المقدمة للمجموعة الشعرية (الانهيار) للشاعر المختار بلقاضي

ماهية الشيء هي ما به يكون هذا الشيء هو هو أي ما به تكون كينونته وديمومته وصيرورته وسيرورته، فإن خالطه بعض من غير طبيعته ووظيفته، أو مازجه جزء من غير حقيقته وطريقته، انقلب إلى التشكل الذي يفسد جوهره، وارتد إلى التخلق الذي يتلف مظهره، فإذا هو متبلد من بعد التفرد، متاهلك من بعد التماسك، وأي شيء يبقى للشيء من بعد فقدان الهُوية ونشدان الهَوية؟ ولقد نظر أهل العلم بالشعر في الشعر، فألفوه متفردا بوجوده، متوحدا في شهوده، غير قابل لأن يتبلد أو يتبدد أو يتعدد فيما ليس من أمره وخطبه، وسرده ودأبه، وليس لأحد، وإن كانت قدرته لتبهرالأبصار، وتملك الأمصار والأعصار، أن يغير فطرة الشعر أو يبدل وجهته، فإن فعل ارتدت إليه فعلته مثلومة مدحورة، مصرومة مقهورة، ذلك بأنه رام من الأمر محالا، فلم يستقم له الأمر مقاما ومقالا. لقد نظر أهل البصر بالشعر إلى الشعر فوجدوه شعرا مشعورا، ولحنا موقعا مسموعا ومنظورا، ورؤى ملمومة في معانيها، منظومة في مبانيها، وصورا موسومة بما أوحت به من الكلمات، وغررا معلومة فيما تجلت فيه من الوثبات، ودررا مقامها قد تبدى بين الحركات والسكنات، فهو شاهد وشهيد على الإبداع والإمتاع، بما يتردد من ألحانه وألوانه في الأسماع. وليس ما نذكره ها هنا مما له صلة وثيقة بالشعر، إلا ما اجتمع الفحول على تحقيقه وتوثيقه في الطبع والفطنة والذكاء، وهي الشرائط التي إن خلا منها شعر، أو أقفر منها شاعر، كان الشعر هذرا، وكان الشاعر صفرا. ولله در من فطن من علمائنا ونقادنا القدامى، إلى أن الشعر ذكاء وفطنة وطبع أولا، ورواية ودراية ودربة ثانيا. فمن أوفر من الشاعرين في شعره هذه الحقائق، كان هو الشاعر الذي يأتي بالدقائق والرقائق، في الوجهة التي اختارها، والطريقة التي أدرك أسرارها، فهو يحدث أخبارها، من غير تصريح بالكشف والريادة، أو تلميح إلى الفتح والسيادة، لأنه لا مجال في الشعر للشاعر الفرد الذي إذا طلع غابت الشعراء، ولكن المجال للشاعر المبدع الذي يفي لذاته، فيكون هو هو إذ يشعر وإذ يكتب، وإذ يلقي ما هو ملقيه من الأصوات والأصداء، والتموجات والإيقاعات، في نسيج يشهد له بالإبداع في ميدانه. ويبقى بعد هذا وذاك هذا الحق الواجب، ومؤداه أن لكل شاعر وجهة هو موايها، وأن الحكم له أو عليه إنما يكون ابتداء من هذه الوجهة، وانتهاء إليها. ولقد قدر لي أن أشهد أمسية شعرية كان المختار بلقاضي هو سيدها وصاحبها، ومالك الأمر فيها، فدنوت وأصغيت، وتدليت ووعيت، وطلعت على من شهد مثلي القصيدة تلو القصيدة، أن قد ولد في وجدة شاعر يملك من الفطنة، التي تمكن له في الشعور تمكينا معلوما بصفاته، موسوما بسماته، نصيبا موفورا. فالدخول الدخول في أشعاره إنه من يدخل أشعاره يجد فيها من الشاعرية حظا غير ممنون، ومن القدرة على الإتيان بالمعاني الغراء، والمباني العذراء، القدر الأوفى، ذلك بأنه الشاعر الذي وفى لفنه فأوفى واستوفى في مجال هو مجال الأذن الواعية، والقدرة البانية، ودونك أشعاره، فإنك واجد فيها هذه البداية التي لا مهرب منها ولا مفر، لمن شاقه في الشعر حظ ومستقر، وأقصد بها أن يدخل من آنس من نفسه ميلا فطريا إلى كتابة البيوت أن يدخل البيوت من أبوابها، فيبدأ بقراءة الشعر عيونه، ودراسة الكلم ضروبه وفنونه، فإذا رسخت قدمه في الموزون والمنظوم، واستوى عالما في الموسوم والمعلوم، كتب على بينة وبصيرة، ولم