في ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم

(1/5)

ما أطل شهر ربيع الأول من كل عام؛ إلا وجاء يحمل معه ذكرى أثيرة غالية، يعتز بها كل مسلم ويهفو إليها، وهي ذكرى مولد الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- تلك التي كانت بدايةَ فجر سعيد طلع على الدنيا، وبزوغَ هداية أنقذت الناس من الضلال والفساد والحيرة، ومشرقَ حضارة كريمة عاطرة لم يعرف العالم مثيلاً لها قط، وإيذاناً بقيام دولة الحق والعدالة والمساواة، والمجتمع الراشد الأمثل.

وإذا كان العظماء يقاسون بمقدار ما استطاعوا أن يحققوه في الواقع من العطاء المبارك النافع، فإن عظمة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- بهذا المقياس الصحيح، هي العظمة الخالدة الكبرى، التي تتقطع أعناق جميع العظماء دونها، ويظلون في غاية العجب والدهشة والإكبار، وهم يمعنون فيها، ويستجلون كنوز عبرها ودلالاتها، ويتوقفون عند أبعادها الشاسعة، وأمدائها الواسعة، وغناها الذي لا ساحل له.

وإنها لكثيرة جداً تلك النتائج المباركة التي حققها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في دنيا الناس فأفادهم ونفعهم، وبيّن لهم السبيل القويم، وجنّبهم السوء والأذى، والشرور والمهالك، وقادهم إلى طريق سعادتهم في دينهم ودنياهم.

إنها كثيرة جداً تفوق قدرة المرء الذي يحاول إحصاءها، فهي أكبر من طاقته وإمكاناته، وإذن؛ فإن له العذر إذا حاول التوقف عند بعض المعالم الكبرى من هاتيك النتائج، وعفواً إن فعلتُ ذلك، فالموضوع ضخمٌ عظيم، وحسبنا أن نجوب في بعض عطائه المبارك.

أول نتيجة كبرى من نتائج دعوته -صلى الله عليه وسلم- هي ذلك الجيل الرباني الفريد الذي رباه رسول الله -صلى الله عليه وسلم. لقد كان هذا الجيل أعظم جيل عرفته البشرية على الإطلاق، صحيح أن الأمة الإسلامية، ظلت طيلة عمرها، تُخرج من أبنائها مَنْ فيه مشابه كثيرة من صفات ذلك الجيل، في شتى ديار الإسلام، وعلى اختلاف الظروف والأحوال، ولكنْ صحيح كذلك أن ذلك الجيل الرباني الفريد لم يتكرر وجوده جماعة، وإن تكرر وجوده أفراداً. وهذا دليل قاطع على عظمته -صلى الله عليه وسلم- وكريم نتاجه المبارك الميمون، يظهر أول ما يظهر في ذلك الجيل العجيب الممتاز، الذي غلب في نفسه أهواءها بادئ ذي بدء، ثم انطلق من بعد ذلك ليغلب العالم وليفتحه على بركة الله، وفي سبيل الله.

والدارس لحال ذلك الجيل الأول، وعظمة آثاره في الأرض، وغناها وكثرتها وعمقها كذلك، وما فيها من تفوق نفسي باهر، وارتفاع إلى أقصى وأسمى درجات الكمال الإنساني، يجد نفسه أمام فيض زاخر من المواقف والأخبار والمعلومات تتصل به، هي ذروة التفوق البشري على الإطلاق، ولربّما ظن المرء بها المبالغة، لولا التوثيق الدقيق لتلك الأخبار، وهو توثيق علمي ممحّص يتحدى أدق معايير النقد التاريخي، ولولا قناعته أن الإيمان صانع الأعاجيب.

كذلك كان المجتمع المسلم الذي أرسى دعائمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثمرةً من أعظم ثماره المباركة الكريمة. لقد كان ذلك المجتمع، أعظم مجتمع عرفته الدنيا، وكانت معاني الكمالات الإنسانية أصلاً عميقاً فيه يكاد يكون الصفة الأساسية لجميع أفراده.

