نحو مجتمع المعرفة واقع القراءة في المغرب

ما من شك أن مقاربة واقع القراءة بطريقة فعالة وناجعة أمر غير ممكن ولا متيسر ما دمنا لا نتوفر في المغرب على معطيات تفصيلية تلخص نتائج الدراسات الميدانية التي تقوم بها مراكز بحثية متخصصة تتيح تشخيص الوضع القرائي بشكل موضوعي ودقيق، لكن ذلك لا يمنعنا من القول إن واقع القراءة في المغرب لا يبعث حاليا على الارتياح، حيث ترتفع أصوات عديدة معلنة تذمرها من واقع ثقافي تهيمن عليه مظاهر التأخر والتراجع. ويمكن تلخيص أزمة الثقافة المغربية، في الوقت الراهن، في تزايد العرض وضعف المقروئية، حيث صار المعروض من النصوص أكثر من المقروء. وهو ما جعل المتابعين لظاهرة الإنتاج النصي، في الوقت الحالي، يطلقون على هذا الوضع مصطلحا دالا هو "استنزاف الخطاب". فما هي علاقة القراءة بالتنمية؟  وكيف تساعد القراءة على تحقيق مجتمع المعرفة؟. 

القراءة والتنمية:

تمثل المعرفة، في عصر الانفجار المعلوماتي، المدخل الرئيس لكل تحول مجتمعي أو إقلاع حضاري منشود. إذ "المعرفة وسيلة إلى تسريع حركة التنمية، حيث يمكن من خلالها استحداث بدائل مبتكرة لتعويض التخلف وحرق المراحل"[2]. وما من شك أن تجاهل مشكلة القراءة التي تلقي بظلالها على المجتمع المغربي لن يقود إلا إلى تعميق مظاهر التأخر الحضاري في هذا البلد. إذ تمثل القراءة الوسيلة المثلى التي تمكن الفرد من شحذ فكره وتنمية ثقافته، لأنها تكسبه مهارة التعلم الذاتي التي تتيح له تجديد معلوماته وتعميق معارفه في مجالات الثقافة والعلوم التي تشهد  اليوم تطورا مشهودا على مختلف الأصعدة والمستويات.

  لم تنجح التحولات المتسارعة التي طرأت على المجتمعات العربية  في تغيير التصور  السائد عن القراءة. ولذلك لم يرتق النشاط القرائي إلى أن يصبح سلوكا يوميا راسخا يمارسه أفراد المجتمع في جميع الأوقات وفي كل الفضاءات. وما دام الأمر لم يصر إلى هذه الحال فمن البدهي أن يرصد الباحثون والمهتمون بشؤون الثقافة والفكر خللا كبيرا فيما يخص الوضع القرائي في المجتمعات العربية بشكل عام. إذ الأمر عندنا يختلف تماما عن الوضع في الغرب، حيث يشيع الاحتفاء بالمعرفة وتشجيع الباحثين مما لا نكاد نجد له أثرا في واقعنا الثقافي؛ فهناك تقاليد قرائية تجعل الإنسان الأوروبي يقبل على التثقيف الذاتي من خلال قراءة الكتب والمجلات في المقهى والحدائق العامة ومحطات القطار مما يجعل فعل القراءة سلوكا يوميا. أما في المجتمعات العربية فهناك تبخيس ملحوظ للكتاب الذي لا تقبل عليه سوى فئة قليلة تكاد تنحصر في الطلبة والباحثين. ولذلك نجد بعض الكتاب الذين خاضوا مغامرة طبع كتبهم على نفقتهم الخاصة يحتفظون بها في بيوتهم أو يوزعونها بأنفسهم على المكتبات والأكشاك ليكون مصيرها التلف أو النسيان. ومن التجارب التي تنضح بالمرارة أن يقوم الكاتب بإهداء إصداراته الجديدة إلى زملائه من المحسوبين على الثقافة والإبداع، فإذا بعضهم لا يتورع عن التخلص منها. فقد وجد عديد من الكتاب إصداراتهم التي مهروها بتوقيعهم وقدموها هدية إلى أصدقائهم تباع على أرصفة الشوارع بأثمان زهيدة تشعرهم بهوان بضاعتهم وبشاعة ما اقترفته أيديهم.

