العبرة بالمنظومة وليست بالحالات الفردية

هشام بن عمرو كان يرسل الطعام إلى المحاصرين في شِعب أبي طالب سرا، إذ ضاق صدره بما يلاقون من جوع وضنك أوصلهم إلى أكل أوراق الشجر، وكان مع المُطعم بن عدي ضمن مجموعة همت بتمزيق الصحيفة المعلقة على جدار الكعبة، والتي تتضمن بنود المقاطعة الجائرة. والمطعم كانت له -إضافة إلى ذلك- مواقف مشهودة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، منها إجارته بعد عودته من الطائف ومحاولة المشركين منعه من الدخول إلى مكة، وهو لم يعتنق الإسلام، ولكن ظلت مواقفه محفوظة من سيدنا رسول الله وسائر المسلمين حتى يومنا هذا، والدليل أنني وغيري نستشهد بها، وقد بلغ من تكريمه أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال يوم جيء بأسرى المشركين يوم بدر، لو أن المطعم بن عدي كان حيا وكلمني في هؤلاء لتركتهم له، أي سيخلي سبيلهم لو كان المطعم بن عدي على قيد الحياة، وتوسط لهم عنده، دون فدية ودون عقاب.

هشام والمطعم وغيرهما سخرهم الله -سبحانه وتعالى- بدافع الشهامة أو التعصب لرابطة الدم أو النخوة والمروءة، كي يكونوا حالة شاذة عن منظومة الشرك في مكة، التي توافقت على حرب الدعوة، ومعاداة المسلمين، وإيذاء الرسول الأمين، فلم يشتركوا في الأذى والتعذيب والهجاء والتضييق وكل القائمة التي دأب عليها قومهم وأبناء دينهم ضد القلة المؤمنة، وعليه يظل التقدير والاحترام لمواقفهم تلك.

ولكن هل من العقل والمنطق أن يأتي أحد فيعمم الحالة الخاصة أو الشاذة لأمثال هؤلاء فيقول إن المشركين كانوا لا يؤذون المسلمين ولم يعذبوهم ولم يجوعوهم بدليل فلان وفلان؟ هذا غير وارد عند أي عاقل.

وإن من يريد "الفزلكة" ويدعي الموضوعية؛ يقول نعم كان هناك أبو جهل وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط والوليد بن المغيرة وغيرهم، ولكن أيضا كان هناك المطعم وهشام وفلان الذي ساعد مسلما أو مسلمة في محنتهم في زمن الاضطهاد، محاولا استدعاء مثل "نصف الكأس الفارغ والنصف الملآن"، وهو استدعاء أخرق، فتلك الحالة شاذة وهي لا نصف كأس ولا ربع ولا سدس، بل ربما تكاد تكون قطرات بالكاد تراها العين في الكأس.

العبرة أن مجموع قريش وحلفاءها من المشركين، كانوا في عداء نظري وعملي مع المسلمين، ويكيدون لهم ويمكرون بهم ويسعون إلى إيذائهم حدّ الرغبة، بل السعي إلى إبادتهم أو أن يعودوا إلى الشرك. النظرة السليمة في الحكم تكون إلى المنظومة العامة، لا إلى الحالات الفردية المختلفة عنها أو الرافضة كليا أو جزئيا لأفعالها، مع عدم إهمالها أو نكران فضلها، وهذا ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون.

المهم عند إطلاق حكم على فئة أو مجموعة أو منظومة سياسية واجتماعية أو عقدية هو النظر إلى حالتها العامة السائدة، التي تقرر كيفية التعامل معها، لا أن نجعل الخاص عاما والشاذ قاعدة.

بعد أكثر من 1400 عام على تلك الأحداث في السيرة النبوية العطرة، امتنع بضع و20 طيارا حربيا إسرائيليا عن قصف مواقع مدنية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتمردوا على أوامر قادتهم. ووقتها تم تثمين موقف هؤلاء الطيارين الذين تحلّوا بشيء من الأخلاق من مستويات فلسطينية وعربية وإسلامية عدة، ولكن هل نقول إن "سلاح الجو الإسرائيلي" تمثله هذه المجموعة المتمردة من الطيارين؟ أم هل نحكم -كما فعل بعض المتصهينين- على الكيان العبري وجيشه بأنهم أصحاب أخلاق ورحمة بسبب هذه المواقف؟ هذا هراء.