ولقد حقق هذا المجتمع –من جملة ما حقق– مبدأ المساواة تحقيقاً عملياً ليس له نظير، وأشعر الناس بكرامتهم وعزتهم وحقوقهم، حتى كانت المرأة تتصدى لعمر بن الخطاب وهو على المنبر، وهو أمير المؤمنين فترد عليه، فيقول: أخطأ عمر، وأصابت امرأة!.

وحقق كذلك –من جملة ما حقق– مبدأ العدالة، وأرسى دعائمه، حتى لم يعد ضعيفٌ يخاف أن يُسْلَبَ مالُه وحقُّه، ولم يعد قوي يطمع في العدوان على الآخرين، وخضع الجميع لشرع الله تعالى وهدي نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام.

ولقد كان هذا المجتمع المسلم، بداية حضارة مشرقة نادرة، أخذت تمتد مواكبها وتتسع، وتتدفق عطاياها وتنتشر، حتى شرّقت وغرّبت، وأسدت للإنسانية جميلاً رائعاً لا يُنسى، وكانت معاقلها الكبرى في دمشق وبغداد، والقاهرة وقرطبة، منائر هدي ونور وعرفان في شتى المعارف من علوم وفنون.

وإن حضارة القرن العشرين، تدين في كثير من جذورها الكبرى السليمة إلى الحضارة الإسلامية، حيث تتلمذت أوربا على يد المسلمين في الأندلس وصقلية والحروب الصليبية بشكل خاص، وأن المنهج العلمي التجريبي الذي يقف اليوم وراء منجزات العصر؛ إنما هو من عطاء الحضارة الإسلامية كما يشهد بذلك عدد من منصفي الغرب.

وبعد؛ فما أعظم ما قدمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للناس!.. وما أكرمه وأنفعه!.. إنه العطاء الذي ليس له مثيل قط، وإنها العظمة التي تبدو كل عظمة أخرى إزاءها ضئيلة صغيرة محدودة.

  في ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم

(2/5)

يحمل إلينا ربيع الأول في كل عام، ذكرى حبيبة غالية على قلب كل مسلم، هي ذكرى الميلاد النبوي الشريف، التي تعبق بشذاها العاطر الأيام، وتشدو بجمالها وجلالها الأجيال والأعوام، والتي تظل كوكباً دُرِّيّاً في مسيرة الزمان، ونقطة تحول كبير، ونقلة ضخمة في تاريخ الحضارة والإنسان. ذكرى كريمة غالية، ما أكثر ما وقف عندها القُصّاص والكُتّاب، والأدباء والفصحاء، والشعراء والمؤرخون!.. يستنبطون منها العبر، ويستخرجون منها الدروس، مأخوذين بعظمتها وغناها، وسعتها وتفوّقها، ثم لا يَبْلى الحديث، ولا تتوقف الأقلام، ولا تنضب القرائح، ويظل الكلام جديداً وأثيراً وغالياً، وتظل النفوس تهفو إليه، وهي دائماً تطلب المزيد. ويظل الموضوع قادراً على أن يفتّق أبواباً من الحديث لا نهاية لها، ويظل قادراً على العطاء الدائم وكأنه المنجم البكر والغابة العذراء.

ونحن نقف اليوم، وقفة المعتبر بأحداث التاريخ، المعتز بعظمة ومجد الإسلام، وجلال وشموخ أمة الإسلام، المفتخر بالانتماء إلى سيد الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- نبياً ورسولاً، وقائداً وزعيماً، وقدوة وأسوة، المتمسك بالدين العظيم الذي جاء به، والقرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى عليه.

وتنثال على المرء العبر والذكريات، وتتسع به طرق الحديث وتتشعب، ويجد نفسه أمام بحر زاخر إزاء العظمة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فيتوقف بعض الشيء فيما يذكر من ذلك.

