من الحكايات الأُسطوريَّة في جنوب الجزيرة العربيَّة-1

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

(الأصول والهجرات والتلقي: مقاربات مقارنة)

-1-

تسعى هذه الورقة إلى:

1- عرض مقارباتٍ في بعض أصول تراثنا الشَّعبيِّ العَرَبي في جَنوب الجزيرة العَرَبيَّة، وما هاجر منها إلى ثقافاتٍ أخرى، غربًا وشرقًا، مع تقديم بحثٍ تطبيقيٍّ في ذلك، من خلال المأثور القصصيِّ في جبال (فَيْفاء)، جَنوب (المملكة العَرَبيَّة السُّعوديَّة).

2- ليس الهدف استعادة تراثٍ مجهولٍ إلى بيئته الأُولى وأهله فحسب، ولكن أيضًا الإسهام في الدَّرس الأدبيِّ المقارِن، بما تهيِّئه المادَّة المدروسة من إسهامٍ في هذا الميدان.

3- استثمار ما يفتحه الأدب المقارَن- الذي مَرَّ تاريخه منذ القرن التاسع عشر بمدارس وتطوُّرات، من المدرسة الفرنسيَّة إلى المدرسة الأميركيَّة فالمدرسة السُّلافيَّة- من آفاق للتعرُّف على الذات والآخَر، ولسَبر العلاقات الثقافيَّة الإنسانيَّة بين شعوب العالم، متخطِّـيًا بمنهاجه الحدود اللغويَّة والعِرقيَّة، فضلًا عن الحدود الجغرافيَّة والتاريخيَّة.

4- السَّفَر في رحلةٍ إنسانيَّةٍ، تكسر الفواصل المصطنعة بين بني الإنسان في تجاربهم على هذه الأرض، تنضاف قيمتُها الثقافيَّة والجماليَّة إلى قيمة أدواتها النقديَّة، الأنجع في تناول مادَّةٍ كمادَّة هذا الموضوع.    

-2-

إنَّ الأساطير، وشِبْه الأساطير، كثيرةٌ في جنوب الجزيرة العَرَبيَّة، ومنها جبال (فَيْفاء). ويمكن تقسيم أنواعها إلى أربع فئات:

ب. أساطير حول بعض الحيوانات، مثل: أساطير حول حيوانٍ يسمُّونه: (خُفّ بالرُّبع).

ج. أساطير حول أماكن، مثل: (أُسطورة شَطِّ اِمْصَبايا/ الصَّبايا).

د. آثار أُسطوريَّة لُغويَّة، كتلك الكامنة حول تسمية الضَّباب بـ"عَماية".

لكنني سأركِّز القول حول أُسطورتَين طويلتَين، بحثتُ علاقاتهما الإنسانيَّة العالميَّة، ودرستُ أصولهما وتفرعاتهما.

وكنتُ قد نشرتُ مادَّةً حول هذا، عام (2008)، في بحثٍ لي تحت عنوان "بين أُسطورة امْحَمْ عُقَيْسْتَاء في جبال فَيْفاء وأُسطورتَي كَلْكَامش وأوديسيوس Odysseus"(1)، في العدد الثالث من (مجلَّة "الخِطاب الثقافي"، جامعة المَلِك سعود، الرياض)، فلَقِيَتْ تلك المادَّة أصداء مشجِّعة. وتواصلَ معي بعدها (المسرحيُّ ياسر المدخلي)، مستأذنًا لصياغة تلك الحكاية الأُسطورية في مسرحيَّة، واطَّلعتُ على عمله ورقيًّا، وإنْ كنتُ لم أشاهده منفَّذًا على خشبة المسرح. وكُتِبت عن الدراسة بعض المراجعات المنشورة. ثمَّ أعددتُ ذلك العمل مع نصٍّ آخَر ليضمُّهما كتابي، بعنوان "هِجرات الأساطير: من المأثورات الشَّعبيَّة في جبال فَيْفاء إلى كلكامش، أوديسيوس، سندريلا (مقاربات تطبيقيَّة في الأدب المقارن)"، (نشره: كرسي الأدب السعودي- جامعة المَلِك سعود، 2015). والنصُّ الآخَر، الذي تضمَّنه الكتاب، هو حكايةٌ أُسطوريَّةٌ تُعْرَف في جبال (فَيْفاء) بحكاية «مَيَّة ومَجَادَة». وتبدو تلك الحكايةُ هي الأصل الأصيل لما أصبح يُعْرَف عالميًّا بأُقصوصة "سندريلا"، التي اتَّخذَتْ صِيَغًا عالميَّة متنوِّعة، وبلُغاتٍ شتَّى.

