضب من أتباعها، إذ لا أعتبر اليوم أن ثمة فكرة هي مناوئة لي بشكل شخصي، ولا حتى أي دين هو مناوئ أو مناقض لما أعتقد.

من هذه الفسحة المفتوحة على العالم أتقبل الكل بكل سرور، ولا أجد أن شيئا من الأفكار يستهدفني فكريا أو إبداعيا. فكل هذه الأفكار لي، ومن حقي أن أتبنى ما شئت منها، فتصير لي، وما ليس يعجبني هو للآخرين حقهم، سواء بسواء كما هو حقي فيما اخترت أو اتبعت، وهذه النظرة بالذات كان لها إيجابياتها في التعامل مع الكتّاب وحوارهم. أتقبّل آراءهم فيما أكتب حتى العنيفة منها أو القاسية، وأصبحت قادرا على الاستماع إلى أفكارهم، ومناقشة أشد الأفكار تطرفا أو إلحادا أو علمانية بهدوء وحيادية، فكل تلك الأفكار ببساطة ليست لي، فلماذا أغضب منها؟

وسوم: العدد 868