أيذكر يوم الميلاد وما ترتب عليه من نتائج!؟

أيذكر النشأة الطاهرة المبرّأة قبل البعثة بكل ما فيها من تفوق وسمو، وتألق وشموخ، وعظمة وكمال!؟

أيذكر البعثة الطاهرة بما صحبها من جهاد كريم صادق، وتضحية وبطولة، وإخلاص منقطع النظير، ومن نزول القرآن الكريم دستوراً كاملاً ومنهج حياة، ومن هدمٍ لصروح الشرك والطاغوت، وطي لأعلام الجاهلية التي أشقت الناس، ومن حرب للفساد والضلال لا هوادة فيها!؟

أيذكر ما أعقب انتشار الدعوة، وكفاح الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وصحبه الأوفياء الكرام من أجل إبلاغها للناس كافة!؟

أيذكر الهجرة الشريفة وانتصارات الإسلام الأولى في بدر وغير بدر من خالد الانتصارات!؟

أيذكر الإسلام العظيم الذي أعزّ الإنسانية، ورفع كرامة الإنسان، وأقام لها أكرم وأكمل مجتمع بشري أمثل، وحرر المستضعفين والأرقّاء والمساكين، وأشعرهم بقيمتهم الإنسانية كاملةً غيرَ منقوصة، وحقق العدالة والمساواة والتآخي، ونشر الإسلام والتعاون والفضائل، والحرية والعزة والأمان، وما شئت من كريم الفضائل والأخلاق، فإذا بفجر السعادة الإنسانية، تشرق على الدنيا أنواره، وتنمو فيها وروده وأزهاره، وتضوع عاطرةً مُمَسَّكَةً آثاره!؟

أيذكر الدين العظيم الكريم، الذي ربّى أبطالاً وأجيالاً، وشاد ممالك ودولاً، ونشر ألويته في الشرق والغرب، فتُلي القرآن الكريم في الصين، وارتفع الأذان في فرنسا والأندلس، وأقام أعظم الحضارات، وأرسى أشرف المبادئ والأنظمة والقوانين!؟

أيذكر كيف هزَّ دينه العظيم الدنيا جميعاً، فقدّم موازين للتفاضل والتمايز أدق وأصح وأكمل، وضوابط للأخلاق أسلم وأعظم وأشمل، ونظرة للوجود رحيبة واسعة، وتصوراً للكون والإنسان والحياة أغنى وأسمى وأطهر، وطفق يجتاح معاقل السوء والشر في العالم، حرباً على الطغيان والظلمة، والجور والإرهاب، والفقر والتخلف، والجهل والفوضى، والتأخر والجمود!؟

لقد كان المولد النبوي الشريف، على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، مقدمة لهذا كله ولكثير سواه، في غاية الخصب والعظمة والتفوق، كان مقدمةً لانتصارات رائعة ظافرة في عالم الضمير وعالم الواقع، في عالم الفرد وعالم الجماعة، في عالم الأسرة وعالم الدولة، في عالم الحاكم والمحكوم، والحضارة والقانون، والتصورات والموازين، والأهداف والغايات، والوسائل والطرق، والقيم والمثل، انتصاراتٍ في كل هذه العوالم وفي غيرها، وعلى كل الأصعدة والمستويات، انتصاراتٍ حققت للإنسانية ما كانت تصبو إليه من أمانٍ وآمال، وافتتحت لها عهداً جديداً هو أكرم عهودها على الإطلاق.

وفي تاريخ الإنسانية الطويل، كم وُلِد من أكاسرة وقياصرة، وقادة وحكّام، وأصحاب دعوات ومبادئ، ولكن لم تشهد البشرية كلها ميلاداً أجلّ، ولا أعزّ، ولا أكرم، ولا أنبل، ولا أمجد من ميلاد محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم!..

