أدب وسياسة 980

في صحيح الامام مسلم رحمه الله تعالى، من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي هذا :

"اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا، فشق عليهم، فاشقق عليه. ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به."

وكثيرا ما نتداول هذا الحديث، ونوقعه في مخيالنا على الطواغيت الكبار، نتوعدهم به، ونتشفى به في الدعاء عليهم، وكأنهم هم وحدهم هم المعنيون بالحديث بشارة، والمهددون به ندارة. ولفظ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمع وأوسع.

فقوله صلى الله عليه وسلم: من ولي من أمر أمتي "شيئا" وقف معي عند لفظ "شيئا" منكرة تنكير تصغير وتحقير، تجد أن الوعد والوعيد يشملان حتى البواب على باب الطبيب، أحدهم يرفق في الناس والآخر يشق عليهم!! فيصيبه من وعد هذا الدعاء أو وعيده.

ومن حكاية البواب صاحب الولاية المحدودة المغموصة، ترتقي في عالم الولايات حتى لا تكاد تستثني صاحب ولاية، الزوج بالدرجة التي له على زوجه، يرفق بها فينال بركة دعوة رسول الله أن يرفق الله به، أو يشق عليها فيتهدده الوعيد؛ أن يشق الله عليه. هذه قاعدة فقهية مقررة أن الغنم بالغرم.

المدير مع موظفيه، يرفق بهم أو يشق عليهم، الأب مع أبنائه يرفق بهم في طلب بره أو يشق عليهم، وبعض الآباء لا يعجبه العجب ولا الصوم في رجب. سائق الحافلة أو حادي القافلة، قال "رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير" هذا نص من صلب الموضوع الذي نتحدث فيه.

في كل أمر صغير وكبير، ثمة ولاية صغرى أو كبرى، كلها مشمول أصحابها بدعاء النبي الكريم. الدعاء للرفيق بالرفق، والدعاء بصاحب المشقة بما يستحق.

أسير معكم الهوينى حتى آتي بكم إلى أمر صاحب المنبر والعرندس و والرقعة في الفتوى أو الصفحة في الكتاب فتدعون معي اللهم من رفق بالمسلمين فارفق به، ومن شق عليهم فاشقق عليه.

وقالوا فيه، ولو كان من أمره أنه يحب الأخذ بالعزيمة في أمر، فيلتزمها في نفسه أو في أهله ، ولكن لا يحمل الناس عليها حملا أبدا، ولا يحق له ذلك، بل يضعهم في السعة التي جاءت بها الشريعة، ولا بأس إن زين لهم أمر العزيمة من غير إلزام.

وكان أولو الفقه "المعرفة والعرفان" منهم، إذا سئلوا عن مسألة فيه قول أقل مؤنة على المستفتي، وهم لا يرونه، قالوا للمستفتي على سبيل الرحمة والرفق به، لو أتيت فلانا فسألته، لعلك تجد عنده جواب مسألتك.. يقلدون أمر الرفق صاحبَه فيشركونه في بركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يحملون مستفتيهم، على الأصعب من الأقوال ولو ظنوه وحسبوه.

الفرق الأكبر بين المفتي والقاضي، وكثيرا ما أغفله الذين تحدثوا عن هذه الفروق، أن أمر المفتي يقوم على الرفق، وأمر القاضي يقوم على الحزم. وحسبكم بحكاية قاضي البصرة من تمثيل حال.

من واجب المفتي أن يعود تقاطيع وجهه على الراحة لا على الانقباض، وشفتيه على البسمة لا على البَرَمِ بالناس، وأن تجتمع في سمائه الداخلية سحب الرضا، لا سحب النقمة والسخط..

والمفتي الذي يسد على الناس أبواب الرفق تحت عنوان سد الذرائع المبالغ فيه، هو من الذين ولوا من أمر المسلمين فشقوا عليهم، وليس فقط الطواغيت من أعداء الله.

المفتي في حقيقة موقعه مستشار: وهو مؤتمن. وقولهم القديم: مذهب العامي المستفتي مذهب مفتيه قد تجاوزه الزمان، يسأله فيجيبه على نية الرفق به، في أمرك هذا ثلاثة أقوال؛ ثم يفصل بما يحتمله المقام، ثم يخيره فيما يريد أن يختار.

وحمل الناس على الصعب، ليس من الفقه ولا من العقل ولا من واقع الحياة.

وما خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما. وفي أكثر من رواية عن سيدنا رسول الله لولا أن أشق على أمتي…

صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله كم خفت علينا المشقة، وما خافوا علينا الغرق!!

وأهم هذه الأحاديث ، لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية، لا أجد سعة فأحملهم، ولا تطيب نفوسهم في التخلف عني…الحديث

يسروا ولا تعسروا.. بشروا ولا تنفروا..

هذا هو منهجنا ونعوذ بك من منهج أهل التكفير والتنفير والتكشير…

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 980