تأملات في واقع زمن الكورونا

للتفاح رائحة الديون في زمن الكورونا، وللأجَّاص طعمها، وللكلمنتينا لونها، مئات مليارات الدولارات ينفقها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي وغيرهما مما لا أذكر من البنوك المركزية لشراء السندات التي توقعها الولايات المتحدة والدول الأوروبية في الأسواق المالية لتمويل نفقات حرب تدور رحاها بينها وبين فايروس جيوشه قتلت من الأمريكيين أكثر مما قُتل في حرب الفيتنام ومئات الآلاف في العالم، فأين جيوش وأساطيل أمريكا وغرب لم يعد يتباهى بها نجمان؟ أين نظام عولمة ينهار في عقر دار الذين أقاموه كبيوت النمل تحت النعال؟ أين مواقع نفوذ في الشمال قبل الجنوب تحطمت في عدة أيام؟ يبدو أن أمريكا لم تتعلم من درس الكورونا شيئًا، فها هو احتياطها الفيدرالي يقوم بتمويل العملة السائلة للبنوك لتقوم البنوك بدورها بتمويل الشركات والأفراد، وللحيلولة دون الإفلاس يقوم الاحتياطي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي وغيرهما مما لا أذكر من البنوك المركزية بحقن النقود كإبر المورفين للمعذبين من الكورونا، المعذبين، فقط المعذبين دون هوية وللإنسانية صارت هوية واحدة هي اللاهوية، فتكون ديون على ديون، ولا بأس من خطر فقاعة محدق، ولا ضير من كراش ليس قبله كراش ولا بعده، يدمر هذه المرة الحضارة الغربية، ولا يبقي منها سوى برج إيفل وساعة بغ بن وتمثال الحرية بين الأطلال! لقد تضاعف دين الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في عشر سنوات ليصل إلى أكثر من 000 22 مليار دولار في العام الماضي.

البنوك المركزية تمامًا كالاحتياطي الفيدرالي تعمل عمله في نظام مالي عماده الديون والمديونية، إذن ليش كل هالتعب؟ بكل بساطة يتم محو الديون كلها، ويجري تعميم الدولار في العالم كعملة واحدة للعالم، بما أنه العملة الوحيدة المستعملة في التبادل التجاري، وبما أن باستطاعة الاحتياطي الفيدرالي تحويل الدولار الذي يطبعه مقابل قيمته التبادلية إلى حسابات الشركات والأفراد مباشرة بدلاً من جعله قروضًا للدول لتقوم هي بالمهمة، وبالطبع لن يكون ذلك دون مقابل، مقابل ذلك سيكون الاستثمار والعمل، ومن يقل العمل والاستثمار يعنِ التطور والرخاء، وهذه المرة التطور للدول المتطورة وللدول المحرومة من التطور، للعالم أجمع، إنها إحدى معجزات زمن الكورونا، فتلعب أمريكا دورها الاقتصادي الجدير بها كقوة عظمى أولى في العالم تتجدد بإنسانية اقتصادها وعدالته، إنه دور دولارها الموحد الذي بنظامه الجديد هذا سيحول دون انهيار اقتصادات الدول الغربية، وسيعمل على التسريع في نهوضها من جديد، نهوض مرتبط بنهوض العالم.

لكن لهذا الدور شروط سياسية تفرض في زمن الكورونا المبدأ الجوهري القائل بالتفاهم لا بالتواجه، فعقلية الاستئساد في البيت الأبيض التي كانت سائدة تزول أمام عقلية الاسترشاد بوسائل جديدة وطرق جديدة وأدوات جديدة موائمة لبنى جديدة، فلا مكان للشيزوفرينيين القدامى ولا للعملاء الصرامى الذين ينتمون إلى زمن انتهى، لأن زمن اليوم هو زمن الدولار الواحد، العملة الواحدة، الاقتصاد الواحد، وهو وحده الذي يفرض إرادته على العالم ليفرض العالم إرادته على الفايروس، وبهذه الإرادة تنتصر أمريكا للحقوق الوطنية والحقوق الإنسانية لكافة الشعوب، فليست الإنتاجية هي المعيار كما هو حالها أمس، حال أوروبا، وحال الصين أمس واليوم التي تسعى إلى إنتاج أقصى ما تستطيع عليه، بينما تحديد الإنتاج هو إحدى ضرورات زمن الكورونا، ما عدا الضرورة الصحية، فالإنسان لا يُختصر بحاجاته الاقتصادية، الدافع الأساسي لإمبريالية الصين، التنين الذي سيبتلع العالم، وكل ما يبديه حكامها من قوة ناعمة ما هو إلا لذر الرماد في العيون.

وسوم: العدد 877