فلقد قاد رسولنا الكريم العظيم مسيرة الحياة، وقافلة الحضارة، إلى حيث الهدى والنور، والصدق والعدل، والتوحيد والإيمان، وكان الرائد الهادي المبارك، لمواكب البشرية الطويلة الزاحفة في تيه الحياة، تنشد النور، وتطلب العدل، وتريد السلام، وتسعى لحياة حرّة كريمة، هانئة آمنة، فحقق لها المصطفى عليه الصلاة والسلام ذلك كله، وقادها في درب السعادتين؛ سعادة الدنيا، وسعادة الآخرة.

ولئن كان الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- قد أفضى إلى ربّه عز وجل، فإن الإسلام العظيم الذي بُعث به، قادر باستمرار على تحقيق هاتين السعادتين للناس، ما استمسكوا به بحق وصدق، ومنحوه ولاءهم الجاد الكامل.

  في ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم

(3/5)

إذا ذكرت الشهور، كان لشهر ربيع الأول منزلة حبيبة خاصة في قلب كل مسلم، إنه شهر العطاء بلا حدود، والخير بدون قيود، وها هي آثار عطاياه وهداياه ماثلة حتى اليوم، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وهذي أواصر قرباه لا ينكرها إلا جاحد أو مكابر أو جاهل، وتلكم وشائج نسبه تشرق وتسمو وتزهو، لا يعتريها لبسٌ أو غموض، وكيف لا يكون كذلك، وهو الشهر المبارك العظيم الذي ولد فيه الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- ليحمل بعد حين من الدهر شعلة الهداية السماوية للناس، بعد أن عصفت بهم الجهالات والضلالات، وباتوا في ليل من الشقاء والفساد طويلٍ بهيم.

وإذا قيست الأزمنة بما تقدم من الخير النافع المبارك، لا بما يدور الفلك خلالها من دورات، فإن شهر ربيع الأول تفتّح عن خير عميم، شمل الدنيا كلها، والبشرية جمعاء ولا غرابة، فقد كانت رسالته للناس كل الناس، في الأرض كل الأرض، وصدق الله العظيم في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107).

ولم يمضِ على الثاني عشر من شهر ربيع الأول من عام الفيل سنة 570 للميلاد أربعون عاماً، حتى بدأت سلسلة جديدة من البركة النافعة، والهدي الكريم، وارتفاع راية الحق، وتدفق أشعة النار، فلقد تنزّل جبريل الأمين عليه السلام، في ليلة رمضانية نورانية مباركة، على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء، ليبلغه رسالة السماء الأخيرة، رسالة الإسلام التي أتمَّها الله عز وجل، وأكملها وارتضاها ديناً أخيراً للناس، هو وحده سبيل سعادتهم الوحيد في دنياهم وأخراهم، ونهض المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، بالأمانة خير نهوض، فجاهد في إبلاغها بكل جهده حتى أتاه اليقين، فانتقل إلى خالقه عز وجل، بعد أن ترك الناس على المحجّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

وإنه لمن الخير المبارك أن تتفتح قلوبنا لهذه الذكرى الكريمة، تمر بنا هذه الأيّام، فلا يكون شعورنا بها شعور الجماد تمر به دورات الزمان، ولكن شعور الإنسان الذكي البصير، ذي القلب الحي الواعي، يلتمس العظة والعبرة والدروس، ويستفيد مما يمر به، ويحدد على ضوء الرسالة الكريمة التي جاء بها صاحب الذكرى -صلى الله عليه وسلم- ملامح شخصيته كفرد، ومعالم أمته كجماعة، جاعلاً من الإسلام نظام حياته، ومن القرآن الكريم دستوره وقانونه، ومن النبي الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- قدوته وإمامه وأسوته. وبذلك يستفيد من الحوادث، ويتفاعل مع التاريخ، وينتفع من مرور الذكرى الطهور.