ومما يزيد من تفاقم أزمة القراءة النظرة الاجتماعية التي تحصر فعل القراءة في فئة خاصة يمثلون نخبة المجتمع وصفوته كما تشهد على ذلك الأرقام الهزيلة الخاصة بتوزيع الكتب والمطبوعات. إذ لا تتجاوز النسخ المطبوعة من الإصدار الجديد ألفين نسخة في أحسن الأحوال. وفي مجال الترجمة لا يتجاوز الإنتاج التراكمي لكل ما ترجمه العرب من عصر المأمون إلى اليوم عشرة آلاف كتابا. وهو يساوي  ما تترجمه إسبانيا حاليا في سنة واحدة[4]. والنتيجة المترتبة عن ذلك أنه عوض أن تسهم المواد الأخرى في ترسيخ تعلمات التلميذ وإغناء حصيلته اللغوية، في إطار تكامل المواد، فإنها تقوم على العكس من ذلك بالتشويش على ما تعلمه التلميذ وحصله في حصص اللغة العربية، لأن أساتذة المواد الأخرى خاصة المواد العلمية يدرسون بطريقة تمتزج فيها اللغة المحكية باللغة الفرنسية في غالب الأحيان. وما من شك أن هذه الطريقة في التعليم لن تقود إلى تعزيز القدرات اللغوية للتلميذ بقدر ما تعمل على تكريس التعثر في تعلم اللغات الذي يعاني منه المتعلم التلميذ أصلا.  وتمثل القواعد النحوية أبرز العقبات التي تواجه المتعلم بسبب التفاصيل الكثيرة والمعقدة التي يتعين حفظها. إذ يجري التعامل، في غالب الأحيان، مع قواعد النحو باعتبارها غاية وليست وسيلة لتنمية القدرات التعبيرية والتبليغية لدى المتعلم. ولذلك نجد عددا كبيرا من التلاميذ يحفظون القواعد عن ظهر قلب، لكنهم يعجزون عن القراءة  بطريقة سليمة. ويترتب عن ذلك عزوف التلاميذ عن تعلم لغتهم وتعرف تراثهم الثقافي والحضاري.  ومن أجل تجاوز  المشكلات التي يطرحها تعلم اللغة العربية يتعين التعامل مع دروس النحو تعاملا وظيفيا يركز على الجانب التطبيقي وليس النظري كما هو سائد في المدارس المغربية حاليا.  

ومن المظاهر الدالة على أزمة تعليم اللغة العربية أن الإسهام العربي فيما يخص البحوث والدراسات المنشورة بالعربية على شبكة الإنترنت لا يزال ضعيفا مقارنة مع البحوث المتوفرة باللغات الأجنبية. ولا نرى من سبب لذلك سوى ضعف الإنتاج العلمي للباحثين العرب وعدم مسايرته لمتطلبات العصر الذي أضحى فيه امتلاك التقنية الرقمية علامة على التحديث والعصرنة .

القراءة والأسرة:

تعد الأسرة دعامة رئيسة في مجتمع المعرفة الذي تشكل القراءة رافعته الأساس، لكن تحقيق هذه الغاية يظل هدفا بعيد المنال ما دامت معظم الأسر المغربية لا تدرك قيمة فعل القراءة وأهميته بالنسبة إلى الفرد والمجتمع يحول بينها وبين ذلك عوائق عديدة ومتنوعة أبرزها الفقر والأمية. ولذلك لا تعي أغلب الأسر دور القراءة الحرة في بناء شخصية الفرد وتشكيل وعيه بل وتحديد مستقبله ومصيره؛ ففي أحسن الأحوال يتركز الاهتمام على المقررات المدرسية دون الانتباه إلى أهمية المطالعة الحرة في تدعيم وترسيخ المعارف والمهارات التي يحصلها في المدرسة. والنتيجة المترتبة عن هذا الوضع أن غدت المحفظة التي تشتمل على المقرر الدراسي هي الوسيلة الوحيدة لدخول الكتاب إلى المنزل. وفي كثير من الأحيان لا يفتح الكتاب إلا في المدرسة. مما يؤثر سلبا على تجديد المعرفة وتحصيل الثقافة بالنسبة إلى كثير من أفراد وفئات المجتمع.

