في تكون العقل السياسي: التحرر من العقل الصفري ..

والعقل الصفري هو العقل الذي إن لم تحرز عنده الدرجة العليا قضى عليك بالصفر المكعب .

في القرآن الكريم حديث عن السابقين السابقين ، وعن أصحاب اليمين . ثم في موضع ثالث عن رجال خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، وعن قوم مرجوون لأمر الله ، وعن رجال على الأعراف ، لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون ..!!

والحكم عند الصفريين هؤلاء إما أن تكون في الدرجات العلى من الجنة أو في الدرك الأسفل من النار . وإما أن يكون ثوبك مثل ثوب الصحابي ، وسواكك من عود آراكه أو لا تكون ...

ويظل صاحب العقل الصفري  يعدد على العاملين أخطاءهم ، وينسى : كفى بالمرء نبلا أن تعد معايبه . يريد سهمك دائما في الدائرة السوداء ، وينسى سددوا .. وقاربوا ..

يبقى كل أصحاب المعادلات الصفرية والعقول الصفرية ، في فضاء نظري محكومة دائما بالرفض ، والسخط والتسخط والنقمة ، غير قادرة على إنجاز شيء .

تقدير المصالح والمفاسد ، وإدراك أعظم المصلحتين أو أدناهما ، وكذا المفسدتين ، هو الفقه العملي المقارب ، الذي قال شيخ الإسلام ابن تيمية : إن الرجل لا يكون فقيها حقا حتى يتملك مناطاته . بكلمتين نستطيع أن نوجز فنضع العقل المقارب في مواجهة العقل الصفري . العقل المقارب هو العقل الذي يقبل ويرفض على نور وهدى ودقة في الحساب . وكل نقلة أو خطوة تقربك من هدفك القريب أو البعيد هي نقلة على الطريق.

وأقوال مثل كسرت كعوبها أو تستقيما . ولنا الصدر دون العالمين أو القبر ، تصلح لمجالس الانتشاء ، وليس لمجالس الفعل السياسي ، والمقاربات البنائية .

أن نتصور دائما أن المسلم في كل عصر نسخة طبق الأصل عن أبي بكر وعمر يتنافى وحقيقة أنه في جيل الصحابة نفسه لم يكن غير واحد في مقام أبي بكر وواحد في مقام عمر ، ومثله في مقام عثمان وعلي وبقية العشرة وثلاث مائة من أهل بدر وعدد محدود من الذين بايعوا بيعة الرضوان ..!!

ونعود إلى محضن التربية الأول ، وجهد محاضن التربية ومؤسساتها في تربية الجيل على " المثال " وليس على الواقع المقارب .

التربية على الواقع المقارب تقتضي الاعتراف بحاجات الناس ومصالحهم ، وما يدخل الفساد إلى حياتهم الفردية والجماعية ، السياسية والاقتصادية والاجتماعية ..

بل إن وضع أسس لتربية عصرية رشيدة  يقتضي إعادة ترتيب ما يسميه الفقهاء  "الضرورات والحاجيات والتحسينات " في ظل واقع تغيرت كثيرا من معالمه وملامحه ..

في واقعنا السياسي نرى جمهورا من أبناء المسلمين يحكوموننا بعقل صفري ، ولعله صورة مستنسخة من عقل الخوارج . وتعليم هؤلاء وإرشادهم أولى من نبذهم أو التنديد بهم ، أو الاختلاف معهم .

والكلام الذي يمكن أن يقال على الصعيد الاجتماعي أبلغ وأبعد وتطبيقاته أكثر حرجا.. فيما نتوقعه ونرجوه . ففي حياة المسلمين اليوم  مواضعات اجتماعية ، تتلبس ثوب القداسة وما هي إلا مواضعات أزمنة خلت ، كان الفقهاء فيها أكثر جرأة على التحديث والتجديد.

وعلى الصعيد الاقتصادي ، والصعيد العلمي ، وترتيب منظومة العلوم ...معطيات كثيرة ومتشابكة شاركت في محاصرة عقل الجيل المعاصر في أفق صفري لا يقبل من مخالف  ولا من مقصر صرفا ولا عدلا .

في علم التربية نقول : لتغيير المخرجات عليك التحكم في المدخلات . وربما مدخلات كثيرة في تربيتنا وفي تعليمنا وفي تثقيفنا الديني والمدني ، يحتاج منا إلى إعادة دراسة وتمحيص وغربلة ونخل وتحقيق وليس فقط إعادة ترتيب .

هذه العقول التي أعيتنا قد تخرجت من فضاءات أسرنا ومن مدارسنا ومن مساجدنا ومن الجلوس أمام أجهزة إعلامنا ..

تقول لصاحب العقل الصفري فلان صديق . فيبادرك بتعداد زلاته وأخطائه وتقصيره و.. و... وتدرك أنك لم تشرح له جيدا يوم حفّظته :

ولست بمستبق اخا لا تلمه .. على شعث أي الرجال المهذب ؟!

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 881