إن الإحساس الإيجابي الصادق بهذه الذكرى الغالية، هو إحساس بسيرة صاحبها عليه الصلاة والسلام، وهو إحساس بنبل الغاية، وسمو الهدف، وعظمة الطريق، وضخامة المسؤولية، وبأن الغايات الكبار تحتاج إلى رجال كبار.

وهو إحساس بالعظمة الخارقة في عقيدة الإسلام ونظام الإسلام، وكل ما في الإسلام من أخلاق وموازين، وقيم ومُثل، وضوابط وتوجيهات، وهو أيضاً إحساس بهذه المدرسة التي كانت الوحيدة في العالم، عندما قدَّمت آلاف النماذج العملية لما تريد، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكتفِ بتقديم نظريات للعالم، لا تجد مَنْ يحملها، أو يحولها إلى سلوك يومي، بل قدَّم نماذج عملية لكل نظرية، ولكل خُلُق، فكان الإسلام سلوكاً وعملاً، وكان استعلاءً على جواذب الأرض ونوازعها، وكان تفوقاً ضخماً مطلقاً على كل ما سواه، إلى جانب كونه نظريات ومبادئ تقوم على سلامة العقيدة في نقائها وتوحيدها، وسمو التشريع في عدالته وواقعيته، وشموله وغناه.

وأمتنا اليوم، التي تود أن تنهض بعد عثار، وتصحو بعد كبوة، وتتقدم بعد تخلف، وتنطلق انطلاقة الظفر والظهور والغلبة، في جميع الميادين، يحسن بها لتصح مسيرتها ويستقيم أمرها، أن تتحسس مواقعها الفكرية، وأن تمتحن طاقاتها، وأن تقوّم قناعاتها، وأن تصوغ مواقفها، وأن تحدد غاياتها ووسائلها، على ضوء الرسالة المباركة الطاهرة التي جاء بها صاحب الذكرى عليه أفضل الصلاة والسلام، وعليها كذلك أن تمتحن صدق وجدّية ولائها لقائدها وإمامها، وقدوتها وأسوتها، الذي كان لها في ذلك كله النموذج المتكامل في كل شيء، ذلك أنه ما ترك ميداناً من ميادين الحياة الخيّرة إلا ولجه وضرب فيه أحسن المثل.

إن رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- هو الذي أضاء ليل الظلام الداجي يوم كان العالم يتخبط في متاهات الضلال والحيرة، ويئن من وطأة الظلم والظالمين، يوم كان هذا العالم نهباً مقسّماً لأولئك الذين استطاعوا ببغيهم وعدوانهم وتحت شتى العناوين؛ أن يستعبدوا مَنْ دونهم من البشر، وأن يفرضوا عليهم سلطانهم بلا هوادة ولا رحمة ولا أي تقدير لكرامة الإنسان.

لقد أضاء ذلك الليل، وجلا تلك الظلمات، وأزال هاتيك المظالم، وأطلق الإنسان من إساره، ليكون عبداً لله تعالى وحده، وبهذه العبودية يكون حراً من كل عبودية أخرى لأي إنسان كائناً من كان، وبذلك فقط تكون كرامة الإنسان.

في ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم

(4/5)

لقد كانت ولادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، مفتتح حياة جديدة كريمة للعرب في جزيرتهم، وللناس حيث كانوا، فما كاد النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- يبلغ أربعين عاماً من عمره المبارك، حتى أرسله الله عز وجل بالدين الأخير، دين الإسلام لهداية البشرية كلها، وإخراجها من الظلمات إلى النور. وبدأت عملية الهداية العالمية بأمة العرب، فكانت أعظم وأول نموذج لها، مثّلها أشرف وأتمّ تمثيل.