يتمثل أهم إجراء يمكن أن يقود إلى تشجيع الأطفال على اكتساب عادة القراءة في تقديم الأنموذج الذي يتعين احتذاؤه ومحاكاته، لأنه إذا نشأ الطفل في وسط تنتشر فيه عادة القراءة فإنه سيكتسب هذه العادة. إذ يبدأ الطفل في تقليد سلوكات الكبار وإعادة إنتاجها. فإذا وجد عادة القراءة منتشرة في محيطه العائلي، فإن ذلك سيدفعه حتما إلى الاتصال بالكتاب من أجل إشباع نهمه إلى المعرفة. ومن ثم إدمان القراءة التي تتحول عنده إلى طقس يومي يترقبه بشغف ما دام يحقق له المتعة والفائدة في نفس الآن. لذلك يتعين على الأسرة  أن تعمل على الاعتناء بأنشطة الأطفال واكتشاف ميولاتهم من أجل احتضان المواهب التي قد يظهرونها وتعهدها بالرعاية والاهتمام، فإذا أظهر الطفل ميلا إلى القراءة سارعت الأسرة إلى تأمين الوسائل الملائمة التي تدعم هذا الميل وتحفز الطفل على الاستمرار في التواصل مع الكتاب. وفي مقدمة ذلك إنشاء مكتبة في المنزل تتوفر على كتب ومجلات متنوعة تلائم ذوق الطفل ومرحلته العمرية. إذ المضمون المفيد لا يكفي وحده لإثارة اهتمام الطفل. ولذلك يتعين على واضعي الكتاب المدرسي العمل على جذب انتباه الصغار عن طريق الاعتناء بأسلوب العرض والإخراج مثل استعمال الحروف الكبيرة والألوان المناسبة وتزيين الكتاب بالصور والرسوم التوضيحية. ويمكن الاستعانة في هذا المجال بالإمكانات الهائلة التي تتيحها تكنولوجيا المعلومات.

القراءة والمدرسة:

ما من شك أن واقع التعليم، كما تشهد على ذلك أوضاع المدرسة المغربية، لا يساعد على تحقيق مجتمع المعرفة بوصفه مشروعا مجتمعيا ترنو إليه القوى الوطنية الحية في هذا البلد. إذ كيف يمكن المراهنة على المدرسة لتحقيق مشروع نهضوي  طموح في ظل منظومة تربوية تقف عاجزة أمام تراجع مهارة القراءة والكتابة لدى المتعلم بسبب عوامل عديدة ومتنوعة لا يتسع المجال هنا لتفصيل القول فيها. وإن كنا نستطيع أن نشير، في هذا المقام، إلى عاملين اثنين لا نتصور أن تقوم للمدرسة المغربية معهما قائمة رغم كل مقترحات الإصلاح التي يمكن أن تتعاقب على منظومة التربية والتعليم. يتعلق الأمر بالاكتظاظ في المدن والأقسام المشتركة في البوادي. فمن المسلم به أن تمهير التلميذ على القراءة يتطلب غلافا زمنيا ملائما يسمح بتدبير أنشطة القراءة وترسيخ مبادئها في أذهان الناشئة. إذ تتحدد وظيفة القراءة المنهجية بالتعليم الثانوي التأهيلي في كونها "إجراء ديداكتيكيا هدفه تصحيح مسار المتعلم القرائي وتنمية رصيده الثقافي وقدرته على الانتقال من فك الرموز والعلامات اللغوية إلى تحليل الخطاب وتفكيك مكوناته"[6]. إذ تتركز الممارسة البيداغوجية في المدرسة على المناهج التي توظف في تحليل النصوص وتفسيرها من دون التفات في الغالب إلى الأعمال الإبداعية في حد ذاتها. مما يدفع الطلاب إلى النفور من درس القراءة لأنه لا يستجيب لأفق توقعاتهم. 

من أجل تشجيع التلاميذ على القراءة يتعين اختيار نصوص تثير فضولهم  وتلبي رغباتهم، لأن فعل "قرأ" لا يتحمل صيغة الأمر[8].

وما من شك أن ربط القراءة بالمتعة كفيل بأن يدفع طلاب المدارس إلى الإقبال على القراءة، لأن الغاية النهائية من التواصل مع النصوص والخطابات أن يجد فيها القارئ "معنى يتيح له فهما أفضل للإنسان والعالم، وليكتشف فيها جمالا يثري وجوده، وهو إذ يفعل ذلك، يفهم نفسه فهما أفضل"

[2] - عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، المركز الثقافي العربي، البيضاء، ط 5_ 2006، ص: 43.

[4] - وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر (المملكة المغربية)، البرامج والتوجيهات الخاصة بسلك التعليم الابتدائي، شتنبر،2011،ص: 19

[6] -دنيال بناك، متعة القراءة، تر. يوسف الحمادة، دار الساقي، بيروت، ط1- 2015ص: 72

[8] -عباس محمود العقاد، أنا، المجموعة الكاملة، المجلد الثاني، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1- 1982 ص: 103

[9] --تزيفتان تودوروف، الأدب في خطر، تر. عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، البيضاء، ط1- 2007، ص: 15

وسوم: العدد 875