يخبط في الظلماء كمن لا نور له. ولقد بدأ الشاعر المختار بلقاضي من الأول فاستوى له في الخضم طريق يبس هو سالكه، لا يضل فيه ولا يشقى. يدلك على ذلك أيها القارئ ما تثقفه في شعره من القدرة والاقتدار على الجمع بين القديم والجديد في وعي مشدود، وفهم مشهود، وما تظفر به في كتابته من المزاوجة بين العتيق الطريف، والحديث الوريف، بالحكمة والعقل والعدل، فلا صدام ولا خصام، ولا افتعال للمعاكسة والمشاكسة، ولكن سير في الطريق اللاحب بالذي هو متهيئ من الطبع والذكاء والدراية والرواية والدربة، وقليل من الشعراء في عصرنا من رزق القدرة على كتابة القصيدة التقليدية، والقصيدة التجديدية، فلا يبور له سعي، ولا يخور له جهد، ولا يتقطع به سبب، ولا ينقطع له نفس. قليل من الشعراء من فهم أن وعي القديم هو البداية الحق لكل جديد، أما التعسف والاعتساف، والتجرؤ والانحراف، فمضيعة للأمر، ومفسدة للشعر، والشعر بعد هذا وذاك كما قال من حكك الشعر وثقفه ''صعب وطويل سلمه''، علم الشاعر المختار بلقاضي، من بعد أن آنس من نفسه آية الشعر، أن الطريق إلى الكتابة إنما يبدأ من شيء اسمه القديم، فكان له هذا الاقتحام المعرب بثلاث مجموعات شعرية انتصبت أولا ثم ارتفعت بعلاماتها، فلا خافض لها في المعترك الشعري، من بعد أن سلكت إلى بغيتها الطريق الأقوم، فكان لها ما أرادت من الولادة التامة، وكان لها أن أفصحت عما فيها من الرؤى والصور، أن اهزجي يا ربة الشعر بأعذب الغناء فإن أعذب الغناء ما كان من العناء في حر البلاء، واقطفي ثمار الشعر النورانية من غابة الذات التي اشتعلت حتى الانطفاء، وانطفأت حتى الاشتعال فكانت آية من الآيات بما تجلى من أسرارها، وتدلى من اخبارها، بل كانت آية من الآيات فيما تبدد من إعسارها، وتجدد من إصرارها، على المدى الذي يمتد من الهمة في أزهى ما عندها من العطاء والهبات، وترتد عنه الغمة في أدهى ما لديها من النعوت والسمات. إن هذه المجموعات الشعرية، وكتبها الشاعر المختار بلقاضي، ثابتة في تجربة شعورية واحدة ليس هذا المقام مقام كشف الغطاء عنها، وبمكنة القارئ معرفتها من آثارها في النسيج النصي النصاني الذي يتجسد جماله أولا، فيما يجده هذا القارئ من لذة نفسية، ومتعة جسدية، وهو يتداخل في عوالم النص الشاعرية، ويتمثل ثانيا، فيما في هذه العوالم من أدبية تمثل حقيقة ملموسة يدركها البصر، من بعد أن تثقفها البصيرة، في حالة من حالات التوحد الجواني الذي يكشف عن الأسرار، أسرار المنظوم من الكلم، والمرموق من الصور، والمرسوم من الرؤى، والمتخلج من الحالات، والمتوهج من المقامات، والمتبلج من العبارات والإشارات. وليس للقارئ في الحال والمآل إلا أن يخوض الغمر فيغشى هذه المجموعات ميمونا طائره فيعرف أولها وآخرها، ظاهرها وباطنها، فإن أشعارها، وقلت هذا سابقا، مستوحاة من تجربة واحدة يفي لها الشاعر ويمكنها من قلبه وعصبه، فإذا هي حين الكتابة إشراق من الإشراق، مختلفة ألوانه، متعددة أبعاده، شهية ألحانه، غنية أمداده.ولا تحسبن أن هذه التجربة الواحدة موقعة الشاعر في الترداد والتكرار، مغلقة الأبواب حوله دون الارتياد والاقتدار، بل هي التجربة التي ملكت ثراء في الرؤى والصور، ونماء في الجنى والفكَر، ولا تتأتى هذه التجربة بوفرة حالاتها، ومقاماتها ومقالاتها، إلا لشاعر لم يطلب الشعر، ولكن الشعر سعى إليه. فليفرح الشاعر المختار بلقاضي بالشعر، فإن الشعر قدره الذي لا يدفع.

وسوم: العدد 916