وإذن؛ فإن لنا أن نقول: لقد ولدت بمولده الشريف عليه أفضل الصلاة والسلام، أمة كانت تتفرق في الصحراء وشعاب الوديان، تتصارع بطونها على عين ماء، أو منبت كلأ، أو ناقة سُرقت، أو بئر معطلة، أو طلل هزيل. نهاية الجود عندها ذبح شاة أو بعير للضيف، وذروة البلاغة بيت من الشعر يرفع قبيلةً أو يحط أخرى، وقمة الفرح أن يظهر فيها شاب نجيب، أو ينبغ فيها شاعر، أو تُرزق مولوداً ذكراً، وغاية الشجاعة أن تغزو قبيلةٌ من القبائل قبيلةً أخرى، فتفوز عليها، وتقتل رجالها، وتسبي نساءها وصغارها، وتغنم أنعامها.

أما عبادتها فكانت عجباً من العجب، لقد عبدت من دون الله تعالى حجارة صنعتها أصناماً بأيديها، ثم عكفت عليها، تحسبها قادرة على جلب نفع، أو دفع ضر، وكان الناس من أبنائها إذا كانوا في سفر؛ بحثوا عن أربع حجارة، اختاروا أحسنها صنماً لعبادته، وجعلوا الثلاثة الأخرى أثافيَّ لطبخ الطعام، وإذا لم يجدوا من الحجارة ما يريدون، جمعوا بعض الرمل على شكل كثيب صغير، ثم حلبوا عليه شيئاً من لبن نياقهم ليتماسك بعض الشيء، فإذا تم لهم من ذلك ما أرادوا طفقوا يطوفون به.

ومن حيث الدولة، لم يكن لهم أي مظهر من مظاهرها، فلا قانون ولا نظام، ولا جيش ولا حدود، ولا مؤسسات ولا حكومة، ولا أي شيء من ذلك، وكانت القبيلة كلَّ شيء في حياتهم. حقاً كانت لهم أوضاع مستقرة لها شكل الدولة إلى حد بعيد لدى المناذرة والغساسنة وفي اليمن، لكنَّ ذلك كله سقط صريع الولاء والتبعية للآخرين بشكل مباشر أو غير مباشر، فاليمن كان يحكمها الفرس حكماً مباشراً بعد أخرجوا منها الأحباش، والغساسنة كانوا تابعين للروم، وإن كان حكَّامهم عرباً، والحال في المناذرة كالغساسنة في تبعيتهم للفرس.

هذه الأمة الشقية البائسة، المنكوبة الضالة، منَّ الله عز وجل عليها بالرسول الكريم محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا بها تتبدل تبدلاً سريعاً وعميقاً وواسعاً، فإذا بها أمّة واحدة متماسكة، لها كتابٌ واحد هو القرآن الكريم، وقِبلةٌ واحدة هي الكعبة المشرفة، وقدوةٌ واحدة هو الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، ودينٌ واحد هو الإسلام، وهدفٌ واحد هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهدايتهم إلى الطريق المستقيم، طلباً لرضوان الله تعالى، فصارت بذلك الأمة الراشدة، الوصيّة على الناس، الغالبة المنصورة، الباسطة لواءها على الأمم الأخرى، لا ظلماً ولا تسلّطاً ولا سرقةً لخيراتها، بل للهداية وللهداية فقط.

وانطلقت كتائب هذه الأمة التي أكرمها الله عز وجل بالإسلام، وحدد لها انتماؤها لهذا الدين؛ ذلك الدور الريادي الضخم، القيادي الكبير، تجوب الدنيا وتنشر كلمة الحق، وتحطم صروح الجاهلية، فإذا بها بعد عهدٍ ليس بالطويل في حياة الأمم والشعوب، تملك رقعة شاسعة من الأرض، تطبّق في هذه الأرض كلها، حكم العدل والمساواة، وتهيئ للناس حتى من غير المؤمنين بعقيدتها، فرصة العيش الحر الآمن الكريم، وإذا بها دولة القوة والمجد، وإذا بها صولة العزة والظفر، وإذا بواحد من حكامها ينظر إلى سحائب غادية، فينظر لها باطمئنان الواثق، وعزة المالك الظافر، وامتنان الشاكر المؤمن: أمطري حيث شئت فإن خراجك لي!..