والحقُّ أنَّ مِن هذا التراث الشَّعبيِّ المنسيِّ الكثيرَ ممَّا لعلِّي أفرُغ لجمع بعضه وتحقيقه ونشره يومًا. وهو تراثٌ نستخفُّ به عادةً، حتى ينبِّهنا الآخَرُ (الغربيُّ) إلى جماليَّاته، أو إلى دِلالاته، أو إلى قِيَمه الإنسانيَّة. والأنكَى أن ننام عليه حتى نَجِد الآخَر نفسَه قد سطا عليه، أو قُل: "أفاد منه"؛ بعيدًا عن حُكمٍ في شأنٍ ما فتئ محلَّ التَّحَرِّي والبحث.

لم يسبق أن عَرَض دارسٌ قبلي لتلك المواد بالدراسة، من قريبٍ أو بعيد، وإنْ حظيتْ نظائرها- أو ربما صحَّ القول: نُسَخُها المستنسخة في الثقافات الأخرى- بالدراسات الكثيرة عالميَّا. وأحسب أنَّ في عملنا سعيًا إلى تقديم حلقاتٍ مفقودةٍ في تلك الدراسات، التي ظلَّت تجهل- أو تتجاهل- التراث في (شِبه الجزيرة العَرَبيَّة)، موطنِ الإنسان الأوَّل، ومرتعِ الآباء الأُوَل للحضارات البَشريَّة.

وكما حاولتُ في المبحث الأوَّل من الكتاب المذكور استقراء نظائر النصِّ الشَّعبيَّة في الثقافات الأخرى، حاولتُ في المبحث الآخَر استقراء نظائر النصِّ الشَّعبيَّة في الثقافات الأخرى. فألفيتُ منها ما لم يكن في الحسبان من النصوص، من أقطار العالم كلِّه تقريبًا، وعملتُ على ترجمة أهمِّها، أو ترجمة ملخَّصات منها. وقد بدا، في غضون ذلك، أنَّ من المفيد إثباتَ بعض النصوص بلغاتها، مع ترجمتها إلى العَرَبيَّة، كما كنتُ قد ترجمتُ النصَّين القصصيَّين المشار إليهما إلى اللغة الإنجليزيَّة، في (الملحق) بنهاية الكتاب.

-3-

ولعلَّه يحسُن التوقُّف أمام مصطلح (أُسطورة Legend) المستعمل في هذا الموضوع، لما يكتنفه من لبسٍ وتداخلٍ في التداول العام. وأكثر أنواع النصوص تلابسًا مع الأُسطورة: (الخُرافة). ويُمكن التفريق بين مفهوم الأُسطورة والخُرافة، بالنظر إلى المقوِّمات الخاصَّة بكلِّ نوع. وهذا ما سنفصل مناقشته في مقالنا التالي.(2)

_____________

(1) (2008)، مجلَّة «الخِطاب الثقافي»، ع3، (جامعة الملك سعود، الرياض)، ص ص131- 156.  

(2) هذا المقال جزء أوَّل من ورقة بحثٍ حِواريَّةٍ قُدِّمت في (نادي جازان الأدبي)، مساء الأربعاء 3 مارس 2021. للمشاهدة على موقع "اليوتيوب": https://bit.ly/3j1diLd

وسوم: العدد 955