في تجربتنا مع الاحتلال الصهيوني، واجهنا بعض الحالات في أكثر من موقف تخالف المنظومة الإجرامية، فثمة جنود أو حتى ضباط لم يتعاملوا بسادية وقسوة معنا، وأبدوا نوعا من اللين، ولكنهم لا يمثلون المنظومة (السيستم) الأمنية والعسكرية الإسرائيلية المبنية على العنصرية والإذلال والقتل والترهيب. وأصلا حتى من يبدي اللين وحسن المعاملة يسكن أرضا اغتصبها بوحشية السلاح، وأفضل معاملة أو معروف يسديه أن يرحل عن هذه البلاد.

إن هذا يذكرنا بمقولة تنسب إلى غسان كنفاني:

يسرقون رغيفك ثم يعطونك منه كسرة ثم يأمرونك أن تشكرهم.

يا لوقاحتهم!

وهل يبعد أن يكون بين جنود أو قادة الصليبيين والتتار الذين احتلوا هذه البلاد من كان يتعامل برفق مع الناس أو الأسرى؟ ربما وجدت حالات فردية كهذه، ولكنها نقطة في محيط القتل والسلب والإجرام والتنكيل الذي ميّز تلك الهجمات من هؤلاء. وفي العصر الحديث لو سألت بعض المفرج عنهم من جحيم سجن غوانتانامو لذكروا لك أن ثمة سجانين كانوا يتعاملون معهم برفق، بل ثمة من اعتنق الإسلام من السجانين. ولكن هذا لا يعني أن المنظومة رقيقة وأخلاقية؛ فالسجن نفسه جريمة وحجز السجناء فيه جريمة أكبر، والولايات المتحدة دولة مارست القتل والنهب ودعم الاستبداد في بلاد شتى خاصة بلاد العرب والمسلمين.

لقد ابتلينا بأناس من أبناء جلدتنا، دأبوا على جعل أي تصرف فردي، أو حالة شاذة من أعداء الأمة وكأنها تمثل "السيستم"، وهي العنوان الذي يجب أن ننظر من خلاله، وأن نغفل عن الحالة العامة المعاكسة التي نحسها ونرى آثارها.

فيأتونك بتصريح لكاتب أو فنان أو حتى سياسي أو مجموعة لا تستطيع ربما الحصول على مقعد في برلمان دولة ظالمة، يحمل رفضا لما تقوم به حكوماتهم من ظلم وفساد، ويحاولون الإيحاء أن هذه الفئات القليلة هي المنظومة (السيستم) بطريقة مستفزة لمن يعي حقيقة الأمر بفعل المعاينة المباشرة، ولكنها قد تخدع بعض من لا ينظرون إلا إلى الصورة المجتزأة وينسون الصورة العامة.

وأبناء جلدتنا هؤلاء أنفسهم يعمدون إلى استحضار حالات من التاريخ الإسلامي، أو من حاضر المسلمين وواقعهم، فيها تجاوزات أو مخالفات، ويستخدمون الإيحاء الخبيث بأن هذا حالكم أيها المسلمون، وهذه هي أخلاقكم ومنظومتكم. علما أن الحالة الإسلامية العامة منذ بدء الدعوة حتى الآن يغلب عليها العدل والرحمة، وتجنب الإفساد في الأرض، والحرص على كرامة الإنسان.

ولكن الشمس لا تغطى بغربال وقطرات قليلة لن تشغل الأبصار لفترة طويلة عن الطوفان. والتقرير والحكم والنظرة الواعية السليمة هي لمجمل المنظومة والصورة العامة والحالة الغالبة لأي مجموعة أو دولة أو كيان، وليس إلى حالات فردية.

وسوم: العدد 955