أليس لنا إذن أن نلمس في مولده الشريف -صلى الله عليه وسلم- مولد حياة جديدة لأمة العرب، نقلتهم نقلة شاسعة واسعة من حياة ضيقة جاهلة محدودة؛ إلى حياة واسعة نيّرة خصيبة، ومن اهتمامات تافهة كئيبة كابية؛ إلى اهتمامات في غاية الضخامة والقوة والرفعة، ثريّة بأكبر الأهداف على الإطلاق.

وهل ثمة في الكون كله، هدف أعظم من هداية الناس، وقيادتهم للحق والنور، وتبصيرهم بطريق سعادتهم في الدنيا والآخرة، والسهر على شعلة الإيمان لتظل حية متوهجة يأوي إليها الناس، ويفيء إليها من أشقاهم ليل الضلال والفساد!؟

إن هذا الهدف الجليل.. إنما اقتنعت به أمة العرب، ونهضت به، وحملت مسؤوليته الكبرى، يوم آمنت بهذا الدين العظيم، ومنحته صادق ولائها، وحملت رسالته للعالمين، فصارت بحق خير أمة أخرجت للناس؛ بعد أن تتلمذت على أكرم خلق الله وأعظمهم، المولود في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، محمد بن عبد الله، عليه أفضل الصلاة والسلام.

في ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم

(5/5)

في قرية صغيرة منعزلة، تقع في وادٍ غير ذي زرع، بعيدة عن مراكز الثقل السياسي والاقتصادي العالمي، ماؤها نزر قليل، وأراضيها سلسلة من الجبال المتداخلة الصمّاء، والوديان الصخرية الجرداء، لا يكاد يُرى فيها طائر ولا شجرة، تمر أحداث العالم بمعزل عنها، ويتصارع الأقوياء والأغنياء والمسيطرون، دون أن يشعروا بها، فضلاً عن أن يهتموا بها، وفضلاً عن أن يحسبوا لها حساباً.. وُلِدَ طفلٌ يتيم.

لا بد أن كثيرين سواه ولدوا في يومه وعامه هنا وهناك. ونشأ هذا الطفل في قريته، وشبَّ هادئاً أميلَ للصمت والعزلة، وعاش فقيراً يسعى لكسب قوته، حتى عمل راعياً للغنم التي يملكها الآخرون من أجل ذلك.

وحين بلغ الأربعين من عمره، غيّر موقفه من المجتمع الذي يعيش فيه، فطفق يخاطبه يريد إصلاحه، بل وإصلاح الناس جميعاً، والبشرية كلها. وسار في طريقه والصعوبات تلاقيه من كل مكان، والعدو كثير، والناصر قليل، ولكنه نجح أعظم النجاح، وما مات حتى دان مجتمعه له، ودانت له أمة عرفت بالتمرد الشموس، والكبرياء التي ليس لها حد، وواصل مَنْ خَلَفَهُ من بعدِه مسيرته، حتى امتدت دعوته إلى أطراف الدنيا جميعها.

لا ريب أن ذلك موضع عجب لا ينتهي، ودهشة لا حد لها، لكنه بالرغم من ذلك العجب وتلك الدهشة حقيقة واقعة، ولولا أنَّ هذه الحقيقة نعيشها كل حين لأباها الناس أشد الإباء، ورفضوها أشد الرفض، وقالوا: إن ما تتحدثون عنه وهم من الأوهام، وخيالات لا رصيد لها من الواقع.

أما القرية فهي مكة المكرمة، وأما اليتيم فهو محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- الذي أكرمه الله عز وجل أيّما إكرام، فبعثه لمّا بلغ من عمره الأربعين ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وليصلح بالإسلام الذي بعث به، الناس جميعاً، ولا عشيرته وأهله الأدنين فحسب.

