مملكةُ التَّقوى

عنوانٌ ماأجمله، ومسمىً ماأعظمه،ومُدُنٌ ماأبهاها،وغايةٌ ماأسماها،أجل هي مملكةُ التَّقوى..!! وماأدراك ماهي ؟؟

تلكَ الَّتي تُنشئُها أنت في نفسك... وتبنيها أنت في ذاتك... وتعمرُها أنت في قلبك... وتقيمها أنت في حناياك... وترعاها أنت في فؤادك ... تلك التي تبدأُ كحُلُم فترعاها وتحرثها وتسقيها وتبنيها وتزينها وتجمِّلها إلى أن تضحي بكدِّك وجِدِّك، وعَرَقك وجُهدك، وصلاحك وبِرِّك، قصوراً وأنواراً، وجِناناً وأنهارا.

تلك التي تبدأ مع المرء منذ صِغَرِه في حُسن تنشأته من والديه، والعنايةِ به ، وسلامة توجيهه ، وتربيته التربية الإيمانية على حبِّ الله وحبِّ رسوله، ليقوما بتهذيبه وتأديبه لتكون مكارم الأخلاق مفرداته وأدواته، ومحاسنها حروفُهُ وكلماته ،لتبتدأ رحلته في الحياة على حسب توجيه والديه ، وعلى نسق تأديبهما له، ووفقاً لمعطياتٍ أسُّها تربية والديه وماغرساهُ فيه، وطبقاً لطريقة تفكيرهما وماربياه عليه، وماأعظم صلاح الوالدين لنستمع هاهنا إلى رهين المحبسين  أبي العلاء المعري رحمه الله وماأبلغ مايقول في ذلك:

إنَّ من توفيق الله للفتى أن يُهيأَ للمرء منذ طُفولته أسباب الهداية والصَّلاح ، ويُنشَّأَ عليها ،ليُروى من معين الإيمان ويستنير بأنوارالرحمن، ليعيش بظلال القرآن وأيّ هدايةٍ وظلالٍ وارفةٍ في آياته ،وماأعظمها من نعمة في العيش معه، وأتمها من فضل ، ويانِعِمَّا الأبوان الصَّالحانِ لهذه المهمَّة العظيمة  ليكونا للأبناء نعم العون والزاد ،ليعيش الفتى مرتوياً من فيوض الإيمان ،غارفاً من معين التقوى ، مستصحباً مراقبة الله في جميع أموره ،ليعيش مع الله في كل حالاته والعكس بالعكس، ألم يُشِرْالرسول صلى الله عليه وسلَّم إلى ذلك

 فقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

 (كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه )صحيح ابن حبان

فللوالدين الدَّور الأكبر والأعظم في صلاح المرء وتوجيهه نحو طريق الهدى وسعادته منذ نعومة أظفاره وذلك في إرساء هذا الصَّرح العظيم  من القيم والمُثل ،والإيمان والأخلاق سعياً لبناء تلك المملكة العظيمة في كيانه وأحاسيسه ، وجَنَانِه وقلبه، وذلك بحسن تنشأته وتأديبه، وجمال تربيته وتوجيهه، حيث يُعَمِّرُ الأبوان الصَّالحان  قواعد البنيان في  كيان ووجدان أبنائهم ، ويُرسون أصول الإيمان فيهم ، ويغرسون جذور الصلاح والتَّقوى عندهم، بحسن رعايتهم وعنايتهم لهم .

 من هنا يأتي الدَّور الأهم والمهم في الحياة للمرء وذلك في  حسن اختيار الزوجة ،شريكة الحياة ، ومفتاح السَّعادة ، ومربية الأبطال، وحاضنة الرجال ، وصانعة الأجيال وهي والله السَّعادة كلُّ السَّعادة إن وُفِّق المرء في الاختيار، حيث تكون  له نعم العون والسَّند في ذلك لترفرف طيور السعادة له ولها ولأولاده في بيته ودنياه ثم لتمتدَّ السَّعادة إلى الدَّار الآخرة أجل ، وهي والله بحق المنحنى والمنعرج الخطير للمرء في حياته، لذلك أرشد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم  لحسن اختيار الزَّوجة كما روى الصحابي الجليل أبوهريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال

«تُنكَح المرأة لأربع؛ لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك»أخرجه البخاري

ومن ثمَّ بعد ذلك يأتي دور المرء في بناء قصوره ومملكته وذلك باتباع سبيل الهدى واستقامته على الدَّرب وثباته عليه ، ليعيش سالكاً درب النور في حياته ، متوكلاً على الله في مسيرته ،مطيعاً لله ورسوله ،معتصماً بالله سائلاً إيَّاه أن يثبته ،ليمضي في هذه الرحلة ،ونسأل الله سبحانه أن يهدي قلوبنا ويجعلنا ممن يُصدِّق بالحسنى والمولى سبحانه يقول في محكم التَّنزيل :"والَّذين اهتدوا زادهم هدىً وآتاهم تقواهم" محمد 17

  وهي رحلةٌ ماضيةٌ كلُّ امرئٍ يمضي فيها بطريقته،وتعلو فيها قصوره بحسب تصوره، ويرتفع فيها بنيان مملكته بحسب كدِّه وكدحه، وسعيه واجتهاده،فإذا كانت رحلته على هدىً ونورٍ من الله فيانعمَّا هي ...وياروعة الجنَّات... وسييسر الله سُبُلَ الحياة الصالحة  لمن سار على الهدى وأخلص وكَدَّ، وجاهد نفسهُ وجَدَّ ،والمولى جلَّ في عُلاهُ يقول :(وما كان الله ليضيع أيمانكم إنَّ الله بالنَّاس لرؤوفٌ رحيم)البقرة143

{وما ينبغي له ولا يليق به تعالى, بل هي من الممتنعات عليه، فأخبر أنه ممتنع عليه, ومستحيل, أن يضيع إيمانكم، وفي هذا بشارة عظيمة لمن مَنَّ الله عليهم بالإسلام والإيمان, بأن الله سيحفظ عليهم إيمانهم, فلا يضيعه,}(تفسير السَّعدي)

 وأمَّا إن كانت الأخرى والعياذ بالله ،وسار المرء على هواه، وعلى غير هدىً من الله ،فسيكون ماجناه وبناه في دنياه وإن كان ساعياً فيها كبيت العنكبوت ،وإن كانت له قصور الدُّنيا... ونال أعظم الشهادات فيها ،وحاز على أعلى الدرجات العلمية فسعيه هباء ....وعمله خواء....لأنه قطع صلته بالسَّماء ... وإنَّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت لوكانوا يعلمون فهي كما قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم

"كُلُّ النَّاسِ يَغْدو، فَبائعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقُها أَو مُوبِقُها"؛ رواه مسلم

فالناس في حالين أولاهما أن يبيع نفسه لله فيعتقها من النارأوأن يبيعها للشيطان وهواه والعياذ بالله فيهلكها ويدخل النار،فأمَّا إن كانت الأولى ويانعمَّا سبيل الهدى فهي مملكة الرضا والطمأنينة والنور والسعادة، ماأجمل مافيها ، وماأرحب قصورها ،وأبدع جناتها، وأبهى رياضها يعيش الإنسان فيها في سعادةٍ غامرةٍ ويقين ، وراحةٍ واطمئنان ،وسلامةٍ وأمانٍ، وأمنٍ  وسلام مع نفسه وروحه ، مع أهله وأقاربه ، مع صحبه وجيرانه، مع قومه ومجتمعه.

والحقيقة أنَّ التأسيس الإيماني ،والرعاية الصالحة ،وحسن التوجيه والتربية ،والاستعانة بالله على ذلك، والدعاء للأبناء بالصَّلاح فإنَّ هذا ستكون له عواقبه الجميلة على الجيلُ وسيكون على خيرٍ بإذن الله  ثم ليأتي بعد ذلك الدورعلى المرء في إتمام الأساس وتكملة البنيان ، ليمضي في طريق الحق والنور والسعادة ،رافعاً بنيان قصوره  باتباع تعاليم الدين القويم ،متحلَِّياً بمكارم الأخلاق ،ساعياً دائماً إلى تزكية نفسه ليكون معها حتى آخر نَفَسٍ في جهاد ويعمل على تحلية قلبه ، وتجلية فؤاده،وتنقية صدره، لترى في حناياه برعايته وعنايته وصلاحه ومجاهدته قصوراً عامرة ، وبساتين فواحة ، وجٍناناً ماأبهى ورودها ،وأعذب نسائمها ،

وهذه له في الدنيا ثمرةٌ عاجلة وهي أعظم وأبهى من كل ماعلى الأرض من قصورٍ، وقلاع ،وبروجٍ ،وناطحات أجل ....فجنَّة المرء في قلبه ،وبساتينه في صدره، وقصوره في فؤاده، ومملكته في حناياه وجَنَانه، أما في الآخرة فالعيونُ والحور، والبهجة والسُّرور،والأنهارُ والجنَّات ، والنُّعيم المُقيم، في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر 

ليس هذا فحسب ومعها كما قال المولى سبحانه:

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ۚ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}الطور (21)

جعلنا المولى من هؤلاء الذين بنوا قصورهم في قلوبهم وأشادوا مملكتهم في صدورهم ومن أهل التقوى وأهل المغفرة والحمد لله رب العالمين

وسوم: العدد 877