لا غرابة إذن أن يكون هذا الميلاد المبارك، لذلك الولد اليتيم، في الثاني عشر من شهر ربيع الأول عام (53) قبل الهجرة، الموافق للعاشر من شهر آب عام (570) للميلاد، بداية عهد جديد في تاريخ العرب وتاريخ الإنسان.

فما كاد يمضي على ذلك الميلاد المبارك بضع وستون عاماً من عمر الزمان، حتى انطلقت مواكب الصحابة الكرام، تلاميذ ذلك المولود العظيم عليه الصلاة والسلام، خارجةً من جزيرة العرب، تهدر كالسيل، وتضيء كالنور، لتنشر دين الله تعالى في كل مكان من العالم، وترفع راية التوحيد، وتدعو الناس إلى الإيمان والحق، والعدل والفضيلة، وتقيم المجتمع الصالح، وترسي شامخ بنيانه.

وكان ذلك الميلاد مقدمةَ جيوش الإسلام الكبرى، الزاحفة كما يزحف الليل إلى كل بقعة، لتصرع عروش الظلمة والطغاة والمتألِّهين، ولتقود مواكب الدعاة إلى الله على كل أرض، وفي كل شعب، وكان مقدمةً لمواكب العلماء التي بنت مراكز الثقافة والمعرفة والحضارة في كل مكان، ما بين الأندلس والصين، وعلّمت العقل البشري كيف ينتصر على الخرافة والجهل، والأوهام والضلالات، والشرك والوثنية، وأطلقت عقاله من إسار الجمود والتقليد، وحمت انطلاقته من أن يضيع في التيه، ويسعى فيما لا يقدر عليه ولا يقع في طوقه وإمكانه، وأرشدته كيف يعبد الله على بصيرة وهدى ونور، وأذاعت في الناس دعوة الإسلام، وقيمه الرفيعة، ومثله العظيمة، ومبادئه الخالدة المباركة.

حدث عظيم، قاد مسيرة الحضارة الإنسانية والتقدم، والعلم والابتكار والتجديد، ووضع الدعامة الأولى لانتصار الإنسان المسلم على الجاهلية وقيمها المتخلّفة، وموازينها الضالة، وأخلاقها المنحرفة، وأخذ بيد الإنسانية كلّها إلى ما كانت تتطلع إليه من نور بعد أن أشقاها الظلام، وخير بعد أن كثرت عليها الشرور، وهداية بعد أن تعبت وهي تخبط في الضلال، وأمان بعد أن أرهقتها الفتن، وحرية طال العهد بها بعد أن تسلط الظلم والقسوة والطغيان، ومساواة راشدة كريمة، بعد أن مزّقتها إلى طبقاتٍ التمايزُ المجحف، والتفريق الظلوم.

ولولا أن مَنَّ الله عز وجل بمحمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- لعاشت الإنسانية حتى اليوم في ظلام دامس، وحيرة بالغة، وتيه وضياع، وقلق لا ينتهي، ولظلت ترسف في قيود الوثنية والجهل، والفوضى والتأخر، والهمجية والوحشية، والشقاء المريع.

ولولا ذلكم المَنُّ الرباني الكريم؛ لما أشرق النور النبوي الأكمل والأخير على الأرض، ولما سارت مواكب العلم والتقدم والمعرفة والهداية تشق طريقها إلى كل بقعة في الأرض، ولما قامت حواضر المعرفة والمدنية التي أسدت للناس أحسن الأيادي، في شتى ديار العالم الإسلامي، من المحيط إلى المحيط.

يا أيتها الذكرى الكبيرة الغالية.. سلامٌ عليك بما صنعت للإنسانية والإنسان..

سلامٌ عليك بما قدمت للعالم والشعوب..

سلامٌ عليك بما كان لك من خالد العطاء الذي لا يبلى، والخير الذي لا ينقطع..

سلامٌ عليك في الأولين، وسلامٌ عليك في الآخرين، ولك الخلود والقبول والمجد والثناء في الأرض والسماء.

وسوم: العدد 949